فيكتور هوغو قضى خمسَ عشرةَ سنة في المنفى بسبب سياسات نابليون الثالث الحمقاء الذي طاردهُ في باريس حتى اضطرَّهُ إلى تغيير مأواه 27 مرة خلال 2-6/12/1851 ثم هرب إلى بلجيكا ونشر كتابه (نابليون الصغير) فشرعوا قانوناً مختصَّاً بهِ بمفرده سميَّ قانون فيديه، فركبَ البحر إلى إنكلترا، وكتبَ يقول (القانون قوة، فماذا هناك خارج القانون؟ العنف.
ومن ثم ليس هناك غير قوة واحدة هي القانون، والنجاح في خارج الحقيقة والقانون إنما هو نجاح ظاهري ينخدع فيه الطغاة بنظرهم القصير، فيخالون الكمين الناجح نصراً، لكنه نصر ملؤه الرماد والأجداث) . وعن حكومة نابليون الثالث وانتخاباته المزيفة يقول (الحكومة التي وُلِدَت بالقوة، لا بدَّ أنْ تموت بالقوة) لأنَّها لا تهتم بشيء سِوى بجانب واحدٍ فقط وهو كيفية الاحتفاظ بالسلطة، وستقودها مخاوفها الوهمية إلى القمع والاضطهاد والقتل والسجن والتعذيب إلى أنْ تقتلَ نفسَها بنفسِها، فالسلطة الفاسدة لا تفسد إلا عند خروجها عن دائرة القانون ومبادئ العدالة والمساواة، وهي بخروجها تفسد المجتمع، وهي بديهية في علم السياسة، بدأ بها الجاحظ رسالة الفتيا (كان يقال: السّلطان سوق، وإنّما يجلب إلى كلّ سوق ما ينفق فيها. وأنت أيّها العالم معلّم الخير وطالبه، والدّاعي إليه، وحامل النّاس عليه… وقد قال أهل العلم، وأهل التّجربة والفهم “يزع الله بالسّلطان أكثر ممّا يزع بالقرآن” وقد كان يقال: شيئان متباينان، إن صلح أحدهما صلح الآخر: السّلطان والرعيّة) . ويُصلِحُ أحدهما الآخر من خلال خِطابات تنطلق من السلطة وتمتلك قوة التأثير تنتجُ نوعاً من الحقائق الواقعية التي تنتشر في تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع.
العقلانية لا تحتاجُ شيئاً أكثر من رَباطة الجأش والتثبت من النقطة المعرفية قبل القفز إلى ما يليها، مما يجعل الواقع العقلاني نَسَقَاً من المبرهنات والتجارب تتوافق مع التحليل المنطقي للقضايا المعرفية بعيداً عن أشباح الميتافيزيقا. ومن العقلانية أنْ ننظرَ الرجل وقد نجحَ في إدارة عائلته وأبنائه وإخوته ونعتبر ذلك ميزةً له في حال ترشُّحِهِ للمناصب العامة، أمَّا إذا كان من شُذَّاذ الآفاق السكارى الحشاشين، قد دَمَّر عائلة واثنتين وَسُئِلَ أفلاطون (مَنْ أَحَق النَّاس أَنْ يؤتمنَ على تَدْبِير الْمَدِينَة فَقَالَ من كَانَ فِي تَدْبِير نَفسه حسن الْمَذْهَب) لأنَّ (الْملك هُوَ كالنهر الْأَعْظَم تستمد مِنْهُ الْأَنْهَار الصغار فَإِن كَانَ عذبا عذبت وَإِن كَانَ مالحا ملحت) ، فكيف ينجحُ في إدارة النَّاس مَنْ فشلَ في إدارة نفسه؟ وكيف يسوس النَّاس مَنْ عجزَ عن إدارة أهل بيتهِ؟ وكيف يهابه الناس ولا أحد من أهلِ بيتهِ ولا أصدقائه ولا حاشيته الفاسدين يهابهُ.
الحقيقة لاذعة، طالما كانت مؤذية، الحقيقة هي الجحيم الذي نحاول الفرار منه، أو تجاهله: الرئيس الأمريكي الثالث والثلاثون هاري ترومان كان يلقي خطابا في حملته الانتخابية 1948 يهاجم الجمهوريين، فصرخَ جمهوريٌّ من بين الحشود: هاري يمنحنا الجحيم، فردَّ ترومان بهدوئه المعتاد وسرعة بديهيته (أنا لم أعُكِّرْ صَفْوَ حياتهم أبداً، أنا فقط أخبرهم بالحقيقة، وهم يرون فيها جحيما) . والحقائق التي تتبناها السلطة وتحاول الترويج لها ليست سوى سيطرة ناعمة وهيمنة غالباً ما يجري تجاوزها بعدم الوقوف عندها أو التفكير فيها. جاك نيكلسون في خطابِه في حفل توزيع الأوسكار 1975 بمناسبة فوزهِ عن بطولته فيلم (أحدهم طار فوق عش الواق واق) قال (إنَّ منحي الجائزة يبرهن على أنَّ هناك عدد من المجانين في أكاديمية الأوسكار كما في أيِّ مكانٍ آخر). وطوفان الفساد في بلدي يبرهن فرضية رقم (1) لو أنَّ ألف شخصٍ من الصومال بأسلحة بدائية أرادوا احتلال بغداد لاحتلوها في غضون شهر واحد ما لم تتدخل إيران وأمريكا والغرب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا يؤدي بنا إلى فرضية رقم (2) أنْ ليس ثَمَّة مجانين ولا عقلانيين في مكانٍ أكثر مما في بلادي!!