جلستُ على حافة النافذة أرقب السماء الصافية والطيور المغردة واضعةً قدميّ على اطار النافذة ، ورأسي تُسنده ركبتيّ ،إنه الربيع قد حل أخيرا بنسماته المنعشة وزهوره المتفتحة وبنحلاته المنهمكة في العمل ، حتى الجبل اكتسى أخيرا حلته الخضراء المعشوشبة وبدا متأنقا على غير العادة وكأنه مدعوٌ لحضور حفلة ما، وهاهو ذا ماء الغدير القريب يتلألأ بشفافية ورِقة تحت أشعة الشمس المتسكعة . نقلت بصري من حديقة المشفى إلى ذلك الجسد المسجى على الفراش الأبيض تحيط به الأنابيب والأجهزة المختلفة ، هذا للأكل وذاك للدواء وذاك لإخراج الفضلات ، كل أنبوب من تلك الأنابيب تعتمد عليه حياة ذلك الجسد ، وإن حاد أحدها عن مساره فلن أعرف أبدا حتى يأتي الطبيب ويخبرني بذلك ، أخذتُ أداعب الشعر الأشيب المبعثروقلت : ليتك تفيقين ياأمي لتشاهدي تراقص الألوان وجمالها في الخارج . وأخذ صوت والدتي الجذلان يصل إلى مسمعي من عالم الذكريات وصوت ضحكاتها المغرد وهي تسمع نبأ تخرج أخي من كلية الطب ، ومازالت كلماته ترن في أذني : أمي سأسافر لأتخصص في مجال جراحة القلب وأعود لأعالج قلبك المريض ، انتظريني وسأعود ،فقط هي خمس أعوام ستمر مر السحاب . ورحل .... رحل مثل الطيور الجميلة المغردة تهاجر في الشتاء إلى البعيد ، حيث الدفء والضوء والنعيم ، رحل إلى بلاد أجنبية بعيدة ، يحمل أحلامه الوردية وأحلامنا تُسرع الخطى خلفه ، ونظرات أمي تلاحقه وكأنها تودعه وكأنها أحست بما سيحدث لاحقاً ، ووصيتها الأخيرة له ماتزال ترن في أذني: نحن بانتظارك لاتطل الغيبة ولاتنسى بلدك وأهلك. ومرت السنون تباعا ، ماتكاد سنة تُطفئ شمعتها حتى تشتعل شمعة أخرى ، كانت الزيارات السريعة في البداية ترد روح أمي الهائمة إلى صدرها وتمنحنا الأمل ، ثم مالبثت أن تحولت الزيارات إلى اتصالات هاتفية ثم رسائل هاتفية حتى توقف كل شيء وكأن شيئا لم يكن ! حاولت الوصول إليه بكل الطرق ، أوصت عليه الكثيرين، ولما لم تجد جواباً اتجهت للسفارة ، أعطوها رقم هاتف ، اتصلت به كثيرا ولم يرد ، امتلأ قلبها خوفاً عليه من أن تكون صعوبة الدراسة ومشقتها هي التي تمنعه من التواصل ، أما أنا فقد خِفت أن تكون رياح الغربة قد جمدت قلبه، فالطير المهاجر لابد له من العودة سريعا وإلا فستخطف قلبه وتحلق به بعيدا . بعد مدة ليست بالهينة طرق بابنا أحد المهاجرين وأعطانا ظرفا صغيرا بلا امضاء ورحل ، أمسكت أمي الرسالة ويديها ترتعشان ، نادت بصوت متهدج: ليلى ، ليلى أرجوك افتحي الرسالة بسرعة واقرئي مافيها . راقبتُها بإشفاق وهي تنتفض كالطير المذبوح ، فتحت الرسالة وأخذت عيناي تسبحان بين الحروف المتتابعة وقلبي يغوص بين قدميّ بعد كل حرفٍ أقرأه ، وتمنيت أن لايعود للخفقان أبدا حتى لاأُطلق السهام التي ستقطع قلبها ، ولكن نظرات أمي المتلهفة جرتني جراً لقراءة السطور ، فقرأتها بسرعة شديدة حتى لاتستوقفني وتسألني عن تفسير لاأملكه .
" أمي وأختي الغاليتان .... تحياتي لكما ، اعذراني على انقطاع إتصالي بكما بسبب المشاغل ، لقد علمت أنكما تسألان عني لذا أُرسل هذه الرسالة ، أنا في أتم الصحة والعافية وقد تخرجت بامتياز وقد اختارتني الجامعة للتدريس فيها كما أن المشفى يأخذ أوقاتي ، ولقد تزوجت زميلتي ، ربما ستتعرفون عليها يوماً ما إسمها " لين " ، وقد قررنا الاستقرار هنا وأفكر أخذ الجنسية ، فالرواتب مغرية والأجهزة العلمية متوفرة والمعاملة جيدة لذا لاأستطيع العودة إليكم ،حيث لايمكنني العودة إلى التخلف والحياة الصعبة التي كنا نحياها ، أعلم أنكما ستتفهمان قراري،تحياتي لكما وقد أزوركما حين تسنح الفرصة ، سأرسل لكما مبلغاً ماليا كل شهر. تحياتي " وسقطت مغشياً عليها ، سقط ذلك الجبل الشامخ المتشامخ أمام كل تلك الانفجارات التي هزت جذوره ، تهاوت كورقة تلاعب بها رياح الخريف التي تعبث بأرواح الأوراق الهائمة ، لقد توقف ذلك النبع الذي يغذيها بالحياة وتلاشى الأمل الذي طالما انتظرته . والآن هاأنا ذا أنظر إليها وهي راقدةٌ في فراشها الأبيض الناصع كزهرةٍ انطفئت ألوانها فغدت شفافة يُلمح مابداخلها بسهولة ، بعد أن كانت قوية صامدة في وجه الأيام تتصنع القسوة أحيانا لتُربي صغيريها اليتيمين وتحميهما من تخاطُف الذئاب ، حياتها كانت قصة تضحية جميلة مثل القصص الخيالية التي تُسرد للأطفال قبل النوم ، ولكنها الآن ترقد محطمة الفؤاد ، مهيضة الجناح،تقلبها الأيدي الجافة المتعبة . لم أفقد الأمل يوماً ،أخذت أبعثُ له شهريا رسالة أذكره فيها بطفولتنا التي زينها قلب أمنا الضعيف ، ذكرته بأيامنا السعيدة كما ذكّرته بأيام حزننا وألمنا ، ذكّرتُه كيف ضعُف قلب أمنا بسبب الحادث الذي تعرض له حين كان صغيرا ، وذكرته بوعوده لها كما أعدت عليه وصية والدتنا الأخيرة ، لم أُطالبه بالعودة ، فقط كل ماطلبته منه زيارة واحدة ، زيارة قد تُحدث معجزةٍ ما . ومر عامين، ومازلت أنتظر،كلما سمعتُ صوتاً خلف الباب انتفضت ، وكلما لمحت خيالاً في الحديقة يشبه خياله ارتعش قلبي طرباً ، ومازلتُ أنتظر.