عن 'السفر داخل المنافي البعيدة' للأب يوسف سعيد: الرجولة فقدت مدينة العقل!
كاتب الموضوع
رسالة
Dr.Hannani Maya المشرف العام
الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 60486مزاجي : تاريخ التسجيل : 21/09/2009الابراج : العمل/الترفيه : الأنترنيت والرياضة والكتابة والمطالعة
موضوع: عن 'السفر داخل المنافي البعيدة' للأب يوسف سعيد: الرجولة فقدت مدينة العقل! الإثنين 20 فبراير 2012 - 4:27
عن 'السفر داخل المنافي البعيدة' للأب يوسف سعيد: الرجولة فقدت مدينة العقل! أحمد محمّد أمين
2012-02-19
نبرتُه كهنوتية ٌ صوفية ، تجري في دروب الحداثة. نثرُه يُضاهي شعرَه ، بل يعلوعليه . التقيتُه مرّة ً واحدة وكنا كحالمين . أو لمّا نزلْ في حقل أحلامنا . مريضاً ذابلاً كان ، لم اُطِلْ مكثي معه . برفقة امرأة كان ، أعرفُها . هي التي دلّتني عليه وعرّفتني به . على الرغم من أنّه أمضى ردحاً من السنوات في مدينتي كركوك . فما تحدّثنا في الأدب . تركتُهما ومضيتُ لأجلس بعيداً أقرأ في احدى الصحف العربية التي تصل الى مكتبة ييرفيللا . نعم قرأتُ شذرات من شعره هنا وهناك ، لكني نسيتُها . وحينَ نُشرَ خبرُ وفاته تألمتُ ، فهو علامة ٌ بارقة في الحداثة الشعرية ، سابق زمنه برغم كهنوتيته الصارمة . لقد ظلمه النقدُ العربي مثلما بخس حقّ الكثيرين من أمثاله . قلتُ مرّة ، وقال كثيرون مثلي : انّ نقادنا يلهثون وراء الحيتان الكبيرة والأسماء التي تمتلكُ كلّ شيء ما عدا الآبداع . وعنّ لي أنْ أكتبَ عنه ، وأنا لا أملك ديواناً من دواوينه .لكنّ صديقاً على صلة وثيقة به أمدّني بديوان له / السفرُ داخل المنافي البعيدة / من منشورات الجمل 1993 . وقصائدُه محصورة بين مقدمة طويلة له بعنوان : الطفولة ، وملحقة للشاعر العراقي فاضل العزواي. مقدمة ُ ألأب يوسف بغنائيتها الصادمة ولغتها المبتكرة المُكثفة وايقاعها الصوفي ترقى الى ما فوق الشعر . والصورُ فيها مستقدمة ٌ ممّا وراء الممكن والمُحال . مبتدئة ً بهذه العبارة : / يرمشون في الأرض أقدامَ حدقاتهم المُسوّرة بحُلم من ذوائب العسل الوردي / .. ومُنتهية ً ب / حيثُ الشِعابُ ملتهبة ٌ بتيارات الصواعق ، مُكتنزة ً أشعة ً صافية تُغدِقُها على برزخ العقل / .. وما بين العبارتين الناريتين صواعقُ ورعودٌ وطوفان هذيان واشارات برقية مأهولة بغرائبية لا تنتمي الى زماننا . مثل : فوق الحاجب الضاحك / يُطعّمون عواميدَها وقراميدها بذهب الجَنّة / من وجع اللحم المُتقشف / مُسحاءُ الليل يُطاردون شبحاً / من ظلّ الرموش ..... ينتشلُ رجلٌ قميصَ وردته / أيّها الوعلُ الوديعُ أنتَ تحفظ ُ أسرارنا / استيقظ ُ في ظهيرة النخيل / أزمنة ٌ تشيخُ بمادة البياض / أحرثُ وجهَك بطاقاتِ مللي / دجلة ُ مع سرادقه البيضاء ينامُ في سفوحي / الحمامة ُ تتآكلُ في طيرانها / أحملُ أوسمة هذياني / الخ......الخ ... ثمّ.... ما بين المُقدمة والمُلحقة احدى وعشرون قصيدة . تتفاوتُ طولاً وثيمة ، بعضُها حكاياتٌ اثيرية ذاتية تتحَلّقُ آنا في جدلية متماهية ، وآناً آخرَغنائية مضبّبة عصيّة لاتفتح سرّها لكلّ أحد . وكلُّ عنوان مُنطوٍ على عوالمه المعقولة واللامعقولة التي تبدو لقارئها شططاً ، جنوناً ، خرفاً ،هذياناً ، حكمة َ بَرَد تدقُّ يوافيخنا بوخزات توقظُ احاسيسَنا المُتراخية المُتبلدة من الترهل والخمول .وربّتما لا أذهبُ بعيداً إنْ قلتُ : بعضُ قصائده قصصٌ قصيرة يتوفّرُ لها شرطُها الفني . بكثافتها الصورية ودوالها المُعبّرة / قصائدُ الى قرية شبعين / على سبيل المثال . ص 17 ففيها ايقاع ٌ قصصيّ واضح / ويرحلُ المطرُ حاملاً مخاضَ البحر الى أدراجه ، بالعاً جرثومة توحّمه ، ثمّ يُسافرُ في البعيد البعيد / كما انّ بعضَ شعره يتمرّغ في الغموض ، مُنغلق ٌ ومنطوٍ على ذاته ، يصعبُ التغلغلُ فيه وملامسة ُسرّه وسحره / قصيدة : اسطيفانوس راعي المائدة المُتنقلة / نموذجاً .ص25-27 : افرشوا رموشَ أعينكم لأزمنة المحبّة / يا قدحاً مثلَ الضلوع / انّ الفريسة مُعلقة ٌ على باب الجلاوزة الصغار / نلبسُ ثيابَ العطش / أرى جدرانَ شمس هزيلة / فهذه الاشراقات المبهمة المُلغزة المتماهية في الإيجاز كما لو كانت ايماضات ترشق رموشَ الرائي مُتخمة ٌ بحدوس رؤيوية مأزومة بغنائية جافة عاتمة لا تُشبهُ الشعر ، بل هي محضُ ضربات خاطفة تظهر وتختفي كلمح البصر .
أمّا / الظهيرة / ص 28 فقصة ٌ قصيرة جداً ، توفّر لها كيانُها وموحياتُها وتناصّها ، شحيحة ٌ كلماتُها ، ثريّة ٌ ومُمتلئة مُحتوىً : / انطفأتْ سماءُ الظهيرة في أحداق جوعهم ، وغارت قامة ُالأرضُ في أحلامهم ، يحملون ماءَ الجشع ، تكوّرت شهوتُهم كالتل المنفوخ بحجارة أثرية / انها مشهدٌ قصّ يُمكنُ تأويله وتضخيمه ومدّه بتفصيلات اُخرى اذا اقتضتِ الحاجة / لكنّ يوسف سعيد آثرَ الإيجاز كما لو كان صائغَ ذهب يقتصدُ في ضرباته . وفي / ينابيع / ص 29 زمنٌ سُرياليّ متشابك يجيءُ طبقة ً فطبقة ً، تُنتقلُ من واحدة الى اخرى . وتحوّلٌ صوري يتتالى بسمفونية رقراقة . ليّنة وقاسية في آنٍ / الرجولة ُ فقدتْ مدينة َالعقل / باعتْ من دسم الضمير / ستموتُ ويبقى ظلُّ إزارك وارفاً / وفي / زبَدٌ مُنتشلٌ من رصانة العقل / ص 30 تمرّ الصورُ أمام الباصرة جزافية غرائبية جارفة ، غريبة وصديقة ، قريبة وبعيدة . عالية ودانية في آن / أحتسي من خرير السواقي / الكأسُ تحملُ أحشاء الذبيحة / .... بينما تذهبُ / الهزيعُ الأخير / ص 32 الى منعطف غريب يغرفُ جرأتَه من صوت يخدشُ الفكرَ المأهول بالواقعية ، مشوبٍ بحوار هاديء / أترفضُ؟ / لا، لا / حتى لو كان آتيكَ / رماداً ، ذهباً ، جلجلة ً ، خبزاً وخلّاً / .. اوتادٌ لها رحم ٌ مُطأطيءُ اللون / عيناها كحُريّة صدئة / اليست هذه وخزاتٍ توقظ حياءنا وخجلنا النائمين ، وتستفزّنا لنتأملَ ونعتمدَ الفكر ؟ ولنسمعْ هذه العبارات .. ص 34 / تعالي مع الألوان / سنونٌ أسيرة في حدقة لامرئية / أنا من الشيء اللامنقسم على ذاته / ابتلعُ رُعبي الجائعَ / اندسُ في لحاف الحُلم / يُقمّطُ يديه بدفءِ الضحكة / ولا أظنّ أحداً قبل يوسف سعيد أو بعده سيجرؤ على قول مثل ما قاله . فهذه الصورُ حداثية غيرُ مطروقة ولا تمُرّنَ ببال أحد . ومثلُ ذلك : يشربُ حداثة الماء / ويرتدي تراث البحر / ص 45 . وبقية القصائد من ص46 الى ص60 تزدحمُ بهذه الشطحات الخاطفة المأهولة بصور وايماءات لا قبلَ لنا بها . تُباغتنا بالذهول ، فنُصغي اليها بعقل ٍمنفتح وصبرٍ فيه مرونة ٌوتأمل : / لماذا تُلبسُ شيخوخة َعمي سروالَ الغروب ؟ / .. حبذا لو كانتْ يدي ميناءً لرغباتكم ص 50- 51 / الآبادُ تعيشُ في صيام الصخور / كلماتٌ لها قصبة ٌ ظلُّها رقيقٌ / .. ص 52-53 / للصمتِ كثافة ٌ .. ص56 / أيّها الشعرُ ما أطيبَ ذاتي وهي تتأمل حلمَ الأطفال ؛؛ ص 54 / معذرة ً، لو كنتُ على قدر من الوعي النقدي لأعطيتُ هذا الديوان حقّه الذي يستحقُ ، ولم أكنْ حين كتبتُ هذا الإنطباع سوى عابر خجول ، قلتُ ما رأتْ عيناي ، وما حفظتُه ذاكرتي . السفرُ داخل المنافي البعيدة / في حاجة الى نقد ذي رؤية أكاديمية حصيفة تنغمسُ وتخوض في كل اشعاره ويقوّمُها وفق طرح علمي نزيه . هذا الأبُ الجليلُ باقٍ في شُرفات أيامنا انساناً وشاعراً وروحانيّاً كان يلامسُ احبتَه بحنان أبوي كله رضا وتسامحٌ ودعوة الى التلاحم والتأخي .
عن 'السفر داخل المنافي البعيدة' للأب يوسف سعيد: الرجولة فقدت مدينة العقل!