عظة المطران بطرس مراياتي، رئيس أساقفة حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك أمام طفل المغارة في كنيسة الصليب المقدَّس بحلبحلب, 6 يناير 2013 (زينيت - ZENIT.org) - نحتفل بعيد الميلاد، في هذا العام، على نحو ما يجب أن يُحتفَل به: تقشُّف وبَساطة، وزهد وحرمان... هذا ما فرضته علينا الظروف المأسويَّة التي نعيشها، من جرّاء العنف والاقتتال والدمار وتدهور الحياة المعيشيَّة ونقص الموادّ التموينيَّة وفقدان الأمن والأمان...
عيدنا أصبح بلا فرح، وتلاشت الابتسامة عن شفاه الأطفال، وساد الظلام حولنا، كما في ليلة الميلاد، في انتظار إشراقة شمس الخلاص.
ولعلّ هذه إشارة منه تعالى، كيما نبتعد، في هذا العيد المبارَك، عن مظاهر البذخ والترف، والسهر والابتذال. كما يذكّرنا بذلك بولس الرسول في رسالته إلى تلميذه طيطُس: "فقد ظهرتْ نِعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع الناس، وهي تعلّمنا أن ننبذ الكفر وشهوات الدُنيا لنعيش في هذا الدهر برزانة وعدل وتقوى" (2/11).
إنّه عيد ميلاد يسوع الحقيقيّ. فيه نشاركه أنواع الحرمان كلّها، إذ "لم يكن له موضع في المضافة"، ووُلد في "مغارة"، وأُضجع في "مذود"، وعانى البرد القارس والظلام الدامس والجوع الضارس، بلا تدفئة وبلا نُور وبلا طعام...
ولم ينقذه ويشفق عليه، في عتمات الليل، سوى رعاة كانوا "يبيتون في البرّيَّة، يتناوبون السهر في الليل على رعيّتهم. فحضرهم ملاك الربّ وأشرق مجد الربّ حولهم، فخافوا خوفاً شديداً. فقال لهم الملاك: "لا تخافوا، ها إنّي أبشّركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كلّه: وُلد لكم اليوم مخلِّص في مدينة داود، وهو المسيح الربّ. وإليكم هذه العلامة: ستجدون طفلاً مقمَّطاً مضجَعاً في مذود"... وجاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجَعاً في مذود" (لوقا 2/8-17).
في هذا المساء، نحن أيضاً، نسرع إلى المغارة مع الرعاة ونسجد للطفل الإلهيّ، ثمّ نفتح له قلوبنا، ونشاركه همومنا، ونسأله أن ينقذنا من واقعنا الأليم، لأنّه هو المخلِّص، "المسيح الربّ"، كما قال عنه الملاك.
وحالنا يشبه حال الرُسُل يوم كانوا يعبرون إلى الشاطئ المقابل، حين هبّت عاصفة شديدة، وأخذت الأمواج تندفع على السفينة حتّى كادت تمتلئ. وكان يسوع في مؤخّرها نائماً على وسادة، فأيقظوه وقالوا له: "يا معلّم، أما تبالي أنّنا نهلك؟" فاستيقظ وزجر الريح والبحر... فسكنت الريح وحدث هدوء تامّ. ثمّ قال لهم: "ما لكم خائفين هذا الخوف؟ أإلى الآن لا إيمان لكم؟" (راجع مرقُس 4/35-41).
في هذا المساء نجثو، نحن أيضاً، أمام الطفل يسوع، ونرفع إليه شكوانا، ونقول له:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا بلا خبز؟
ويجيبنا يسوع:
- "أنا خبز الحياة. مَن يُقبل إليّ فلن يجوع"... (يوحنّا 6/35).
"أنا الخبز الحيّ الذي نزل من السماء. مَن يأكل من هذا الخبز يحيَ للأبد" (يوحنّا 6/51).
- "يا ربّ، أعطنا هذا الخبز دائماً أبداً" (يوحنّا 6/34).
- "الخبز الذي سأعطيه أنا هو جسدي أبذله ليحيا العالَم" (يوحنّا 6/51).
أما قرأتم في الكتاب: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان؟" (متّى 4/4).
"انظروا إلى طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن في الأهراء وأبوكم السماويّ يرزقها. أفلستم أنتم أثمن منها كثيراً؟" (متّى 6/26). ألم تتعلّموا أن تصلّوا: "أعطنا خبزنا كفاف يومنا؟" (لوقا 11/3). الخبز اليوميّ لن ينقصكم إذا كنتم قنوعين صابرين.
"لا تعملوا للطعام الذي يفنى، بل اعملوا للطعام الذي يبقى فيصير حياة أبديَّة" (يوحنّا 6/27).
"طُوبى لكم أيّها الجائعون الآن، فسوف تُشبَعون" (لوقا 6/21).
حينئذٍ، نقول له:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا بلا ماء؟
فيجيبنا يسوع:
- "أنا الماء الحيّ". "كلّ مَن يشرب من الماء (الطبيعيّ) يعطش ثانيةً، وأمّا الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا إيّاه فلن يعطش أبداً، بل الماء الذي أعطيه إيّاه يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبديَّة" (يوحنّا 4/10-14).
- يا ربّ، أعطنا هذا الماء، لكي لا نعطش! (يوحنّا 4/15).
- يا بنيّ، مَن فَلَقَ الصخرة في الصحراء فأخرجت ماءً عذباً يروي العطاش، هيّن عليه أن يُمطر عليكم من جوده غيثاً وبرداً ويفجّر الينابيع ماء سلسبيلاً (راجع خروج 17/4-7).
لا تقلقوا، لن أترككم عطشى.
"فلا تهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ فهذا كلّه يسعى إليه الوثنيّون، وأبوكم السماويّ يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذا كلّه. فاطلبوا أوّلاً ملكوته وبِرّه تزادوا هذا كلّه. لا يهمّكم أمر الغد، فالغد يهتمّ بنَفْسه. ولكلّ يوم من العناء ما يكفيه" (متّى 6/31-34).
حينئذٍ، نقول له:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا بلا نُور ولا كهرباء، وأنّنا نعيش في الظلام؟
فيجيبنا يسوع:
- "أنا نُور العالَم. مَن يتبعني لا يمشِ في الظلام، بل يكون له نُور الحياة" (يوحنّا 8/12).
"آمنوا بالنُور، ما دام لكم النُور لتصيروا أبناء النُور" (يوحنّا 12/36).
لا تخافوا، إنّ الظلام لن يقوى على النُور الذي فيكم. "لأنّ النُور يشرق في الظلمات ولا تدركه الظلمات" (يوحنّا 1/5). ويوقد السراج ويوضع على المنارة، "فيضيء لجميع الذين في البيت" (متّى 5/15).
فمنذ أن "خلق الله النُور وفصل بينه وبين الظلام" (تكوين 1/4)، ما زال حتّى اليوم "يُطلع شمسه على الأشرار والأخيار" (متّى 5/45). ولا يحقّ لأيّ إنسان أن يحجب عنكم ضوء الشمس في النهار وضوء القمر في الليل (راجع المزمور 121/6).
"أنتم نُور العالَم... هكذا فليُضئْ نُوركم للناس، ليروا أعمالكم الصالحة، فيمجّدوا أباكم الذي في السموات" (متّى 5/14-16).
ونقول:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا فقدنا السلام وساد العنف والدمار؟
ويجيبنا يسوع:
- "السلام أستودعكم وسلامي أعطيكم. لا أعطي أنا كما يعطي العالَم. فلا تضطربْ قلوبكم ولا تفزع" (يوحنّا 14/27).
"طُوبى للساعين إلى السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعون" (متّى 5/9).
"ولْيُسالِمْ بعضكم بعضاً" (مرقُس 9/50).
ألا تسمعون في سكون هذا الليل ما تردّده أجواق الملائكة: "المجد لله في العُلى! وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرّة"؟ (لوقا 2/14).
جئتكم رسول سلام لأسدّد خطاكم "لسبيل السلام" (لوقا 1/79). كما قال عنّي الأنبياء: "لأنّه قد وُلد لنا ولد، أُعطي لنا ابن، فصارت الرئاسة على كتفه، ودُعي اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً جبّاراً، أبا الأبد، رئيس السلام" (أشعيا 9/5).
فهنيئاً لكم إذا أحببتم الحقّ والسلام "لأنّ الرحمة والحقّ يتلاقيان، والبِرّ والسلام يتعانقان" (مزمور 85/11).
صالحوا بعضكم بعضاً (متّى 5/24).
"فإن تغفروا للناس زلاّتهم يغفر لكم أبوكم السماويّ، وإن لم تغفروا للناس لا يغفر لكم أبوكم زلاّتكم" (متّى 6/14-15).
ونتابع شكوانا ونقول:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا فقدنا الراحة والهدوء والطمأنينة؟
فيجيبنا يسوع:
- "تعالَوا إليّ جميعاً، أيّها المرهَقون المثقَلون، وأنا أريحكم. احملوا نِيري وتتلمذوا لي، فإنّي وديع متواضع القلب، تجدوا الراحة لنفوسكم. لأنّ نِيري لطيف وحِمْلي خفيف" (متّى 11/28-30).
"أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني" (يوحنّا 10/14).
فأنا راعيكم، ولن يعوزكم شيء. في مراعٍ نضرة أريحكم. مياه الراحة أوردكم. وأنعش نفوسكم. وإلى سُبُل البِرّ أهديكم... لأنّكم وإن سرتم في وادي الظلمات لا تخافوا سوءاً لأنّي معكم (مزمور 23/1-4).
- نحن نعلم، يا يسوع "أنّنا خُلقنا من أجل الله، ولن يعهد قلبنا الراحة إلاّ فيه".
- سأفيض عليكم من روحي... "ويكون فِعْل البِرّ راحة وطمأنينة وهناءة للأبد" (أشعيا 32/15-17).
ونتابع السؤال:
- يا ربّ، أما تبالي أنّه لم يبقَ عندنا خمر، فعمّ الحزن وزال الفرح؟
فيجيبنا يسوع:
- "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. فمَن ثبت فيّ وثبتُّ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً" (يوحنّا 15/5).
في الشدّة والضيق التجئوا إلى أُمّي مريم، فهي الشفيعة وهي الوسيطة عندي، ولا أردّها خائبة. وستكون المعجزة، ويصير، بقدرتي، ماؤكم خمراً، وينقلب حزنكم فرحاً (راجع يوحنّا 2/1-12).
"وما مِن أحد يسلبكم هذا الفرح" (يوحنّا 16/22).
"طُوبى للمحزونين، فإنّهم يُعزَّون" (متّى 5/5).
"الحقّ أقول لكم: ستبكون وتنتحبون، وأمّا العالَم فيفرح. ستحزنون، ولكنّ حزنكم سينقلب فرحاً" (يوحنّا 16/20).
"والذي يثبت إلى النهاية فذاك الذي يخلص" (متّى 10/22).
"طُوبى لكم أيّها الباكون الآن، فسوف تضحكون" (لوقا 6/21).
"اسألوا تنالوا فيكون فرحكم تامّاً" (يوحنّا 16/24).
ونقول:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا ضللنا الطريق ونسير نحو الهاوية؟
ويجيبنا يسوع:
- "أنا الطريق والحقّ والحياة..." (يوحنّا 14/6).
"مَن أراد أن يخدمني، فليتبعني" (يوحنّا 12/26). و"مَن أراد أن يتبعني، فليزهد في نَفْسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني" (لوقا 9/23).
"ادخلوا من الباب الضيّق. فإنّ الباب رحب والطريق المؤدّي إلى الهلاك واسع، والذين يسلكونه كثيرون. ما أضيق الباب وأحرج الطريق المؤدّي إلى الحياة، والذين يهتدون إليه قليلون" (متّى 7/13-14).
لن أترككم تضلّون الطريق: أمضي في طلب الخروف الضالّ (متّى 18/12).
أبذل نَفْسي في سبيل الخراف، وأقودها إلى الحظيرة (يوحنّا 10/15-16).
"أنا الباب. مَن دخل منّي يخلص، يدخل ويخرج ويجد مرعى" (يوحنّا 10/9).
وهكذا لا يشاء أبوكم الذي في السموات أن يهلك واحد منكم (متّى 18/14).
أتيتُ لتكون الحياة لكم، وتفيض فيكم (يوحنّا 10/10).
ونقول له:
- يا ربّ، أما تبالي أنّ الله ابتعد عنّا وتركنا ونسينا؟
ويجيبنا يسوع:
- أنا اسمي "عمّانوئيل"، أي الله معكم (متّى 1/23).
"أنا والآب واحد" (يوحنّا 10/30).
"مَن رآني رأى الآب" (يوحنّا 14/9).
"إذا أحبّني أحد حفظ كلامي فأحبّه أبي، ونأتي إليه فنجعل لنا عنده مقاماً" (يوحنّا 14/23).
يا أبنائي الأحبّاء، إنّ الله لا يبتعد عنكم أبداً لأنّكم "أبناء الله" ومنه وُلدتم (يوحنّا 1/12-13).
ربّما أنتم قد ابتعدتم عن الله! فعودوا إلى الله، و"توبوا، فقد اقترب ملكوت السماوات" (متّى 4/17).
"اطلبوا الربّ فتحيوا" (عاموس 5/6).
"اثمروا، إذاً، ثمراً يدلّ على توبتكم" (متّى 3/8).
وادعوا الناس إلى التوبة (مرقُس 6/12).
وأعلنوا باسمي التوبة وغفران الخطايا (لوقا 24/47).
يا أبنائي، ثمّة أرواح شريرة لا تخرج "إلاّ بالصلاة والصوم" (متّى 17/21). فصلّوا وصوموا، إذاً، "من غير ملل" (لوقا 18/1).
"اسألوا تُعطَوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتَح لكم" (متّى 7/7).
أتنسى الأمّ رضيعها، فلا ترحم ابن بطنها؟ حتّى ولو نسيت النساء أولادها فالله لا ينساكم. وها هو ذا على كفّه نقشكم (أشعيا 49/15-16).
حينئذٍ نقول:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا نعاني العنف والخطف والقتل والموت؟
فيجيبنا يسوع:
- "أنا القيامة والحياة. مَن آمن بي، وإن مات، فسيحيا وكلّ مَن يحيا ويؤمن بي لن يموت للأبد" (يوحنّا 11/25-26).
"طُوبى للمضطهَدين على البِرّ، فإنّ لهم ملكوت السموات. طُوبى لكم إذا شتموكم واضطهدوكم وافتروا عليكم كلّ كذب من أجلي. افرحوا وابتهجوا: إنّ أجركم في السموات عظيم، فهكذا اضطهدوا الأنبياء من قَبْلكم" (متّى 5/10-12).
أقول لكم: "أحبّوا أعداءكم وصلّوا من أجل مضطهِديكم" (متّى 5/44).
"أحسنوا إلى مبغضيكم، وباركوا لاعنيكم" (لوقا 6/27-28).
"إذا أبغضكم العالَم فاعلموا أنّه أبغضني قبل أن يبغضكم... ما كان الخادم أعظم من سيّده. إذا اضطهدوني، فسيضطهدونكم أيضاً!" (يوحنّا 15/18-20).
"بل تأتي ساعة يظنّ فيها كلّ مَن يقتلكم أنّه يؤدّي لله عبادة" (يوحنّا 16/2).
أقول لكم هذه الأشياء "ليكون لكم بي السلام. تعانون الشدّة في العالَم، ولكنْ ثقوا، إنّي قد غلبت العالَم" (يوحنّا 16/33).
فنقول:
- يا ربّ، أما تبالي أنّنا فقدنا الأمل وانتابنا اليأس؟
ويجيبنا يسوع:
- "أنا الألف والياء، البداية والنهاية" (رؤيا 21/6).
"لا تخفْ أيّها القطيع الصغير" (لوقا 12/32).
"لن تُفقَد شعرة من رؤوسكم" (لوقا 21/18).
"أين إيمانكم؟" (لوقا 8/25).
هنيئاً لمَن لا يفقد إيمانه بي (متّى 11/6).
"ثقوا بي، أنا هو" (متّى 14/27). "لا تضطرب قلوبكم" (يوحنّا 14/1).
"لن أترككم يتامى" (يوحنّا 14/18).
"إنّ الروح القُدُس يؤيّدكم... وهو يعلّمكم جميع الأشياء، ويذكّركم جميع ما قلته لكم" (يوحنّا 14/26).
"وصيّتي هي: أحبّوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم... ما أُوصيكم به هو: أحبّوا بعضكم بعضاً" (يوحنّا 15/12-17).
كونوا راسخين في إيمانكم، ثابتين في رجائكم "إنّكم بثباتكم تكتسبون أنفسكم" (لوقا 21/19).
"لا تخافوا!" (يوحنّا 6/20). "وهاءنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالَم" (متّى 28/20).
* * *
هذه بعض من الكلمات التي يوجّهها إلينا الطفل يسوع في هذا العام، في ذِكرى ميلاده. وهو الذي عانى مثلنا ما نعانيه اليوم، وربّما أكثر، من البرد والجوع والعطش والمرض والذلّ والخوف والفقر والرفض والاحتقار والاضطهاد والحقد والعنف...
ولكنْ، ثمّة عائلات وأفراد أكثر منّا احتياجاً، ولا يحقّ لنا أن "نغلق أحشاءنا" عنهم في هذا العيد. فماذا ينفع إيماننا إن لم يقترن بالأعمال؟ (راجع يعقوب 2/20).
ولذلك نعود إلى يسوع المضجَع في مذود، وهو الذي "افتقر لأجلنا" (2قورنتُس 8/9). ونقول له:
- عفوك، يا يسوع، كم كنّا أنانيّين في شكوانا، ولم نكترث إلى وضعك. فماذا نستطيع أن نفعل من أجلك؟
ويجيبنا:
- الحقّ أقول لكم: كلّما تصنعون شيئاً من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي تصنعونه: أطعموا الجائع، اسقوا العطشان، آووا الغريب، اكسوا العريان، عودوا المريض، زوروا السجين (راجع متّى 25/31-46).
"إن لم ترجعوا فتصيروا مثل الأطفال، لا تدخلوا ملكوت السموات. فمَن وضع نَفْسه وصار مثل هذا الطفل، فذاك هو الأكبر في ملكوت السموات. ومَن قَبِل طفلاً مثله إكراماً لاسمي، فقد قَبِلني أنا" (متّى 18/3-5).
"إيّاكم أن تحتقروا واحداً من هؤلاء الصغار. أقول لكم إنّ ملائكتهم في السموات يشاهدون أبداً وجه أبي الذي في السموات" (متّى 18/10).
"ومَن سقى أحد هؤلاء الصغار، ولو كأسَ ماءٍ باردٍ لأنّه تلميذ، فالحقّ أقول لكم إنّ أجره لن يضيع" (متّى 10/42).
* * *
ونغادر المغارة وقد غمرنا فرح باطنيّ صافٍ، ما شعرنا به في سائر السنوات والأعياد الميلاديَّة. لقد عشنا سرّ الميلاد في حقيقته، حيث يلتقي سرُّ التجسّد سرَّ الفداء، وتلتقي خشباتُ المذود خشبتَي الصليب.
فلم يكن الله في قلبنا وحسب، بل كنّا "في قلب الله".
"كلّ لقاء مع يسوع المسيح يبدّل المفاهيم، ويوسّع البصيرة، ويحيي الأمل، وينعش الرجاء، لأنّه يفتح آفاقاً جديدة، ويوقظ الثقة بالله في نَفْس مَن يلقاه".
ونبتعد عن المغارة في سكون الليل مسبِّحين مهلِّلين.. ونعود إلى بيوتنا، وصدى كلام يسوع يتردّد في أعماقنا مفعَماً بالأمل والصبر والثبات والفرح، متحدّياً أزيز الرصاص ودويّ المدافع:
- "اثبتوا في محبّتي. إذا حفظتم وصاياي تثبتون في محبّتي... قلتُ لكم هذه الأشياء ليكون بكم فرحي، فيكون فرحكم تامّاً" (يوحنّا 15/9-11).
كنيسة الصليب المقدَّس بحلب
عيد الميلاد 25/12/2012
المطران بطرس مراياتي
رئيس أساقفة حلب وتوابعها للأرمن الكاثوليك
"ودُعيَ إسمه يسوع" عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي يوم السلام العالمي - بكركي في 1 كانون الثاني 2013بكركي, 6 يناير 2013 (زينيت - ZENIT.org) - . تحتفل الكنيسة اليوم طقسيًّا بذكرى ختانة الطفل الإلهي بعد ثمانية أيام لميلاده، و "دُعيَ اسمُه يسوع، كما سمّاه الملاكُ قبل أن يُحبل به"(لو2: 21). مع ميلاد ابن الله إنسانًا، دخل الله عالم البشر فاديًّا ومُخلّصًا بشخص يسوع، والاسم يعني "الله الذي يُخلّص شعبه من خطاياهم"(متى1: 21)، ودخل سلامُ الله إلى العالم، عطيّة إلهيّة تصبح من صنع البشر. فاختارت الكنيسة، في عهد حبريّة المُكرّم البابا بولس السادس، اليوم الأول من كل سنة ليكون اليوم العالمي للسلام، وغايته التأمّل في السلام، والصلاة من أجله والعمل على توطيده. وجريًا على عادة البابوات، وجّه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالته لهذا اليوم بعنوان "طوبى لصانعي السلام"(متى5: 9). 2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذا اليوم العالمي للسلام 2013. بدعوة من اللجنة الأسقفية "عدالة وسلام" المنبثقة عن مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وهي برئاسة سيادة المطران سمير مظلوم نائبنا البطريركي، الذي أُحيّيه وحضرةَ نائب الرئيس قدس الأب الياس آغيا، الرئيس العام لجمعية المرسلين البولسيين، وسائرَ أعضاء اللجنة ومعاونيهم. كما نُحييكم أنتم جميعًا، وقد أتيتم لرفع الصلاة من أجل السلام في العالم، لاسيما في لبنان وسوريا وسائر بلدان الشرق الأوسط، وللالتزام بقضية السلام، وفقًا لتعليم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وتوصياته في رسالته الموجّهة لهذه المناسبة والتي نختصرها بخمس نقاط كخريطة طريق لصنع السلام:
أولاً، مفهوم الطوبى لصانعي السلام وأبعادها(الفقرة 1و2)
3. إنَّ التوق الى السلام هو في داخل كلِّ إنسان، لأنّه مخلوق على صورة الله ومن أجل السلام الذي هو في الأساس عطيّة من ألله ومن جوهره. ولكي يكون كلُّ شخصٍ إبنًا وابنةً لله، ينبغي أن يلتزم بصنع السلام. ولهذا، كانت الطوبى الإنجيليّة: "طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعَون"(متى5: 9). إلتزام السلام هو بنوعٍ أخص دعوة المسيحين ورسالتهم، وقد قبلوها من المسيح، سلام الشعوب وملك السلام. ثمّة أخطارٌ عديدة تُهدّد السلام، وقد عدّدتها الرسالة البابويّة، داعيةً الى تجديد الإلتزام الجماعي في البحث عن الخير العام، وإنماء الإنسان بشموليته.
4. ألسلام الحقيقي المُعطى من المسيح يُولَد من لقاء الإنسان بالله، لقاءً مفعمًا بالثقة، نختبر فيه فرح عطيّةٍ سامية هي تقاسمُ حياة الله نفسها، حياة النعمة والسعادة والسلام الداخلي. فيكون السلام، في آن، عطيّة الله وعمل الإنسان. عطيّةُ سلامٍ تنبع من الله، وتُعاش مع الآخرين ومن أجلهم بأخلاقية الشركة والتقاسم، وتُبنى على ركائز أربع مترابطة هي: الحقيقة والحرية والمحبة والعدالة.
ولكي نصبحَ صانعي سلام حقيقيين، ينبغي أن نتغلّب على الخطيئة التي هي نقيضُ السلام مع الله والذات والناس. فالخطيئة تعني أنانيةً وعنفًا وجشعًا وتسلّطًا واستكبارًا وبغضًا وحقدًا وظلمًا. صانعُ السلام هو الذي يبحث عن خير الآخر، بنفسه وجسده، اليوم وغدًا. صانع السلامهو الذي يقتدي بالمسيح سلامِنا وبرِّنا ومصالحتِنا(أف2: 14؛ 2 كور5: 18).
نستخلص من هذا التعليم أنَّ كلَّ شخص وكلَّ جماعة، أكانت دينية أم مدنية، أم تربويّة وثقافية، مدعوّان للعمل من أجل السلام وإنماء الإنسان والمجتمع إنماءً شموليًّا. فالسلام هو، في الأساس، تحقيق الخير العام لمختلف المجتمعات. ولهذا السبب، الكنيسة مقتنعة بضرورة الإعلان الجديد لسرّ يسوع المسيح، الذي هو الفاعل الأول والأساسي في إنماء الشعوب وإحلال السلام.
ثانيًا، إحترام الحياة البشريّة وحقوق الإنسان كسبيل لصناعة السلام(الفقرة 4)
5. صانعو السلام هم الذين يُحبّون الحياة البشرية بشموليتها، ويدافعون عنها، ويعزّزونها. الطريق المؤدّي إلى الخير العام والسلام هواحترام الحياة البشرية في كلّ مراحلها: الحبل والولادة والنمو حتى نهايتها الطبيعية، والدفاع عنها، وتعزيزها في كلّ أبعادها، الشخصية والجماعية. ملء الحياة هو ذروة السلام. من يحبّ السلام، لا يستطيع تحمّل الاعتداءات والجرائم ضدّ الحياة البشرية، بدءاً من الإجهاض، ولو ظنّ طالبه وصانعه أنّه يشكّل سلاماً تحريرياً له، لكنّه سلام كاذب يغشّ. إنّ قتل كائن بشري بريء غير قادر على الدفاع عن نفسه، والهرب من المسؤوليات لا يستطيعان ابداً إنتاج سعادة أو سلام.
هذه كلّها مبادئ مكتوبة في طبيعة الإنسان يمكن معرفتها بالعقل وبالتالي هي مشتركة للبشرية جمعاء. ولذلك، عندما تعلّمها الكنيسة، فإنّها تتوجّه إلى جميع الناس، أيّاً يكن انتماؤهم الديني. يكون هذا التعليم ضروريًا بمقدار ما تكون هذه المبادئ مرفوضة أو مُنكرة أو غير مفهومة، لأنّ ذلك يشكّل إساءة لحقيقة الشخص البشري، وانتهاكًا للعدالة والسلام. ولذا، اعتراض الضمير على كلّ قانون أو ممارسة أو تدابير حكومية تنتهك الكرامة البشرية، مثل الإجهاض والقتل الرحيم واعتماد العنف والحرب، إنّما يشكّل مساهمة مرموقة لصالح السلام.
6. صانعو السلام هم أيضًا أولئك الذين يحترمون الحرية الدينية التي تشمل: حرية الشهادة للدّين الخاصّ، وحرية إعلان تعليمه ونقله، وحرية القيام بنشاطات تربوية وأعمال رحمة ومساعدة تطبيقاً للرسوم الدينية، وحرية إنشاء أجهزة اجتماعية ونشاطها، وفقاً لمبادئها التعليمية ولأهدافها التأسيسية. وهم الذين يدافعون عن الحقوق والواجبات الاجتماعية، ومن بينها الحقّ في العمل وواجب العمل، وسواه من الحقوق المدنية والسياسية التي تساعد المواطنين على تحقيق ذواتهم. فمن أجل تحقيق السلام، يجب احترام حقوق العمّال، والتزام هؤلاء بواجباتهم. تقتضي الكرامة البشرية والمنطق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي توفير فرص العمل للجميع، كخير أساسي للشخص والعائلة والمجتمع، مبنيّ على المبادئ الأخلاقية والقيم الروحية. ما يقتضي وجود سياسات جريئة ومتجدِّدة لصالح العمل والعمّال.
رابعًا، صناعة السلام ونموذج جديد للإنماء والاقتصاد
7. تحقيق السلام بكلِّ مقوّماته وأبعاده، يقتضي إيجاد نموذج جديد للإنماء، ونظرة جديدة للإقتصاد، إنطلاقًا من القيَم الروحيّة والأخلاقيّة التي مصدرها الله. إنَّ الوسائل المتعدّدة لتحقيق الإنماء، والخيارات المتنوّعة لنموّ الاقتصاد، ينبغي استعمالُها بتطلّعات نحو حياةٍ صالحة ومسلكٍ مستقيم يعطيان الأولويّة للبعد الروحي وتأمينِ الخير العام، وإلاّ فقدت قيمتها الحقيقيّة، ونصّبت نفسها أصنامًا جديدة.
8. من الضروري، للخروج من الأزمة الماليّة والاقتصاديّة الراهنة التي تزيد من هوّة عدم المساواة، أن يقوم أشخاصٌ وجماعاتٌ ومؤسساتٌ ملتزمون تعزيز الحياة وتحفيز الإبداع، بحيث يستخرجون، من الأزمة نفسها، المناسبة للتمييز ولاستنباط نموذج إقتصادي جديد. من المؤسف أن يكون النموذج، الذي ساد هذه العقود الأخيرة، قد التزم السعي إلى تضخيم الربح والاستهلاك، بنظرةٍ فرديّة وأنانيّة، وإلى تقييم الأشخاص حصرًا بقدرتهم على التنافس. لكنّ النموذج الاقتصادي الجديد المنشود هو الذي يعتبر أنَّ النجاح الحقيقي والدائم نناله بهبة الذات، وبتوظيف القدرات الفكريّة الخاصّة، وبروح المبادرة. ذلك أنَّ الإنماء الاقتصادي المقبول، المُميّز بالأصالة الإنسانية، يحتاج إلى مبدأ المجّانيّة كتعبير للأخوّة ومنطق العطاء.
على مستوى النشاط الاقتصادي، صانع السلام هو الذي يقيم علاقات إخلاص وتبادل، مع معاونيه وزملائه والمتعهّدين والمستفيدين؛ ويمارس النشاط الاقتصادي من أجل الخير العام؛ ويعيش التزامه كشيء يتعدّى فائدته الشخصيّة، لصالح الأجيال الحاضرة والطالعة. وهكذا يعمل ليس فقط لذاته، بل أيضًا لكي يوفّر للآخرين مُستقبلاً وعملاً لائقًا.
9. فيُطلب من الدّول: وضعُ سياساتٍ للإنماء الصناعي والزراعي، من شأنها الإهتمام بالترقّي الإجتماعي وبشموليّة دولة الحقّ الديمقراطيّة؛ وضعُ بُنية أخلاقيّة للأسواق النقديّة والماليّة والتجاريّة بشكل مُستقرّ ومُنسَّق ومُراقَب، بحيث لا تَضُرُّ بمن هم أكثر فقرًا؛ تعزيزُ الإستقرار الغذائي بروح التضامن والرقابة من كلّ الحكومات على المستويين المحلّي والدوليّ، بهدف تمكين المزارعين من القيام بعملهم بطريقة كريمة ومستمرّة إجتماعيًّا وبيئيًّا واقتصاديًّا.
خامسًا، التربية على ثقافة السلام(الفقرتان 6و7)
10. إنَّ التربية على ثقافة السلام تحقّق الخير العام وتولّد جوًّا من الاحترام والإخلاص والمودّة والعيش معًا بذهنية صنع الخير ونبذ العنف وبروح الغفران والمصالحة. أمّا الأمكنة حيث تتوفّر هذه التربية فهي:
أ- العائلة، بكونها خليّة المجتمع الأساسيّة ديموغرافيًّا وأخلاقيًّا وتربويًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. دعوتُها الطبيعيّة تعزيزُ الحياة ومواكبتُها في نموّها وتربية الأشخاص على مقياس المحبّة الإلهيّة. فيها يولد ويكبر صانعو السلام ومعزّزو ثقافة الحياة والحبّ. فمن الواجب حماية حقِّ الوالدين ودورِهم الأول في تربية أولادهم أخلاقيًّا وروحيًّا.
ب- المؤسسات الثقافيّة المدرسيّة والجامعيّة بكونها تُنشِّئ أجيلاً جديدة من القياديّين، وتساهم في تجديد المؤسسات العامّة، الوطنيّة والدوليّة، وتقدّم تفكيرًا علميًّا من شأنه أن يجذِّر النشاطات الإقتصاديّة والماليّة في أساسٍ أنتروبولوجي وأخلاقي متين، وتوفّر لعالم السياسة فكرًا ثقافيًّا جديدًا حول الخير العام بحيث هو مجموعة علاقات إيجابيّة بين الأشخاص وبين المؤسسات، في خدمة النموِّ الشامل للأفراد والجماعات، وبحيث هو الأساس لكلّ تربية حقيقيّة على السلام.
ج- الجماعات الدينية بكونها تجسّد تعليم الكنيسة الإنجيلي، الذي يدور حول الحقيقة ومحبّة المسيح، وبالتالي حول النهضة الروحيّة والأخلاقيّة لدى الأشخاص وفي المجتمعات. إنَّ اللقاء مع المسيح يكوّنُ صانعي السلام، إذ يجعلهم مُلتزمين في الشركة والعدالة، بوجه الانقسام والظلم.
11. يختم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالته هذه بمناسبة يوم السلام العالمي، مُؤكِّدًا أن المسيح، أميرَ السلام، هو النموذج والمثال لصانعي السلام. ويدعونا لنصلّي مع الطوباوي البابا يوحنّا الثالث والعشرين: لكي يُنيرَ اللهُ المسؤولين المدنيّين في تدعيم عطيّة السلام والدفاعِ عنها، ولكي يعمل الجميع على تخطّي الحواجز التي تُفرّق، ويشدّدوا أواصر المحبّة المتبادلة، غافرين للذين أساؤوا، مُتفهّمين بعضُهم بعضًا، فتنموَ الأخوّةُ بين شعوب الأرض وتزدهر، ويملك السلام المنشود على الجميع.
بهذا الدعاء، يتمنّى قداسة البابا أن يتمكّن الجميع من أن يصبحوا صانعي سلام، حتى ينموَ في مدينة الأرض الإتفاقُ الأخويّ أساس الإزدهار والسلام.
ونحن، في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، نلتزم بأن نكون صانعي سلام لكي نستحقّ أن نُدعى أبناء الله.
"طوبى لصانعي السلام، فإنّهم أبناء الله يُدعَون"(متى5: 9).
آمـــيــن