ولد الفيلسوف الأمريكي رالف والدو أمرسون سنة 1803 في مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية وكان يكتب مقالات مستفيضة وينظم شعراً رائعاً رائقاً تشوبه مشحة من غموض وتميزه لمسة من تصوف. وما زالت كتاباته منبع إلهام ثر للطامحين إلى المثل العليا النبيلة والسلوك القويم السليم.
كانت فلسفته تتمحور حول الاعتماد على الذات والحرية الفردية سواء في الحياة الفكرية أو الدينية. وهذه المثل التي وضعها أمام الشباب في بلاده وجدت تجسيدا كاملا في شخصية أمرسون نفسه. وفي الأبيات الأخيرة من مقالته الملهمة (الإعتماد على الذات) نجد خلاصة مذهبه وأفكاره حيث يقول مخاطباً الشباب:
’استخدموا إرادتكم واعملوا بجد وعزيمة للحصول على ما تسعون إليه، وبذلك تضعون العراقيل أمام عجلة الفشل فتأمَنون من دورانها حولكم والتفافها عليكم. ما من شيء يمكن أن يجلب لكم السلام سوى أنفسكم. وما من شيء يمكن أن يمنحكم الطمأنينة وراحة الضمير غير انتصار مبادئكم.‘
دخل أمرسون جامعة هارفارد عندما كان في الرابعة عشرة من عمره وتخرج منها بعد أربع سنين. بعد مغادرته الجامعة علـّم في المدارس ودرّس اللاهوت. في عام 1829 تمت رسامته كأستاذ دين في المذهب التوحيدي (يونيتيريان Unitarian).
كان ذا ميول روحية قوية وعميقة لكنه لم يكن ملتزما بالطقوس الكنسية التقليدية. وفي عام 1832 ترك نشاطه الديني ورسم لذاته نهجاً جديداً ككاتب ومحاضر.
في العام 1833 قام بأولى زياراته إلى أوروبا حيث التقى هناك بالفلاسفة والشعراء الأوروبيين من أمثال لاندور وكولريدج ووردزورث وكارليل الذي عقد معه صداقة وثيقة دامت مدى الحياة.
في عام 1835 تزوج وانتقل إلى كونكورد حيث عاش بقية حياته قريباً من جيرانه الذين أصبحوا فيما بعد من مشاهير النهضة الأدبية في أمريكا مثل أسرة ألكوت وهاثورن وتلميذه الفيلسوف الكبير ثورو Thoreau
في نفس السنة شرع بإلقاء سلسلة محاضرات أدبية وفسلفية في بوسطن استمرت حتى عام 1837، وهي نفس السنة التي ألقى فيها خطبته الشهيرة (العلاّمة الأمريكي The American Scholar) التي وصفها أكبر أدباء أمريكا آنذاك أوليفر وندل هولمسOliver Wendell Holmes بأنها إعلان استقلال العقل الأمريكي.
في عام 1836 نشر كتابه الأول بعنوان (الطبيعة Nature) الذي يلخّص أكثر من أي كتاب آخر من كتبه نظراته وقناعاته بحرية الشخص الفردية التي اعتبرها قدس الأقداس.
أما سلسلة محاضراته فقد اشتملت على موضوعات رائعة مثل (الإعتماد على الذاتSelf-Reliance ) و (التعويض Compensation ) و الذات العليا The Oversoul.
في عام 1844 نشر سلسلة ثانية من المحاضرات. وخلال هذه الفترة ارتبط مع مجموعة من الأدباء في نيو إنغلاند عرفوا بأصحاب مذهب التسامي Transcendentalists وقام لفترة وجيزة بتحرير صحيفتهم (The Dial).
في العام 1847 نشر أول ديوان شعر له وزار أوروبا ثانية حيث ألقى سلسلة من المحاضرات وألف كتابه الرائع (خاصيات الشعب الإنكليزي). ومن كتاباته النثرية الأخرى (سلوك الحياة The Conduct of Life) و(المجتمع والعزلة Society and Solitude).
ظل يكتب ويحاضر حتى العام 1870 حيث أخذت صحته بالتدهور، وقد أمضى آخر سنيه بهدوء وسكينة في كونكورد، ودفن في مقبرة (Sleepy Hollow) الجميلة بالقرب من ضريح ناثانيال هاثورن Nathaniel Hawthorn.
كانت كتابات أمرسون أصيلة ومميزة بفضل سمو الأفكار والتطلعات البعيدة التي حوتها تلك الكتابات. وما زالت آراؤه عميقة التأثير على كل محبي التفكير العميق والجاد. أما أشعاره فهي شبيهة بمقالاته من حيث العمق والرصانة والنظرة التأملية. ومع أنها لم تنل الشهرة التي نالتها أشعار لونغفلو أو ويتمَن، لكنها تحتوي على مقطوعات تعتبر من قمم الأدب الأمريكي.
احتفظ أمرسون بمثله العليا وشجاعته وحريته حتى آخر أيام حياته، فعاش طبقاً للمبادئ التي نادى بها ومات على تلك المبادئ السامية فاستحق التكريم والتخليد كأحد أعظم الفلاسفة والأدباء الأمريكيين على الإطلاق.