على اثر الهزيمة التي مُني بها نظام صدام حسين على يد قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية في الكويت شجَّعت وحَفزت العراقيين في الجنوب والشمال للشروع والبدء بالانتفاضة على الحكومة العراقية حيث انطلقت هذه الانتفاضة من مدينة البصرة عندما قام أحد الجنود بإطلاق النار على تمثال (صدام حسين) في ساحة سعد في يوم 1 آذار 1991 وكان هذا كافياً لإنطلاق انتفاضة شعبية كبيرة في المدينة المذكورة امتدت لاحقاً الى مشارف العاصمة بغداد. شرارة الانتفاضة من رانية: هذه الانتفاضة بدورها حَفزت مواطني كردستان نفسياً للاستعداد لها، وكان لقيام مفرزة من رجال أمن السلطة بتاريخ 5 آذار 1991 بحملة اعتقالات واسعة ضد مواطني قضاء رانية التابع لمحافظة السليمانية، مما حدا بمواطني القضاء المذكور لإشعال شرارة الانتفاضة التي اندلعت وامتدت جنوباً. وكان لقائد الفرقة (24) المرابط آنذاك بين مركز قضاء رانية ومركز ناحية جوار قرنه الدور المُشرّف في منع سفك الدماء ومنع ضرب الجماهير المنتفضة، وقد أشار الى ذلك أحد مستشاري أفواج الدفاع الوطني والذي التقى مع مجموعة من الأشخاص مع الرئيس السابق (صدام حسين) في عام 1991 وبعد عدة أشهر من أحداث الانتفاضة، وقام التلفزيون الرسمي العراقي ببث اللقاء حيث ظهر المستشار المذكور وهو يتحدث عن تفاصيل ومجريات اندلاع الانتفاضة الشعبية في المنطقة المذكورة، ومن أنه طلب من قائد الفرقة (24) استعمال الاسلحة الكيمائية ضد المنتفضين، إلا أن القائد المذكور لم يستجب لطلبه وكانت النتائج انهيار مقاومة القطعات العسكرية في المنطقة وعلى أثر ذلك تم اطلاق تسمية بوابة الانتفاضة على مدينة رانية لانطلاق شرارة احداث الانتفاضة منها. امتدت الانتفاضة الى مدينة السليمانية يوم 7 آذار 1991 حيث استطاعت قوات البيشمركة مع الجماهير في السيطرة على معسكرات الجيش ومقرات الحزب الحاكم ومديرية ومراكز الشرطة ومبنى المحافظة وجميع الدوائر الأخرى في غضون ساعات قليلة باستثناء مبنى مديرية أمن المحافظة حيث تجمع فيه عدد كبير من المسؤولين الحكوميين والحزبين من بينهم (المحافظة، مدير الأمن، مدير الشرطة، أمين سر فرع السليمانية لحزب البعث) وأبدى الموجودون في البناية المذكورة مقاومة عنيفة استمرت حوالي عشرين ساعة تقريباً، رغم كون البناية محاصرة من كل الجوانب وتهاجم بمختلف الاسلحة اعتقادا منهم بأن الحكومة لن تتركهم وسوف تنجدهم إلا أنه في نهاية المطاف خابت آمالهم واستسلموا لقدرهم المحتوم رغم النداءات التي أرسلها المحاصرون في البناية إلى سلطات الحكومة في كركوك وبغداد عبر أجهزة اللاسلكي المتوفرة لديهم بسبب انشغال السلطات الحكومية في ذلك الوقت في قمع الانتفاضة في مناطق وسط وجنوب العراق. سقوط كويسنجق وشقلاوة: سقطت مدينتا كويسنجق وشقلاوة يوم 9 آذار 1991 وبذلك أصبحت القوات العسكرية العراقية الموجودة شمال هاتين المدينتين في مناطق شقلاوه، حرير، خليفان، راوندوز، ديانا، جومان، حاج عمران على الحدود الإيرانية وقضاء الزيبار على الحدود التركية محاصرة وسلمت نفسها بكامل أسلحتها ومعداتها إلى قوات البيشمركة والجماهير والتي تعاملت مع هؤلاء الأسرى والذين بلغ عددهم أكثر من ثمانين ألف منتسب (ضباط، مراتب، جنود) من قوات الفيلقين الأول في كركوك والخامس في أربيل معاملة إنسانية حسنة للغاية عدا بعض حوادث التجاوز البسيطة، حيث قدمت لهم المعونات من مأكل ومشرب ومبيت وعلاج لغاية عودتهم إلى أماكن سكناهم بعد تخييرهم بين الرحيل أو البقاء، حيث اختار البعض منهم البقاء خوفاً من بطش النظام وهذا نقيض ما حصل لمنتسبي القوات العراقية المنسحبة من الكويت في المناطق الجنوبية من العراق. خطأ جسيم: وفي يوم 10 آذار 1991 وصلت شرارة الانتفاضة الى ناحية صلاح الدين (مصيف صلاح الدين) المطل على مدينة أربيل، من الجدير بالذكر أن أشير الى القرار الذي اتخذته قيادة حزب البعث قبل اندلاع الحرب البرية والقاضي بتوزيع السلاح على المواطنين كافة دون النظر إلى انتمائهم وولائهم وقد جوبه هذا القرار بالرفض أول الأمر من الكثير من المواطنين في مدينة أربيل إلا أنه ونتيجة ممارسة تنظيمات حزب البعث الضغط عليهم أصبحت بحوزة الكثير منهم أسلحة (كلاشنكوف)، وقد فطنت القيادة المذكورة الى جسامة خطئها قبل اندلاع الحرب بأيام قليلة وبعد فوات الأوان فقررت مجدداً سحب هذه الأسلحة من المواطنين والذين رفض الكثير منهم إعادتها وتزامن ذلك مع بدأ العمليات العسكرية منتظرين ما ستؤول إليه الأوضاع السياسية والعسكرية تبعاً لمجريات أحداث الحرب المقبلة. وصول الحركة اطراف اربيل: ليلة 10-11 آذار 1991 امتدت شرارة الانتفاضة الى القرى والمجمعات السكنية في أطراف مدينة أربيل وكانت حركة الجماهير المتجهة نحو العاصمة الصيفية للعراق (أربيل) كما كان يسميها النظام السابق، وعاصمة اقليم كردستان بعد ذلك توازيها حركة أخرى لضباط وجنود وحدات الجيش العراقي ابتداء من الحدود الايرانية والتركية وعلى طول الخط باتجاه مدينة أربيل سيراً على الأقدام بمجموعات بعد تركهم لمقراتهم ومعسكراتهم بمعداتها وأسلحتها وآلياتها المختلفة والتي انتقلت حيازتها للمواطنين بحيث كنت ترى أحدهم وقد اعتلى دبابة وآخر يسحب مدفعا عملاقا بسيارته، لقد كان منظرا يثير الدهشة ولا يتصوره العقل لجيش خارت قواه ومعنوياته بهذه السرعة وبهذا الشكل وبدون قتال حيث اختلط الضباط مع جنودهم والذين قاموا بنزع رتبهم العسكرية ونسي البعض منهم أو لم يحصل على حذاء أسود لاستبدال حذائه الأحمر المخصص للضباط. تاثير الانسحاب من الكويت: ويظهر بأن ترك القطعات العسكرية العراقية لمواقعها ومعسكراتها في الجنوب والشمال دون قتال بتأثير تلاشي وتداعي معنوياتها وعزيمتها القتالية بعد انسحاب القطعات العسكرية الموجودة في الكويت مع بداية هجوم قوات التحالف عليها ودون أن تكترث لقرار وتعليمات القيادة العراقية الرسمية والصريحة بعدم الانسحاب من الكويت مطلقاً حتى في حالة صدور أوامر تقضي بذلك حتى ولو صدرت هذه الأوامر بصوت الرئيس العراقي (صدام حسين) شخصياً واعتبار أي أمر يصدر بهذا المضمون باطلاً وغير صحيح. تجدر الاشارة الى أن الجنود الاكراد ضمن القطعات العسكرية الموجودة في الكويت انسحبوا بأوامر ذاتية وبالتدريج الزمني مع بداية القصف الجوي على هذه القطعات وأصبحت خالية منهم مع بداية الهجوم البري لقوات التحالف وإنني أعزو ذلك الى انعدام إيمان هؤلاء الجنود بما هم مكلفون به من واجب لا يستحق التضحية من أجله بالإضافة الى اقتصار الضباط في قيادات وتشكيلات هذه القطعات على الضباط العرب وانعدام وجود ضباط أكراد في المراكز القيادية وقلتهم في التشكيلات المكونة لهذه القطعات في الكويت. الجنود الاكراد انسحبوا من الكويت مبكراً كنت ألاحظ يومياً وخاصة في الفترة المسائية وعند توقف حافلات نقل الركاب العائدة من الكويت وهي تحمل الجنود الأكراد المجازين قرب رحبة نقليات بغداد في أربيل وهم يترجلون من هذه الحافلات ويحملون حقائبهم وأمتعتهم من ملابس وحاجيات وفراش وكان هذا يدل على تصميمهم في عدم العودة الى وحداتهم المرابطة في الكويت مرة أخرى. فجر 11 آذار 1991: نعود لمرافقة حركة الجماهير المنتفضة والتي وصلت طلائعها إلى مشارف مدينة أربيل وبالذات الى المجمعات السكنية في دارتو، وبيرزين، شاويس، بنصلاوه، ومع فجر يوم 11 آذار 1991 بدأ زحفها على المدينة المذكورة مستهدفة الدوائر الحكومية الكثيرة المتواجدة فيها باعتبارها عاصمة الحكم الذاتي الذي أقرته الحكومة العراقية في كردستان عام 1974 حيث وجدت فيها هيئات المجلس التنفيذي والتشريعي وكذلك كانت مقرا للفيلق الخامس وفيها مديرية أمن منطقة الحكم الذاتي ومديرية استخبارات المنطقة الشمالية. قبل انتصاف ظهيرة يوم 11 آذار 1991 كانت النشاطات والفعاليات قد انتهت بعد هروب واستسلام كافة منتسبي الأمن والشرطة في المحافظة دون قتال يذكر والجهة الأمنية الوحيدة التي قاتلت هي منظومة استخبارات المنطقة الشمالية، حيث استمر منتسبوها في القتال لغاية الساعة الرابعة عصر اليوم المذكور والذين كان عددهم يربو على السبعين فرداً، حيث لم ينجو أحد منهم. معظم مسؤولي المحافظة الموجودين في مقر الفيلق الخامس وأتذكر اسماء بعضهم: ·يحيى محمد رشيد – محافظ أربيل ·صبحي علي الخلف – أمين سر فرع حزب البعث ·لواء الشرطة طارق متعب – مدير شرطة محافظة اربيل ·لواء الشرطة لقمان حامد سليم – مسؤول أفواج الدفاع الوطني ·الفريق الركن علي محمد الشلال – قائد الفيلق الخامس ·العميد عبد الرحمن الشكرجي – مدير أمن منطقة الحكم الذاتي ·العقيد أكرم سعيد – مدير أمن محافظة أربيل ·نجيب الحديثي – مدير مخابرات محافظة أربيل أفواج الدفاع الوطني تلتحق بالبيشمركة: لقد هرب هؤلاء المسؤولون باتجاه محافظة الموصل عن طريق ناحية الگوير قبل امتداد تداعيات الانتفاضة الى تلك المنطقة. ولا بد أن أشير هنا الى ان معظم مقاتلي أفواج الدفاع الوطني مع مستشاريهم التحقوا بالبيشمركة والجماهير المنتفضة وقامت الحكومة العراقية على أثر ذلك بإصدار قرار بحل هذه الأفواج، كما وأود أن أشير لاسيما ونحن نتحدث عن سقوط مدينة أربيل في ذلك اليوم إلى قيام السلطات العسكرية في هذه المدينة أسوة بالمحافظات الأخرى وعلى ضوء قرارات مركزية باتخاذ بنايات المدارس الحكومية داخل المدينة مقرات ومواقع للمدفعية المضادة للطائرات لغرض التمويه وإخفاء هذه المواقع والأسلحة وقد تسبب ذلك في خلق حالة من الخوف والقلق لدى المواطنين وعوائلهم الذين تقع مساكنهم بالقرب من هذه المدارس واحتمال تعرضهم لقصف الطائرات المغيرة على المدينة بالإضافة الى استشهاد وإصابة الكثير من المواطنين عند قيام المضادات الجوية بإطلاق نيرانها على طائرات التحالف المغيرة دون أن تؤثر عليها وتساقط رصاص هذه المضادات على المدينة وعلى المواطنين الذين يكونون خارج مساكنهم وفي العراء. المحافظة ساقطة لا محالة: وبنتيجة متابعتي للأوضاع وتحليلي للأحداث توصلت الى قناعة كاملة بأن المحافظة ساقطة لا محالة، وكنت وبحكم مسؤوليتي، حيث كنت برتبة عقيد وأشغل منصب نائب مدير شرطة محافظة أربيل حيث انشغلت عصر يوم 10 آذار 1991 في القيام بجولة على أقسام ومراكز الشرطة داخل المدينة وتوضيح رؤيتي لما ستؤول اليه نتائج الاحداث المرتقبة لمنتسبي الشرطة الموجودين بكثافة بسبب فرض حالة الانذار عليهم وكنت احثهم على ضرورة المحافظة على حياتهم وعدم التفريط بها في مجابهة خاسرة مع حشود الجماهير المنتفضة، قبل عودتي الى الدائرة قمت مع زملائي الضباط وهم كل من (الرائد عبد الله محمد سعيد والنقيب شيرزاد نوري طالب) باختيار دار أحد الاصدقاء القريبة من مبنى مديرية الشرطة للاستفادة منه كمحط أولي عند ترك الدائرة وبعد الاتصال بصاحب الدار والذي كان صديقاً لنا والاتفاق معه على اشارة الدخول عنده في الدار وهي (الطرق على الباب لثلاث مرات) وقد أبلغت أقاربي عن هذا المكان ليكونوا على علم بمحل وجودي عند بدء الأحداث. عدت الى الدائرة بحدود الساعة السابعة مساء وجلس جميع الضباط المتواجدين في الدائرة معي في غرفتي وكنا نتابع الأخبار من الاذاعات العالمية والتي كانت أخبارها في معظمها يتعلق بأوضاع العراق وأحداثه المثيرة في سقوط محافظاته الواحدة تلو الأخرى في الجنوب والشمال باستثناء عدد قليل من المحافظات التي لم تحصل فيها حركة مضادة للسلطة من قبل سكانها محسوبي الولاء للنظام السابق بسبب كونهم من مكون واحد (العرب السنة) وأطلق عليها النظام المذكور تسمية (المحافظات البيضاء) وهي: بغداد (العاصمة)، صلاح الدين (تكريت)، ونينوى (الموصل)، والأنبار، وديالى، بالإضافة الى المصدر المذكور للأخبار كانت تردنا معلومات عن الوضع الأمني وحركة الجماهير عن طريق الهاتف من المعارف والأصدقاء والأقارب، كانت لدينا معلومات وفكرة واضحة عن المتغيرات والنتائج المرتقبة خلال ساعات قادمة، في تلك الليلة كان سكان مدينة أربيل قد التزموا مساكنهم وهم في ترقب والاستعداد للتعامل مع مستجدات الأوضاع فيها حيث كان معظمهم يتشوق لامتداد الانتفاضة اليها وتحريرها من سيطرة السلطة العراقية، والذين كان منتسبوها يستعدون للقتال ومعهم عدد قليل من سكان المدينة المنتمين لتنظيمات حزب البعث والمتعاونين مع الاجهزة الأمنية وفي نفس الوقت كان الكثير منهم يفكر في الهروب والنجاة بنفسه من المصير الخطر المحدق به في اللحظة الحاسمة. وهنا أود الإشارة أن أغلب الذين قتلوا في أحداث محافظة أربيل من منتسبي الأجهزة الأمنية والحزبية والمحسوبين عليها كان بسبب عدم قراءتهم للأحداث بشكل صحيح وعدم استيعابهم لنتائجها وما سيتمخض عنه من قوة حشد جماهيرية كبيرة تخرج عن امكانيات أجهزة السلطة العسكرية والأمنية والحزبية في مجابهتها والوقوف في وجهها ومن أن الأوضاع ستخرج عن سيطرة الدولة، كما وأنني أجزم صادقا بعدم اشتراط كون القتلى في هذه الأحداث من رجال السلطة والحزبيين السيئين بل كانوا من الذين تنقصهم الرؤية الحقيقية عن مجريات الأحداث ونتائجها أو الذين اختاروا الهروب من مسرح الأحداث في الوقت الخطأ وبعد فوات الأوان وهذا ما كنت أخطط له مع زملائي الضباط في مقر مديرية الشرطة في تلك الليلة في أن نترك المكان في الوقت الصحيح المناسب وقبل وصول الموجات البشرية الينا، حيث بوصولها لا يمكننا ترك المكان ونكون أمام خيارين أحلاهما مر فالخيار الأول هو القتال ونتيجته قتل عدد من المواطنين وقتلنا جميعا المتواجدين في البناية، والخيار الثاني هو الاستسلام والذي لم تكن عواقبه آمنه وليست بأفضل من الخيار الأول.الملاحظة الجديرية بالذكر في أن عدد القتلى من أجهزة سلطة النظام والمحسوبين عليه كان مرتبطاً بالناحية الزمانية والمكانية من هذه الاحداث، فلو نظرنا الى عدد القتلى في محافظة السليمانية لوجدناه أكثر من عددهم في محافظة أربيل والأخيرة أكثر منها في محافظة دهوك بسبب أن مسؤولي المحافظة الأولى لم يكونوا مستوعبين لفكرة سقوط المحافظة بهذا الشكل وبهذه السرعة وكذلك لم يكونوا قد فكروا في الهروب والنجاة بأنفسهم من المصير الأسود الذي واجهه مسؤولو محافظة أربيل أخذوا العبرة مما حصل في المحافظة المذكورة ونجوا بأنفسهم قبل وصول شرارة الانتفاضة اليهم صباح يوم 11 آذار، كذلك الحال بالنسبة لمسؤولي محافظة دهوك والذين لاذوا بالفرار صبيحة يوم 13 آذار. عودة مدير شرطة اربيل: في تلك الليلة وفي تمام الساعة الحادية عشر ليلا عاد الى مبنى مديرية شرطة المحافظة مديرها اللواء (طارق متعب) ومعه اللواء (لقمان حامد) مسؤول أفواج بالدفاع الوطني وكانت مفاجأة لنا من العيار الثقيل لكوننا سنكون مجبرين على تنفيذ أوامر مدير الشرطة والذي لن يتفهم الوضع بشكل صحيح، وبوجوده سوف يكون مصيرنا مجهولاً، شعر الضباط المتواجدون معي بحراجة الموقف والذي عالجته من خلال حثي اللوائين المذكورين على ضرورة العودة الى مقر الفيلق الخامس مع مسؤولي المحافظة الآخرين المتواجدين فيه لأن تركهما المقر المذكور سوف يجعلهما عرضة للمسائلة والشك في سلوكهما هذا، وقد أوصلتهما الى القناعة بكلامي وعزما على العودة بعد أن أوصاني مدير الشرطة بضرورة متابعة قيام منتسبي الشرطة في أقسامها ومراكزها بواجباتهم والاستعداد لمواجهة قادم الأحداث. اصطحبناهما الى بوابة مديرية الشرطة وأثناء ذلك أوصيت أحد المساعدين بسحب ثلاثة مراتب شرطة من الرفاق الحزبيين العرب من واجب الحراسة ليكونوا في حماية مدير الشرطة والذي اعترض على هذه الخطوة وعدها اضعاف للقوة المكلفة بحماية مقر مديرية الشرطة، أقنعته بأن عدد منتسبي الشرطة المكلفين بهذا الواجب يبلغ سبعون منتسبا موزعين على كافة أرجاء البناية ولا خوف عليها من السقوط وبعد تركهما المديرية متوجهين الى مقر الفيلق الخامس عدنا الى داخل البناية والى غرفتي ونحن نتنفس الصعداء، بعد أن عدت وأصبحت حرا في التصرف. اشتداد اطلاق العيارات النارية في اربيل: وفي صباح يوم 11 آذار وفي حوالي الساعة السادسة صباحا بدأت أصوات العيارات النارية تسمع في مختلف أنحاء مدينة أربيل من الجهة الشمالية وتزامن ذلك مع دخول العريف السائق لطيف الى غرفتي وهو يعلمني بصوت عالي بأن الانتفاضة قد بدأت في مدينة أربيل وفي نفس الوقت جاءني اتصال هاتفي من المرحومة والدتي والتي كانت تستفسر مني عن أصوات العيارات النارية، وتطلب مني سرعة العودة الى المسكن وهي في أشد حالات القلق وعدم الارتياح من مصيري في ظل هذه الظروف الصعبة. خرجت من مكتبي الى الردهة الداخلية للبناية وأمرت كافة منتسبي القوة بالتجمع وطلبت منهم مرافقتي الى خارج البناية وعند وصولنا الباب الرئيسية للبناية شاهدنا الملازم الأول (عبد الوهاب اسماعيل) ضابط أمن الدائرة والتوجيه السياسي وكان بدرجة عضو فرقة في تنظيمات حزب البعث، وفور مشاهدته لنا ونحن نخرج من الدائرة وكان يحمل بندقية كلاشنكوف على كتفه بادرني قائلاً: (ها سيدي… وين رايحين) أجبته: (اسمع عبد الوهاب قبل شهر استشهد شقيقك النقيب في الجيش العراقي في الكويت: هيا رافقنا ولا تبقى في هذا المكان وبعكسه سوف يكون مصيرك كمصير شقيقك: أخي من أجل أهلك وأطفالك حافظ على حياتك) أجابني وعلامات الدهشة والتعجب مما يراه بادية على محياه وهو يقول: (سيدي… تريد صدام يعدمني) تركناه ونحن نسير باتجاه الدار التي اخترناها سابقاً قبل يوم وقبل وصولنا اليه بمسافة توقفت وجميع مراتب الشرطة مجتمعين حولي فبادرتهم قائلاً: (أبنائي من هذه اللحظة لا علاقة لي بكم وكل واحد منكم يتصرف على مسؤوليته الخاصة… والآن انصرفوا ولا أريد ان أرى أحداً منكم خلال أقل من دقيقة) انصرف الجميع وعندما لم يبق أحد منهم توجهنا إلى الدار المقصودة وبعد طرقنا على الباب لثلاث مرات فتح صاحبها الباب ورحب بنا وأخبرنا بأن الفطور جاهز (الخبز الحار والقيمر والشاي) بعد جلوسنا لدقائق انقطع صوت الإطلاقات النارية، وكان هذا مدعاة لقلقنا، طلبت من زميلي الرائد (عبد الله) الصعود الى سطح الدار واستكشاف الوضع فنزل مسرعا وهو يردد اطلاق النار مستمر بعدها بدقائق حضر أقربائي ورافقتهم الي حيث يسكنون لعدة أيام، وبعدها عدت إلى داري. وللأسف الملازم الأول (عبد الوهاب اسماعيل) بعد تركنا الدائرة قرر أن يموت حيث صعد الى سطح الدائرة وأخذ يقاتل الجماهير المتجمعة حول البناية ولقي حتفه هناك لعدم سماعه نصيحتي له والطلب منه مرافقتنا، بقيت جثته على سطح البناية لعدة أيام حيث حضرت زوجته وطلبت مني مساعدتها في إنزال الجثة ودفنها وفعلت ذلك بعد أوعزت لمجموعة من الشباب من أقربائي لتنفيذ هذه المهمة بحضور الزوجة لتكون على علم بمحل دفن زوجها. على المجيد يحجز المحافظ ومسؤول الحزب: على إثر هروب جميع مسؤولي محافظة أربيل من مقر قيادة الفيلق الخامس باتجاه مدينة الموصل وقد أثار ذلك حفيظة (علي حسن المجيد) المسؤول عن المنطقة الشمالية، فأمر بحجز محافظ أربيل (يحيى محمد رشيد) وأمين سر فرع أربيل لحزب البعث (صبحي علي الخلف) والكتابة لمراجع الآخرين لنفس الغرض لتخاذلهما وتسببهما في سقوط مدينة أربيل. وقام (علي حسن المجيد) شخصياً بالإشراف على الاستعدادات المتخذة للدفاع عن مدينة كركوك وعدم التخلي عنها بأي ثمن وقد أوعز الى الأجهزة الأمنية فيها إلى القيام باعتقال الشباب من سكان المدينة الأكراد من خلال تفتيش المناطق والمحلات الكردية والفنادق والأسواق واعتقال كل شاب كردي يصادفونه وتم القبض على عدد كبير منهم وأودعوا معسكرات الاعتقال وخاصة في تكريت وكان الغرض من ذلك اعتبارهم رهائن وخوفا من معاونتهم ومشاركتهم البيشمركة في تحرير مدينة كركوك. سقوط كركوك: ابتدأت التحضيرات للهجوم على مدينة كركوك يوم 19 آذار من محوري أربيل – كركوك و السليمانية – كركوك واستطاعت قوات البيشمركة والجماهير المرافقة لها من دخول المدينة وتحريرها وفشل (علي حسن المجيد) في الدفاع عنها وهرب منها باتجاه مدينة الموصل ملتحقاً بمسؤولي محافظتي اربيل ودهوك الهاربين قبله، واقترح فور وصوله المدينة نسف جسورها الرابطة بين جانبيها خشية امتداد الانتفاضة اليها بسبب الكثافة السكانية للأكراد في الجانب الأيسر من المدينة، وتجدر الإشارة الى أن هروب المذكور وعدم استطاعته الدفاع عن مدينة كركوك كان سبباً في عدم استطاعته محاسبة المسؤولين الهاربين من محافظتي أربيل ودهوك ولولا ذلك لكان حسابهم عسيراً. كلمة لا بد منها في ختام الموضوع: في ختام حديثي عما عايشته وشاهدته من تفاصيل أحداث الانتفاضة لمدينة أربيل بتاريخ 11 آذار 1991 والتي كانت من تداعيات هزيمة الرئيس العراقي (صدام حسين) وجيشه المليوني في الكويت، فإنني لا أقصد اعتبار النظام السياسي الذي جاء بعده بأحسن حال منه حيث الفوضى والفساد في كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتشعباتها وإنني عندما اكتب أقصد عدم التحيز وأن أكون عادلاً وصادقا في كتاباتي وأبتعد عن جوهر قول الشاعر العربي: عين الرضا عن كل عيب كليلة .... وعين السخط تبدي المساوئا وأخيرا أرجو من العلي القدير في أن أكون قد وفقت في اعطاء صورة حقيقية لهذه الأحداث التي عايشتها بحكم مسؤوليتي في الدولة العراقية.
محي الدين محمد يونس
وللأحداث صدى السنين الحاكي: شاهد على أحداث آذار ١٩٩١ في أربيل وأسراراً تنشر للمرة الأولى