مقالات متنوعة
بندكتس السادس عشر .. يحج نحو الله بقلم المونسينيور بيوس قاشا
بغداد, 21 مارس 2013 (زينيت) - في البدء دير صلاة على تلّة الفاتيكان... حياة
نسكية... صوفية المسيرة... هذا كان اختيار بندكتس السادس عشر، البابا السابق، حامل
التسلسل البابوي 265، حاجّاً إليه كمرحلة أخيرة من مسيرة حياته الزمنية، سيقصده في
الفاتح من أيار بعد أن يمضي فترة قصيرة في المقر الصيفي في كاستيل كوندولفو. بدأ
بندكتس حجه الغير العادي، أحبه بحرفية وبنقطته الوحيدة، وهو منذ سنين يفكر في
كيفية إعداد وتخطيط ورسم وتنفيذ فكرة هذا الحج، فأبدعه أخيراً بعقله وقلمه، بفكره
وقناعته، بإرادته وقبوله، بفرحه ولقائه، بحريته وإعلانه، بتواضعه وواجبه... أراد
أن يصعد الجبل كما فعل معلّمه قبل ألفي عام، بقامة بيضاء ممشوقة، وبعد فحص ضمير
أمام الله مرات عدة ليعلن أنه قد أشاح بوجهه عن السلطة ومباهجها، السلطة التي
دانها السيد المسيح وناهضها بظلمها، التي قادته إلى الصليب ليفتح عينيه إلى السماء
أملاً أن يخدم في المستقبل الكنيسة المقدسة بحياة مكرَّسة للصلاة، مدركاً أن ذلك
لابدّ منه إذا ما أراد الخير للكنيسة، فكان نموذجاً لا يُضاهى، وشبيهاً برسول
الناصرة، ومعطياً مثالاً بل أمثولة في البطولة الإيمانية والشجاعة المسؤولة، فكان
في ذلك نقطة خارقة في مسيرة البابوية، وعلامة في القصور الفاتيكانية.
الربيع العربي
في عالم يخضع لعدة تغييرات سريعة من العولمة بشقها السلبي، ومن مسائل ذات صلة
عميقة بحياة الإيمان، ومن تطورات لا تُعَدّ ولا تُحصى في العالم الغربي المنفتح
إلى درجة كبيرة في الضياع والمادية، وفي العالم المشرقي حيث الربيع العربي يرسم
مستقبلاً مبهماً ويرسل رسالة حقد وكراهية وضياع... أمام هذا التحرك المأسوي، أدرك
بندكتس السادس عشر _ ومنذ اليوم الأول لانتخابه في التاسع عشر من نيسان عام 2005 _
ثقل المسؤولية الملقاة عليه، فطلب من المؤمنين أن يصلّوا لأجله ليكون في الحقيقة
الراعي الصالح والشاهد لحقيقة الإنجيل، البشارة الخلاصية في الإيمان والمحبة...
أمام هذه الحقائق، وإلى جانب الفكر والروحانية وإلى قوة الجسد أيضاً، كان البابا
السابق هو الحقيقة والتي أعلنها أمام إخوته الكرادلة.
حقيقة ... وصدمة
في كلمته في الحادي عشر من شباط (فبراير) الماضي إلى الكرادلة في مجمعهم الخاص
قال:"بعد مراجعة ضميري تكراراً أمام الله توصلتُ إلى القناعة بأني لم أعد
قادراً على ممارسة خدمتي على كرسي بطرس بسبب تقدمي في السن، ولابدّ لمن يدبّر
سفينة بطرس في الظروف العالمية الراهنة أن يتمتع بالقوة الجسدية والعقلية اللازمة.
بكلمته هذه فاجأ بندكتس إخوته في الإيمان، كرادلة المجمع الخاص، فقد كان كلاماً
صريحاً وواضحاً، علامة فارقة في المسيرة البابوية، وقناعة ضمير لا تضاهيها قناعة،
وخطاباً لم يكن يألفه الكرادلة منذ حوالي 600 عام. حرية تامة أعلنها
بقوله:"فعلتُ ذلك بحرية تامة من أجل خير الكنيسة مع إدراكي خطورة هذا العمل،
ولكن مع إدراكي أيضاً إني لم أعد قادراً على القيام بخدمتي البطرسية بالدفع اللازم
الذي تقتضيه هذه الخدمة، تدعمني وتنيرني الثقة بأن الكنيسة هي من المسيح الذي
سيواصل قيادتها والعناية بها"... حديث لم يُسمع صداه، وإذا ما سُمع فكان
إعلانه نادراً وقبوله علامةً في التعجب والاستفهام. والسؤال الأكيد: لماذا هذا؟،
ما الذي حصل؟، ما هو السبب؟... وهلاّت كثيرة ولا أحد يملك الجواب عليها إلا مَن
أطلقها. فالسر في قلبه، نبي بإيمانه، ومحب لخير كنيسته، وحقيقة لوهن جسده.
نعم، لقد صدمت هذه الخطوة مؤمني العالم بأسره، وخاصة مؤمني العالم الكاثوليكي
ومؤمنين بمختلف دياناتهم وعباداتهم وولاءاتهم كما هو الشأن بالفاتيكان ودوائره،
بالمتخصصين في علومه والبعيدين عن ولائه، إذ لم يكن أحد يتوقع ذلك. فالذهول مَلَكَ
على الأفكار، واستولى قرار الاستقالة على الألسن، إذ لم يكن حدثاً مسبوقاً في
أجيالنا وقروننا الحالية. فماذا يعني التنحي؟.
التنحي صرخة
كان الثامن والعشرين من شباط (فبراير) الماضي صرخة الحقيقة للبابا السابق بندكتس
السادس عشر ، بمسؤولية إيمانية ، وقناعة أكيدة وضميريه ولم تكن صرخة آنية أو وليدة
ساعة ، بل بعد مراجعة ضميرية متكررة، مدركاً أن التنحّي ما هو إلا درس عملي في
التواضع كفضيلة مسيحية وبامتياز، وإن ما قام به البابا يجسد لنا التواضع بأروع ما
يكون وبأسمى القيم والحب، وإن الخدمة البابوية ما هي إلا خدمة روحية تتعالى على
العقل البشري وإدراكه المحدود، فكل شيء من الله.
تنحّي البابا السابق بندكتس السادس عشر سابقة تاريخية أرادها زاهداً في الموقع
والمنصب بروح الشجاعة والجرأة، وبملء الحرية وبإرادته عزف عن كرسي بطرس الذي عُهد
إليه في 26 نيسان 2005 في خطبة تسلّمِه للحبرية المقدسة ، عاملاً بروح الله من أجل
الكنيسة وخيرها والتي لم تحدث إلا نادراً حيث سنة 1415 زهد البابا غريغوريوس
بالمنصب، وفي سنة 1296 تخلى البابا سلستين الخامس عن تولي المنصب إذ شعر أنه
غير مؤهل لذلك.
وتنحّيه لا يعني تخلّيه عن الكنيسة، وهذا ما أكده إذ قال: سأخدمها بصلاتي، ولا
يمكننا أن ندرك هذه الخدمة إلا عبر الإيمان الحامل شجاعة القرار من أجل ملء
الحياة. فالله يعمل فيه بطريقة جديدة وبقوة جديدة، إنه فن الإيمان، إنه فن الصلاة،
إنها الحقيقة الأخرى. فالزعامة ليست الهدف في وظيفة أو مهمة بل الخدمة والرسالة
وإعلان الحقيقة في التنحي في هذا المسلك حالما تصبح الخدمة صعبة والرسالة محالة،
فلا مجال هنا للبقاء من أجل الوجاهة والجاه والمكانة والمنصب بل الخدمة ولا أسمى.
فالبابا ليس ملكاً مطلقاً ولكن ناقل في الخدمة الأمينة للإنصات إلى صوت المسيح
وعيشه عبر الذات إلى الآخرين، وهذا صحيح التعبير ليس إلا!.
في تنحّيه أظهر لنا أنه كان في تواصل دائم مع كلمة الله، وإنه عرف كيف يجعل نفسه
خادماً للجميع في زمن مليء بالمحن والمعاناة، وكان مقتنعاً أنه ينبغي على رجل
الكنيسة أن يحيا التواضع في تتبعه للمسيح الحي الذي تواضع حتى أعطى ذاته عن أحبائه
فجعل نفسه خادماً لنا، وهذا ما شهد له معارضته للألقاب العظيمة التي يتباهى بها
زمن الدنيا، وما ذلك إلا علامة وأسلوب لعيشه وعمله.
في تنحّيه أظهر البابا السابق رؤية مستنيرة وفريدة للواقع الذي كان يجب أن يتعامل
معه وفي كيفية العمل بقدرة استثنائية في مواجهة الشؤون الكنسية وفي حفظ التوازن
باتخاذه للقرار الذي أفسح له المجال للنعمة والصلاة والعمل، وأن يفهمنا بكل عمق
الإيمان أن الراعي الأسمى هو الرب يسوع المسيح.
في تنحّيه أعلمنا أنه لا زال مستمراً ودون انقطاع في حبه للكنيسة وخدمتها في
التعبد بالإخلاص والوفاء نفسيهما اللذين خدم بهما خلال حبريته والتي دامت سبع
سنوات وعشرة أشهر وعشرة أيام، منذ انتخابه في 19 نيسان 2005 وحتى تنحّيه في 28
شباط 2013.
نعم، جاء تنحّيه عن الخدمة الحبرية في أمانة كاملة لله وللكنيسة وللخدمة الموكَلة
إليه، وهذا ما أعلنه أمام الرب وبعد صلاة عميقة وفحص ضمير لمرات عدة. ففي ذلك يظهر
لنا أنه الدليل الحامل لرسالة إنجيل يسوع المسيح كما صرّح ذلك الكاردينال البير
مالكولم رئيس أساقفة كولومبو في سيريلانكا، وأنه قدّم مثالاً للنزاهة الشفافة بعد
أن تميزت حبريته بالشجاعة والتفاني (المطران أنجلو بيتستو رئيس الأساقفة في مقابلة
صحفية في 4 شباط 2013 في مجلة لانودفا ساردينيا).
في تنحّيه علّمنا البابا أن المنصب
أُعطي للإنسان للخدمة وإن الدنيا ومادياتها والأرض وأملاكها زائلة، ولا يجوز أن
نقف عائقاً أمام مسيرة الكنيسة فأراد بذلك أن يعبّر عن زهده ورغبته في رسالة
التأمل والاختلاء من أجل الصلاة لخير الكنيسة التي بدونها لا يمكن أن تعبر سفينة
بطرس عباب المياه الهائجة.
في تنحّيه أعلمنا أن المسيح حي في الكنيسة ، وإنها فيه هي هي ، بالأمس واليوم ،
وستبقى ما دام المسيح حيّاً فيها ( عبر 8:13 ) بأبنائها وإيمانهم، إنها بناء إلهي
يستحيل فناؤه. غادرها وهو مطمئن على سلامة موقفه وموقف كنيسة المسيح الحي، هو الذي
قال: الكنيسة ليست لبطرس بل للمسيح على هذه الصخرة أبني كنيستي (متى 18:16)
واطمئنانه أعلنه بعودته للصلاة إذ فاجأ الكرادلة بعد إعلان تنحّيه، وعندما صفقوا
له بضع دقائق خلال قدّاسه الأخير في كاتدرائية القديس بطرس (في 24/2/2013) وضع
حداً لهذا الحماس بقوله:"فلنعد إلى الصلاة"... إنه أسمى وابلغ اطمئنان
قام به، فهو يحمل ذلك في مسؤولية عالية في التخلي عن أهم منصب من أجل منصب لا تراه
إلا عيون الأيمان ولا تقوم به إلا حقائق المحبة والرجاء. إن التصدي يقتضي ممّن
يدير سفينة بطرس أن يكون له من القوة الجسدية والعقلية ، ولكن أصبح يشعر أنه يفتقر
إليهما. وبتنحّي قداسته حاول نزع الصفة الشخصية عن استخدام السلطة حتى تلك السلطة
الشخصية الفريدة، في السدة البطرسية.
إنها الرحلة الأخيرة في أسفاره كلها،
بعدها أراد قداسته أن يدير وجهه عن السلطة إلى ما هو أسمى إلى سيده في السماء
مكرساً ذاته للصمت والتأمل في عزلة... إنه الراعي الصالح. سيحمل الكنيسة لاحتجابه
، وسيبقى الشفيع الذي يكل إلى القلب الإلهي سر المحبة. هموم الكنيسة بحاجة إلى
إيمان صلب مستند إلى الحقيقة، ورجاء يعلن الحياة التي لا تموت في الشركة والشهادة.
البابوية دعوة
البابوية ، دعوة سماوية ورسالة خدمة
إلهيه فهي الحل الرابط الأكيد بين السماء والأرض "ما ربطتموه على الأرض يكون
مربوطاً في السماء وما حللتموه على الأرض يكون محلولاً في السماء ( متى 18:18).
فالبابوية ليست سلطة إلا سلطة خدمة معاشة وحياتية تلبي احتياجات العصر من أجل
الخلاص، إذن هي خدمة وليست رجلاً عظيماً بل هي رجلاً خادماً ينحني ليغسل أقدام
إخوته وأحبائه، وليست إدارة أرضية أو إمارة دنيوية زائلة. إنها مهمة مقدسة موكلة
إلى الكنيسة جمعاء والبابا الأول بين إخوته المتساوين... إنه أسقف روما وخليفة
القديس بطرس يدير دفّة سفينته (كنيسته) بالخدمة والمحبة، يعلن المسيح الذي كان هو
هو بالأمس واليوم وإلى الأبد... إنه الراعي الصالح يرعى قطيعه حيث مرعى الإيمان، ويسهر
عليه... إنه الباحث ليعلن الحقيقة أمام أكاذيب الشر واقفاً عنيداً تجاه الظلم وقتل
الأبرياء.
البابوية ، رمز الكثلكة... رمزٌ للإنسان القادر على قول لا في من وجه من يريد أن
يشوَّه صورة الخالق . صحيح أن الفاتيكان هو أصغر دولة، ولكن الأصح هو أكبر مساحة
روحية وشعبية تقدَّر بمليار ونصف من البشر. هذا الرئيس العظيم يتنازل عن السلطة
بنبل وكرامة... هذا هو الذي لا يتكبر والعظيم الذي لا يتزعم. لم يُسكره البخور،ولم
تلهه لهيب الشموع ، على العكس ، يمنحنا مثلاً في التضحية بالذات من أجل
سلامة الكنيسة وخيرها. فهو الرجل الأنيق ذو القلب الأبيض،واسع الجبين ، صاحب
الأيدي البيضاء... كان عظيماً في انتخابه، وصار أعظم يوم استقالته. ووفاءً له ،
تقف الكنيسة وقفة واحدة ، وتصفق شكراً، قداسة البابا... شكراً... شكراً.
كيف نقرأ الاستقالة
نعم، إن استقالة البابا السابق بندكتس السادس عشر سابقة تاريخية لأجيال وقرن الألف
الثالث، ودون شك أن الأب الأقدس تأمل بعمق وبفحص ضمير ومنذ فترة طويلة أنه لا يمكن
أن يكون رجلاً، ضَعُفَ جسده، وجسده يُحبط آماله وأهدافه وقراراته ورعايته، كما إنه
لا يجوز التشبّث بالسلطة إذا ما أدرك أنه لم يعد يتمتع بالصفات التي تسمح له
ممارسة مهامه الرعوية والرئاسية والنيابية كأسقف روما، والحقيقة في الدفاع عن
الإنسان وحقيقته. إنه السدة البطرسية، فما عليه إلا أن يثبّت إخوته وما ذلك إلا
نظرة مستنيرة وفريدة وحقيقة إيمانية في الحقيقة إذن الاستقالة ما هي إلا مسألة
ضمير وليست وليدة ساعة زمنية . إن الشجاعة التي تحلى بها البابا سوف تبقى مَثَلاً
يُحتذى به، ولا يمكن أن ينطفئ نور المسيح الذي حمله عبر الكنيسة لأنه نور في كل
زاوية في العالم.
بعد الاستقالة
لقد ارتفعت أصوات كثيرة طالبة من الطوباوي يوحنا بولس الثاني في سنوات حياته
الأخيرة، عندما وهنت صحته، أن يتخلّى عن منصبه، فكان ردّه من خلال حياته
وخدمته:"إن المسيح لم ينزل من على الصليب هذه روحانية تسخّر الألم في خدمة
الرعاية وقيامة الكنيسة والتضحية بالذات حتى النَفَس الأخير في سبيلها ككنز من
كنوز الكنيسة الروحية. أراد قداسته أن يركّز على هذه الروحانية والتي كانت مناسبة
لظروف وتحديات وقته، وبالفعل أعطى شهادة بألمه وشيخوخته لا تقلّ تأثيراً على
شهادته خلال سفرياته الرعوية ونشاطاته.
ثارت زوابع وأقوال طائشة على ربّان سفينة بطرس، البابا السابق بندكتس بعد استقالته،
من أجل إغراقها، ولكن هيهات لأن الرب يسوع قال لبطرس:"يا بطرس، أنتَ الصخرة
وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، حتى أبواب الجحيم لن تقوى عليها مدى الأدهار
والأزمنة" (متى 18:16). ومن المؤكد أن الكنيسة وروّادها لن يردّوا على
مهاترات في مزاد الدنيا لمصالح بائسة للنيل من كنيسة المسيح الرائدة في مجال
الحياة... وهاهي منذ واحد وعشرين قرناً لا تزال قائمة تنشد الخالق وتقود الإنسان
في حجّه الأرضي نحو سماء الرب... وهاهو الرب يرسل إليها قوة العلي لتضلّلها،
وإليها تعيد الجائع والعطشان والسجين والعريان والمريض، حاملة المرضى إلى الطبيب
الشافي مسيح الخلاص.
نحن المسيحيين نحيا في العالم ولكننا نفهم هذا الحدث الجلل لاستقالة البابا السابق
بندكتس السادس عشر في ضوء الإيمان مهما حاول العالم فهم القرار ووضع معايير
ومقاييس بحسب معاييره... إنه الإيمان الذي غذّاه البابا بندكتس لسنين طويلة وعبر
كلماته ومواعظه وخطاباته، وتوّج ذلك بإعلانه سنة الإيمان من أجل أن نحياه كما
وُسِمْنا به، وهو الذي علّمنا أن نحيا الإيمان الذي علّمه ليقول مراراً
وتكراراً "إن الكنيسة ليست لبطرس، وإنما للمسيح، الذي بدونه يصبح موجّه
الدفّة بحّاراً تائهاً بين عواصف التاريخ من خلال ذلك وهذه السقطة يجب على الرسول
بطرس ومعه كل خليفة له أن يتعلم أن قوته وحدها لا تكفي لبناء وقيادة كنيسة الرب.
ما من أحد ينجح وحده فيقدر ما بدا بطرس قادر وقدير فقد فشل منذ اللحظة الأولى
للتجربة... فبطرس هو الصخرة لأن المسيح هو الذي جعله كذلك... فالشر يريد دائماً
تشويه الحقائق ليخلق مَن يعارض مشيئة الله الخالق. وهذه الشجاعة التي يبديها
البابا ما هي إلا مَثَلاً يُحتذى بها... إنها العناية الإلهية. وهذه الشجاعة جعلته
أن يبقى أميناً خلال حبريته ووفياً لدعوته كأب ومعلّم، وبتواضعه علّمنا أن الأب
والمعلّم عليهما التنحّي يومياً ليكونا وفيَّين لدعوتهما.
بندكتس ومسيحيو الشرق
من المؤكد أن المسيحيين في الشرق ، أصبحوا أقلية هامة وهم الذين كانوا أصلاء
في بلدانهم، والخطر الذي يجابههم اليوم هو هجرتهم، وما دور الكنيسة إلا ثباتهم
وبقائهم. ولا أحد يمنع الكنيسة والبابا في الدفاع عن أبنائه المسيحيين المنتشرين
في الشرق كما في الغرب، في الشمال وحتى الجنوب، وهذا لا يعني اطلاقاً تدخلاً في
شؤون دول، إنما مسيحيو الشرق هم رئة الكنيسة الجامعة، وهم ليسوا مُلكاً لأحد إلا
لله ، ومؤمنين بالمسيح يسوع... أليس عليه أن يسهر على القطيع؟... أليس من واجب
الجامعة العربية أن تحميهم؟، وأن تكون واضحة في إدانتها لكل عمل إرهاب ضد
المسيحيين من الشرق كانوا أم من الغرب... فإنْ كانت هذه الأصوات خافتة أو عبر
بيانات خجولة، فماذا سيكون دور البابا؟... فدور البابا لا يحدده الجيران،
إنه يسمع الجيران ، ولكن دوره مسؤوليه ورعاية وسهر، فهو راعي القطيع وحتى
المرعى المختلفة عليه أن يذهب إليها ويدعوها لتكون رعية واحدة وراعٍ واحد
ومسؤوليته تتعدى منطقة آل بيته... إنها مسؤولية إنسانية أبوية.
خاتمة
الشجاعة ، الحكمة ، الاحترام ، رجل الأيمان ، الباحث عن الحقيقة ، هذه
الصفات التي تحلّى بها البابا السابق بندكتس السادس عشر تبقى مثالاً يُحتذى، حيث
أعطى للإنسانية بأسرها توهجاً بالنور الذي أضاء له كحاج إلى الجبل ليصلي وهذا
النور سيمكث مع الكنيسة ما بقيت الحياة. وما خدمته التي غادرها دون أية احتفالات
أو أي وداع رسمي إلا سِمَة من سِمات الخدمة المتواضعة عبر الإيمان الذي اعتبره
رسالة، فكرّس لخلفائه أبناء الكنيسة الجامعة سنة الإيمان كي يعلّمنا أن
الإيمان ما هو إلا الرجاء الذي نحمله عبر محبة الحياة. أنْ نحب لنؤمن، وأنْ نؤمن
لنرجو ونحب. إنها دعوة لنا جميعاً كي نحمل معه عبء المسؤولية، وأن نقدّر الصعوبات
التي تجابه الكنيسة الجامعة ومدى خطورتها وأهميتها، وبالتالي مسؤولية كل واحد منا
في المساهمة بحمل ومشاركة في هذه المسؤولية عبر الصلاة التي تحضر الرب معنا في المسير
فيوصلوا السفينة المقدسة إلى برّ الأمان وما ذلك إلا شجاعة رافقت البابا السابق
بندكتس بزهدها وخدمتها... إنها عطية من عطايا الله العديدة التي تمنح لحاملها
وللبشرية جمعاء عزماً وروحاً ورجاءً أميناً بالله لدوام الخدمة، فلم تكن يوماً
خدمة الباباوات في الكنيسة إلا شهادة حق لإله الحقيقة، وتجسيداً للحقيقة التي
تجسدت في الكلمة، يسوع المسبح واقعاً وفكراً وروحاً وإيماناً بجوهر الحياة
ومضمونها... إنها النبوّة، وما بندكتس السادس عشر البابا السابق إلا نبي الإيمان
في البحث عن الحقيقة. فهل عالمنا اليوم يبحث عن الحقيقة؟... بل هل يسأل عنها؟...
بل هل يريد الحقيقة؟... وما الحقيقة إلا بالرب يسوع الذي أخيراً كُلِّمنا به.
فلنبقَ أمينين له في حبنا للكنيسة وللبابا نائب المسيح على الأرض.
نعم لقد تفانى في خدمة الكنيسة حتى
يراها ضرورتها إلى المسيح عروساً طاهرة لا عيب فيها. عرف بندكتس أن الكنيسة أمانة
في عنقه وتحت رعايته، ولكنها عروس المسيح بعد أن أتمّ سعيه وجاهد يختار الاختفاء.
هو لم يشأ الظهور إلا ليدلّ على المسيح فكان السراج الذي يشهد للنور... لقد فتح
قلوب المؤمنين وكان لهم قدوة وأمانه لذلك يقول:"له أن ينمو ولي أن أنقص ( يو
3 :30 ). فلتبقَ ذكراكَ حية في قلوب أبناء الكنيسة... أيقونة ترسم أسمى
درجات التواضع وهداية لمسيرة إيماننا.
نحن ، لنبقَ أمينين على حب
الكنيسة والبابا ونثبت بعناية يسوع المسيح لنصل إلى ملء قامة المسيح. إنها مناسبة
مفرحة ومحزنة تبثّ في القلب مشاعر المحبة والتقدير لقداسة البابا ، الذي رسم لنا
طريق الحب الإلهي ، في هذا الزمن القاسي وأخذ على عاتقه هذا المعلّم الصالح
أن يعطينا درع الرجاء ، فقد قام بإدارة الكنيسة بروح الراعي الصالح ، فكان راعي
نفوسنا القريب. واندهش العالم من تواضعه وامتزج في شخصيته الحب والاحترام... إنه
الراعي القريب الذي حمل همّ الكنيسة، فقام بحوار مع الجميع ، وتقرّب مع الكنائس
الأخرى ، لتكون الوحدة في المسيح هي الهدف ، واقترب مع القريبين في
الرجاء... حاور الجيران بمحبة وحقيقة ، وقد جُرح مرات ومرات ، إنه الراعي ،
الحَمَل الوديع راجياً الوحدة، مملوءاً من حب إلهي عميق، مستسلماً بالإيمان .
سيبقى رجل حج كبير نحو الله ، حج التأمل والصلاة ، لخير وسند الكنيسة المجاهدة في
خضمّ هذه البحار المتلاطمة كي يحميها الرب "فقّوات الجحيم لا يمكن أن تقوى
عليها" ما دامت الصلاة سبيل الحياة ، وما دامت الحقيقة علامة النبوة ، فشكراً
، سنبقى نشهد لايماننا عبر رسالة المحبة وفي مسيرة الرجاء وهل اسمى من
المحبة ..يا حاج الله ، نعم وآمين .
كنيسة للجميع! (2) 2- أعمال الرّسل وآباء الكنيسة: الكنيسة النموذج!بقلم الخوري نسيم قسطون
بيروت, 21 مارس 2013 (زينيت) - في كتاب أعمال الرّسل، يرد ما يلي: أ-
"وكَانُوا مُوَاظِبينَ عَلى تَعْلِيمِ الرُّسُل، والـمُشَارَكَة، وكَسْرِ
الـخُبْز، والصَّلَوَات" (أعمال الرّسل 2: 42).
ب-
"وكَانَ الـمُؤْمِنُونَ كُلُّهُم مُتَّحِدِينَ مَعًا، وكَانُوا
يَتَشَارَكُونَ في كُلِّ شَيء، فَيَبِيعُونَ أَمْلاكَهُم ومُقْتَنياتِهِم،
ويُوَزِّعُونَ ثَمَنَهَا عَلى الـجَمِيع، بِحَسَبِ حَاجَةِ كُلٍّ مِنْهُم"
(أعمال الرّسل 2: 44-45).
ت-
وبِقُوَّةٍ عَظِيمَة، كَانَ الرُّسُلُ يُؤَدُّونَ الشَّهَادَةَ بِقِيامَةِ
الرَّبِّ يَسُوع. وكَانَتْ عَلَيْهِم جَمِيعًا نِعْمَةٌ عَظيمَة. فَمَا كَانَ
فِيهِم مُحْتَاج، لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ كَانُوا يَمْلِكُونَ حُقُولاً أَو
بُيُوتًا، كَانُوا يَبيعُونَهَا وَيَأْتُونَ بِثَمَنِ الـمَبِيعَات، ويُلْقُونَهُ
عِنْدَ أَقْدَامِ الرُّسُل، فَيُعْطَى كُلُّ مُؤْمِنٍ عَلى قَدْرِ حَاجَتِهِ.
(أعمال الرّسل 2: 33-35).
هذه الأمثلة توضح كيف أنّ الجماعة
المسيحيّة أسّست لمفهوم "المشاركة" ((communion الّذي يشبه شكلًا المفهوم الاشتراكيّ ولكنّه
يختلف عنه في الجوهر!
فالمسيحيّون الأول تشاركوا بمبادرات
حرّة من الأقدر تجاه الأقلّ قدرة وليس وفق آلية نظام يحدّد الحقوق والواجبات أو
يفرض على أحدٍ ما ليس بإرادته كتأميم الأملاك أو ما شابه، فضلًا عن أن هذه
المشاركة كانت نظام عيش وليس نظامًا سياسيًّا أو اقتصاديًّا!
وهنا ترد قصّة حننيا وزوجته لتؤكّد
على طابع الحريّة وعدم الإجبار في هذه المسألة. فالمذكوران باعا ملكًا لهما
واختلسا قسمًا من المبلغ وأعطوا الباقي للرسل على أنه الثمن الكامل... فلامهما
الرّسل على الكذب ومات كلاهما... (أعمال الرسل 5: 1-11).
أمّا في الفصل السادس من أعمال الرّسل
فنجد بأن الرّسل كلّفوا شمامسة بمهام الخدمة كي يعطوا الأولويّة لخدمة كلمة الله
وهو ما يدلّ على أنّ الرسل لم ينجرفوا إلى تحويل الكنيسة إلى مؤسّسة للشؤون
الاجتماعيّة بل تنبّهوا إلى أن دورها الرّسولي يشمل ناحية اجتماعيّة دون أن يقتصر
عليها فقط!
هذا ما أوضحه البابا فرنسيس في عظة
قدّاسة الأوّل كحبرٍ أعظم قائلًا: "إن لم نعترف بيسوع المسيح فذلك يعني أنه
يوجد شيء متعسّر. سنضحي منظمة غير حكومية، تعنى بالمساعدات، ولن نكون الكنيسة،
عروسة المسيح".
ستتبلور أكثر مقاربة
الكنيسة لمسألة الفقر والفقراء مع آباء الكنيسة وتكفي الإشارة إلى كتابات
القدّيسين يوحنا فم الذهب وباسيليوس الكبير لنفهم وقوف الكنيسة إلى جانب المحتاج
وتأنيبها للغنيّ الأنانيّ لدرجة حدت بأحد الآباء إلى القول: " إن كنت تملك
ثوبين في خزانتك فواحدٌ لك وأمّا الثاني فقد سرقته من الفقير"!!!
"القبر الفارغ" .. إنبثاق
البشارة والحياة ... النص الكاملبقلم نبيل جميل سليمان
روما, 21 مارس 2013 (زينيت) - مرقس 16 : 1 - 8 ولمَّا مَضى السبتُ، أشترت
مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب، وسالومة، بعضَ الطيبِ ليذهبنَ ويَسكُبنًهُ على
جسدِ يسوع. وفي صباحِ يومِ الأحدِ، عِندً طُلوعِ الشمسِ، جٍئنَ إلى القبرِ. وكانَ
يقولُ بَعضُهُنَّ لبَعضٍ: "مَن يدحرجُ لنا الحجرَ عن بابِ القبرِ؟"
فلمَّا تَطلَّعنَ وجَدنَ الحجرَ مُدحرَجاً، وكانَ كبيراً جداً. فدخلنَ القبرَ،
فرأينَ شاباً جالساً عن اليمينِ، عليه ثوبٌ أبيضُ، فأرتعبنَ. فقالَ لهنَّ:
"لا ترتعبنَ ! أنتُنَّ تطلبنَ يسوعَ الناصريَّ المصلوبَ. ما هو هنا، بل قامَ،
وهذا هو المكانُ الذي وضعوهُ فيهِ. فأذهبنَ وقلنَ لتلاميذِه ولبطرسَ" هو
يسبقكم إلى الجليلِ، وهناكَ ترونهُ كما قال لكم". فخرجنَ من القبرِ هارباتٍ
من شدةِ الحيرةِ والفزعِ. وما أخبرنَ احداً بشئٍ لأنهنَّ كنَّ خائفاتٍ.
* تمهيد:
عندما ننظر إلى نصوص
"العهد الجديد" التي تتكلم عن القيامة – الأساس الذي يرسو عليه إيماننا
المسيحي – نقف إزائها متسائلين بأنذهال: يا ترى، ما الذي حدث حقاً بعد موت
المسيح!؟
أن مضمون القيامة هو
مضمون إيماني نادى به الرسل والمسيحيون الأولون، في كرازتهم وكتاباتهم، في اعقاب
خبرة إيمانية عميقة جعلت منهم "شهوداً" ليسوع الناهض من الأموات. فنحن
نتمسك بإيماننا الرسولي – أي نؤمن بما يؤمن به الرسل – ولكن ليس بالضرورة ان يكون
بنفس السياق الأختباري للرسل، ولا مثل ألفاظهم وتعبيرهم. فخبرة الرسل تناسب
تعبيرهم مثلما خبرتنا الإيمانية تناسب لغتنا الإيمانية.
فالروايات الإنجيلية لا
تبغي تقديم تقرير مباشر ومفصل لحدث القيامة – وهو حدث يخرج عن نطاق الرؤية الحسية
– لذا فإنها لا تطالبنا بتصديق ما ترويه لنا من "أحداث"، وإنما تطالبنا
بأن نؤمن بقيامة الرب. ونقوم بدورنا، وعلى خطى الرسل، بخبرة إيمانية مماثلة تجعلنا
مؤهلين لنكون "شهوداً" للقائم من بين الأموات. بهذا المنظار يجب أن نعيد
قراءة روايات القيامة بحسب كل إنجيلي وفي سياق إنجيله – كونها جزءاً من كل – ولن
تدهشنا حينذاك الأختلافات الكثيرة بينهم، في الظهورات وظروفها والمكان والزمان
والأشخاص الذين يحضرون، وقد أنطلقوا كلهم من قصة "القبر الفارغ" وأضفوا
عليها نظرتهم اللاهوتية وأنتهوا إلى "الترائيات" أو
"الظهورات" التي تعكس خبرة اللقاء بالمسيح الحيّ وتشكل نقطة الأنطلاق
للرسالة.
* التناقض الزمني بين القديم
والجديد:
حين نقرأ رواية
"مرقس" (16 : 1 – 8) عن قيامة يسوع نرى أننا أمام "حدث" محدد
في الزمان والمكان وفيه أشخاص وأعمال. وهي من اكثر الروايات بساطة، ولكنها تكشف
بعمق عن ان قيامة الرب حققت "عبوراً": من الزمن الديني اليهودي القديم
("مضى السبت" لا بمعنى يوم السبت) إلى الزمن الكوني والدنيوي الشامل
("الأحد" اليوم الأول من الأسبوع). اي من الظلام (أنقضاء السبت) إلى
النور (فجر الأحد – طلوع الشمس). فنحن هنا لسنا بإزاء تحقيقات مباشرة لأحداث حياة
يسوع، وأنما بإزاء "شهادات" إيمانية كتبت في ضور قيامته، فقبل أن تدوّن
هذه الروايات كانت هناك "كرازة" شفهية تعلن أن يسوع المصلوب "قام
في اليوم الثالث". وتلك هي صيغة إيمانية تعبر بعمق عن حقيقة القيامة، في
مضامينها وأبعادها، والتي هي أساس الإيمان المسيحي. فقد حاول الرسل والمؤمنون
الأولون أن يعبروا عنها بأوجه عديدة وبصيغ مختلفة، ويجب أن لا ننسى، أن ما دوّنه
الإنجيليون – وهم لاهوتيون أكثر من كونهم روائيين أو مؤرخين – إنما دوّنوه بعد
القيامة بسنوات وفي ضوء إيمانهم بالقيامة، فأضفوا على الأحداث حصيلة خبرتهم
الإيمانية بذاك الذي: "أقامه الله وجعله رباً ومسيحاً" (أعمال 2 : 36).
وكان لهذه الصيغة مدلولات لاهوتية تتجاوز المفهوم الزمني: فلسنا بإزاء حدث تم غداة
اليوم الثاني بعد الصلب، وأنما بإزاء حقيقة جوهرية تعلن بأن "اليوم
الثالث" هو "يوم آخر الأزمنة" الذي حل بقيامة يسوع، وفقاً للكتب
المقدسة: "كتب أن المسيح يتألم ويقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، وتعلن
باسمه التوبة وغفران الخطايا ..." (لوقا 24 : 46). أي أنهم لم يقصدوا بها
أشارة زمنية، وأنما أعلنوا إيمانهم بأن "يوم آخر الأزمنة" (القيامة
العامة) قد جاء بقيامة الرب يسوع. وهكذا أنتقلنا من عبارة تشير إلى ضآلة الزمن
(يومين – ثلاثة) إلى عبارة تدل على يوم آخر الأزمنة. فالنص الإنجيلي لا يقول أن
"قيامة" يسوع تمت بعد ثلاثة أيام ولا تذكر شهود عيان لها، وأنما تعلن عن
"حقيقتها" عبر رواية زيارة النساء إلى قبر يسوع الفارغ يوم الأحد
"الأول من الأسبوع" الذي هو بدء فجر جديد، أنها بالتالي تحملنا على أن
نؤمن بقيامة المسيح التي هي فاتحة عهد جديد للبشرية.
* التناقض المكاني بين
الأنغلاق والأنفتاح:
أن "قيامة"
يسوع قد غيرت مجرى التاريخ، فهو الحي الذي سيتحتم علينا السير على طريق أكتشافه
واليقين من حضوره حتى نهاية التاريخ. فـ "الحجر قد دحرج، وكان كبيراً
جداً" لكنه لم يكن أكبر من قوة الله التي أقامت يسوع ممجداً. فالقبور كلها
سوف تنفتح والحجارة سوف تدحرج ويقوم الذين في القبور إلى الحياة. وهذا ما يوحي به
نص "مرقس" بالأنتقال من "القبر المغلق" الذي يحجز الأموات إلى
"القبر المفتوح" المنفتح إلى الحياة، فهو يخبرنا عن "الحياة"
داخل القبر ذلك المكان الخاص بالموت. فعندما نعرف مفهوم القبر عند اليهود، سنفهم
بعمق مغزى عبارة "مرقس": "أنه قام وليس ههنا"، أنها حقاً
عبارة ذات دلالة رمزية. فالقبر عالم الأموات، عالم الزوال والفناء. ولذلك فالقبر
ليس المكان المناسب للألتقاء بيسوع، الذي لا يمكن أن يموت. فاللقاء يجب أن يتم في
"الجليل"، مكان أنطلاق البشرى بملكوت الله. وهذا معنى رمزي آخر للقيامة
يقدمه لنا "مرقس" في الأنطلاق من أورشليم (رمز المنغلقين على أفكارهم
ويقتلون الذين عندهم أفكارغير أفكارهم) إلى الجليل ("جليل الأمم"
بالمعنى اللاهوتي وهي أرض الأنفتاح على العالم). فكأني بالنص يقول: "أن يسوع
عاد مرة أخرى إلى الجليل لمواصلة البشارة، وأن البشارة بملكوت الله هي يسوع، ويسوع
هو البشارة بملكوت الله". فقد تغلب "جليل" يسوع على "أورشليم"
اليهود، وسيعيش جليل الأمم بينما تموت أورشليم اليهود ولن "يبقى فيها حجر على
حجر". وبعد هذه الغلبة لن تمضي ايام يستولي جليل يسوع على أورشليم اليهود
لتصبح أورشليم من جديد المنطلق الرسمي لبشارة الرسل نحو العالم أجمع:
"وتكونون لي شهوداً في أورشليم، وفي جميع اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض"
(أعمال 1 : 8).
* التناقض العملي للنسوة بين مسح
الجسد وتلقيهن البلاغ ...
وينقلنا النص من مفاجأة
إلى مفاجأة، إزاء السر الذي يعكسه "خوف" النساء وذهولن: سر يكشفه
الملاك، ونداء إلى الكف عن مشاهدة يسوع بوجهه الإنساني والعدول عن الرغبة في
"تصور" من لم يعد من هذا العالم. فما زال السر يلتحف يسوع المسيح وأبن
الله، هذا السر ستعلنه الرسالة المسيحية إلى العالم أجمع. لذا نراه – أي الإنجيلي
مرقس – يدخل النسوة إلى القبر الفارغ ليشاهدن شاباً "عليه حلة بيضاء"
(نقيض سواد القبر)، يطمئنهن قائلاً: "تطلبن يسوع الناصري المصلوب. أنه قد
قام....". جاءت النساء ليطيبن جثماناً، فرجعن ببلاغ. أنتظرنَ ليجدنَ الموت،
فإذا أمامهنَ شخص حيّ بلباس يدل على الظفر والأنتصار، لا على الذلّ والعار. أتين
ليغلقن يسوع في الموت، فوجب عليهن أن يبشرن بأنه حي. فالشاب "الجالس عن
اليمين" والمتشح بالبياض يوحي بالوجه الجديد ليسوع الناهض والممجد، الذي
يحوّل أنظار النسوة من جثة جئن ليحنطنها إلى بشرى يحملنها فيحصلن على
"رؤية" جديدة ليسوع ... ومما لا شك فيه أن رواية مجئ النساء إلى القبر
تضمنت على حد تعبير الآب شربنتييه: "شيئاً من فن التحرير بهدف أعلان حقيقة سر
القيامة". فـ "يسوع" لم يعد جسداً يلمس، بل أصبح "كلمة"
يجب أعلانها. وأجدى الطرق التي يبقى بها حاضراً في التاريخ هي التبشير، وهنا سترى
النساء ويرى الرسل يسوع القائم من بين الأموات، في الجليل حيث يبدأ عمل التبشير به
إلى أقصى العالم ونهاية التاريخ. فبهذا "الإنجيل" المسموع والمكتوب أمر
المسيح رسله أن يبشروا الخليقة كلها، وأن يعلنوه مصدراً لكل حقيقة خلاصية وأساساً
لكل شريعة أخلاقية وقاعدة للسلوك البشري بعد أن أعطى لهم النعم الألهية الكافية
وقوة الروح القدس. لذا بات لزاماً اليوم من كل مسيحي مؤمن أن يكون بشيراً، أن يشهد
لإنجيل المسيح بسلوكه المستقيم ومحبته لكل الناس دون تمييز ولا أستثناء، فكل واحد
منا هو رسول البشارة الجديدة. فالبشارة شرف وفخر وخدمة في آن، وهي كرازة وشهادة
أيضاً بالسيرة الحسنة والمثل. فكلمة الرب ليست نوراً يهدي العقل والقلب والضمير
وحسب، بل هي حياة تحيي النفس حين تترجم اعمالاً ومواقف وممارسات عدل ورحمة وصدق
ومحبة.
* الخاتمة:
يوضح لنا الآب فرنسوا
فاريون اليسوعي، العلامات التي ظهر بها يسوع القائم من الموت، ملخصاً ذلك:
"يجيب الإنجيل، هناك علامتان الواحدة سلبية (القبر الفارغ)، والأخرى إيجابية
(ترائي يسوع للرسل)". نفهم من ذلك، أن الإيمان بقيامة الرب يسوع لم يعبر عنه
"القبر الفارغ" صبيحة "اليوم الأول" بقدر ما عبرت عنه
"ترائيات" يسوع للأحد عشر ولبعض التلاميذ، والتي ختم بها الإنجيليون
شهادتهم عن يسوع الناهض من القبر. فقد أجمع الإنجيليون على الأنطلاق من رواية
"القبر الفارغ" للتعبير عن قيامة الرب، فلأن هذه الرواية: "نشأت في
اعقاب حج المسيحيين الأولين إلى قبر يسوع، إلى قبر فارغ، ويحتفلون فيه
بإيمانهم"، وهذا ما يؤكده لنا الآب شربنتييه. من هنا نشأت رواية أولى أعاد كل
من الإنجيليين النظر فيها على طريقته وموهبته الخاصة للتعبير عن فكره اللاهوتي. أي
أن هذه الرواية هي صدى "أحتفال طقسي" كان يتم أبان "حج"
المؤمنين الأولين إلى القبر: "احتفال بذكرى "الحدث" بمجئ النساء
إلى القبر وعدم عثورهن على جثمان يسوع، أستنارت – فيما بعد – بالإيمان الذي نشأ
بفضل "الترائيات" لتصاغ في رواية تصلح للكرازة والتأمل في سر القيامة
عند قبر يسوع "الفارغ".
وأخيراً، يمكنني القول
بأن كلتا "العلامتين" تعبر تعبيراً متكاملاً عن حقيقة اختبار الرسل
للقائم من بين الأموات. أختبار أدركوا من خلاله أن هناك أتصالاً بين حياة يسوع
الزائلة ووجوده كقائم من الموت. فعاد إيمانهم إلى الحياة، بعد أن غرق في ظلمات
الحيرة والقلق والأضطراب. وعلى أثر ذلك فهموا يسوع، لأنه "المشيح"، وجب
عليه أن يتألم ويموت. وأصبحوا على يقين تام من أن يسوع هو حي، فهو قد فتح في شخصه،
مرة واحدة، أبواب الحياة الحقيقية. أي أنه هو القيامة ... وما يكفل هذا اليقين
الذي يتخطى الطبيعة البشرية هو بذل الحياة حتى الأستشهاد.
أخبار
الإحتفال بعيد الأم في مستشفى تل شيحا
زحلة, 21 مارس 2013 (زينيت) - بمناسبة عيد الأم، ترأس راعي ابرشية
الفرزل وزحلة والبقاع للروم الكاثوليك سيادة المطران عصام يوحنا درويش قداساً
احتفالياً في مستشفى تل شيحا – زحلة بحضور مديرة المستشفى الآنسة ماريزا مهنا،
الراهيات العاملات في المستشفى واعضاء الجسم الإداري والطبي والتمريضي والموظفين. بعد الإنجيل المقدس القى المطران
درويش كلمة هنأ فيها الأم بعيدها ومما قال " الكتاب المقدس يعطي اهمية خاصة
للأم والعائلة ويتحدث عن الأم ودورها وأهميتها، والمسيح نفسه إختار أماً له
وأعطانا ايها في آخر حياته، وهكذا اصبحت العذراء مريم أمنا جميعاً"
وأضاف " الكتاب المقدس يعطي
أهمية للمرأة ودورها في المجتمع ودورها في الكنيسة ودورها في التبشير، ولكن الأم
اليوم هي أيضاً الكنيسة. لماذا؟؟
الأم تعلّم وتحضن وتربي، والكنيسة
ايضاً تعلّم وتحضن وتربي، الكنيسة أم تعطينا الإيمان والأسرار وتقودنا في حياتنا
الروحية وتقودنا في طريقنا للقاء بعضنا البعضولمحبة بعضنا البعض لكي نبني بيتنا
السماوي"
وتابع سيادته " الأم حسب الآباء
القديسين هي كنيسة مصغّرة، العذراء حملت يسوع في احشائها، العذراء هي أول كنيسة ،
والأم هي كنيسة مصغرة لأنها أول من يعطي الإيمان لإبنها حتى ولو في أحشائها. علينا
كلنا اليوم ان نكون حراساً للإيمان وحرّاساً للمستشفى، فالمستشفى لا يقوم الا اذا
كان كل وحد منكم حارساً لنفسه، حارساً للمحبة التي نخلقها مع بعضنا البعض، حارس
المحبة والحنان تجاه مرضانا وتجاه اهلهم، كل كلمة حلوة تقولونها للمريض هي شفاء
له، وكل كلمة توجهونها للأهل هي تعزية وشفاء لهم ولمريضهم "
[right][color=black][font=Times New Roman]وختم درويش " لنصلِ الي