بقلبٍ واجف و يدين مرتعشتَيْن أنْعِـيني لأوّل مرة. حينما سكنتُ ذلك الجدار في أوّل الأمر، لم أكُن مجرَّد صورة فوتوغرافية و بعض الأحلام.. كنت أظنني أكثر من ذلك بكثير، و لذلك رفضت بسيادة مطلقة أن يشاركني أحد موقعي الأثير. كنت أراقبهم يمضون قريباً مني، أحيانا يرسلون إلي تحاياهم و قبلاتهم، و أحيانا يفطنون متأخرين إلى أنني هنا أتلصَّصُ على عبورهم الصّامت و أفعالِهم المُختَلَسة. لم يجرأ أحد في البداية على محادثتي. لكن مع مرور الزمن غدا وجودي وسطهم مألوفاً، حكوا لي عن أيامهم و أفراحهم. كشفوا لي أحلامهم و شاركوني أحزانهم و أطلعوني على قصص حبّهم، لم يكن أي منهم ينتظر تعليقي على حديثه أو إعجابي بموقفه أو مشاطرتي لحلْمه، كانوا يكتفون بإفراغ ما في جعبتهم، ثم يمضون مسرعين إلى محادثات أخرى و انشغالات أكثر استعجالاً من جمودي الذي لا يغيِّر شيئاً. في البداية لم أكن أشعر بالاختلاف، لم أكن أعي التغيُّر الطارئ على علاقاتهم بي، لكن مع مرور الأسابيع و الأشهر بدأ الشك يعتور طمأنينتي المسالِمة، أراهم يكبرون و الزمنُ لا يختبِرُني، أراهم يسافرون و الجدارُ يعتقِلني، أراهم يهاجرون و الرحيل لا يبلُغُني ريحُه. قبل قليل اعتلى الصغير عُمر الكرسي الخشبي و قبّلني على الجبين، لقد كبر كثيراً، لكنه ما زال الأصغر، حين نزل عن الكرسي و حمل حقائبه الكثيرة و أغلق الباب خلفه، انتظرته أن يعود ويحملني معه، لكنه لم يعد. تركني وسط بيت على مقاس الذكريات و قبر ليس على مقاسي، و غادر هو الآخر. أصل أخيراً إلى حقيقتي المرّة.. بقلبٍ واجف و يدين مرتعشتَيْن أنْعِـيني لأوّل مرة أنا الصورة المعلَّقة على الجدار. الصباح الجديد