معرض إسماعيل خياط .. فراديس عاصفة

افتتحت غاليري الأرجوان (بئر حسن ـ مقابل تلفزيون الميادين) معرضاً للفنان العراقي إسماعيل خياط، بعنوان «أسماك وطيور وأقنعة». فيه تتحرك الأشكال والخطوط والألوان المرسومة عند إسماعيل خياط بدوافع ذات طبيعة خطوطية طفولية من التصميم الهيكلي لكائنات قابلة للمحو أو للاختزال: بشر عدوانيون، أقنعة، أسماك وطيور، منخرطة في تجاذبات جنسانية راقصة، تتبادل الالتهام والافتراس الضاري الذي لا يرحم في مراوحات لا تنتهي بين عوالم الطبيعة البكر وعوالم الإنسان والتاريخ.
يعيد خياط تكرار أشكاله وخطوطه بإصرار عنيد ويستلهم ذلك التكرار من أزمان غابرة موغلة في بدايات التاريخ العراقي الجبلي في الشمال. تهويماته بدائية، حيث طراوة الحضور التشكيلي الكهوفي.. لا يهتم خياط بالنتائج لدلالات أشكاله، بل يهتم بالمادة الإلهامية الأولى التي لم تدخل طور الحضور الآني واليومي المعيش. صورة عن الأقنعة، ممتلئة بالأحزان الملونة بفرح التضاريس الجبلية في الشمال العراقي.
يعكس خياط وحدة المخلوقات في روابط مستمرة في التاريخ والطبيعة. تحرك رسوماته السمكية والطيرية تحديداً، شبقية مائية هي الألم الهيولانية التي تنساب تصاويره بين ضفافها. عاش ولا يزال يعيش في منطقة جبلية ممتلئة بالكهوف وبالسواقي النهرية التي تستحضر علاقات سرية أو مضمرة بين الأسماك والبشر منذ حضارات العراق القديمة التي كانت تشبِّه النساء بالأسماك. وتبرز التكوينات الجبلية ضمن الوجوه البشرية أو في اقنعتها. يستعين خياط في تلاوينه بزخارف أثواب النساء الكرديات. تبدو الطبيعة الجبلية الكردستانية عند خياط، محايدة ونائية عن الفن الانطباعي الواقعي. لكن الوجوه والأقنعة والكائنات الحيوانية التي يرسمها خياط متأثرة بأحداث الحروب التي أصابت كردستان والتي يلونها بفرح ربيعي متنوع ومتعدد. كأن خياط يريد أن يقلب الطاولة التشكيلية على أحزان العراقيين المدمنة على ندب التاريخ الكربلائي البعيد والقريب. في المعرض انخطافات تلوينية مبهجة لعين المتفرج في تنوعات الفراديس والجهنمات الطبيعية والبشرية.
في زاوية من المعرض، أحجار وحصى جمعها خياط من الشاطئ البيروتي ورسم عليها انطباعاته التشكيلية جامعاً بين تضاريس بيروت البحرية وصخور كردستان وكائناته. أحزان خياط التشكيلية مغلفة بالألوان المشرقة والساطعة المتبدلة بين اللوحات في أكثر من مضمون أو فكرة أو مقولة أو تشكيل. ويعود تقليد رسم الأقنعة إلى التراث الآشوري والكلداني والبابلي القديم. وهناك رسوم منمنمة تصويرية وسردية لحكايات من الفلكلور الكردي لشمال العراق. أسلوب خياط التشكيلي واضح لكنه مركب ومتداخل. وجوه وأقنعة وأسماك وطيور تختزن تجارب متنوعة ولا تعكس تجربة واحدة. حكايات متصلة بعضها ببعض. ألوان ساطعة لكنها مشبعة بالتراب والماء وأنوار الشمس في دوران الفصول والأشهر والأسابيع والأيام حول ذاتها المتبعة بالألوان السبعة وما يتفرع منها ويتداخلها بتدرجات إضائية متناسقة. تحكي كل لوحة موضوعا منفصلاً بحد ذاته إلا انه متصل بمواضيع اللوحات الأخرى. وكأن سياق اللوحات يحكي سيرة ملحمية لتعامل خياط مع التاريخ العراقي ومع الطبيعة الكردستانية بناسها وشخوصها وأحداثها المؤلمة أو المفرحة واحتفالاتها أو مآتمها. واضح عنف الطبيعة الشمال عراقية الجبلية في الوجوه وأقنعتها. لكنه عنف لا يثير الاشمئزاز أو الغضب، بل يحرك مكامن التأمل عند المتفرج. مساحات اللوحات افتراضية وتجريدية، وليست مقاييس لمساحات تشكيلية مكانية محددة. تكتنف معاني اللوحات أحاسيس نابضة بالموت المتناسل والمتسلسل في جسد الطبيعة والحياة العراقية، برغم ازدحامها بالألوان الحية والدافئة حيناً والباردة والداكنة حيناً آخر. هكذا، يسعى خياط إلى إعطاء وحشة الجبال الكردية وكائناتها وجمالياتها.

السفير