دخل العراق طوراً جديداً في الأسبوعين الماضيين، وخصوصاً بعد انسحاب مقتدى الصدر من قيادته الاعتصامات في المنطقة الخضراء في بغداد، أملاً في الموافقة على تعديل الوزارة، بطرح أسماء مستقلة. وكان كاتب هذه السطور قد انتقد هذه الخطوة، بعد أن زرع الصدر الإحباط لدى كلّ أصناف المعارضة السياسية من المتظاهرين والمعتصمين، لمّا أمر بفضّ الاعتصام في خطابه المكتوب الذي جاء مباشرة بعد إنهاء رئيس الحكومة، حيدر العبادي، كلمته في البرلمان، وتسليمه أسماء من رشّحهم في ملف مغلق . وبدا للعالم كله، كم كانت واضحة المؤامرة السياسية ضدّ ما يدعونها "الإصلاحات"، فهم لا يريدون أيّة إصلاحات، بل إبقاء القديم على قدمه، وتمرير المصالح والإبقاء على المحاصصة الطائفيّة في الحكم، فكانت العملية واضحةً وساذجةً في ترك فجوة زمنية أسبوعين، من أجل إقرارها من البرلمان، فكان أن تآمروا في ما بينهم على ترشيح أسماء لا تتمتع بأية مهنية ولا أيّة سمعة جديرة بالاحترام ، بل يُحسب أصحابها عليهم من دون الالتفات إلى الأسماء الأولى التي تقاذفها الجميع بشتى الاتهامات.
وعلى الرغم من انسحاب مرشّحين للوزارة من القائمة الأولى التي قدّمها العبادي، إلا أن رؤساء الكتل السياسية، بمن فيهم ما يسمى "التحالف الوطني" وجدوا في بعض الأسماء المستقلة ما يهدّد، ليس وجودهم، بل مصالحهم، فكان أن تآمروا على ترشيح أسماء أخرى، استناداً إلى مرتكزاتهم الطائفيّة ، وعلى أسس المحاصصة الحزبيّة والمصالح السياسيّة مع تصريحات بعض رؤساء الكتل، أمثال عمار الحكيم ونوري المالكي الذي اتّهم العراقيين المعتصمين بأنهّم يتآمرون على المشروع الإسلامي في العراق.. ومع حالة الضياع السياسي والأمني التي يقودها حيدر العبادي، وهو الذي يقوده زعماء كتلته وحزبه انقياداً كاملاً، فلقد جيء بأسماء مرشّحين آخرين، أفرزهم ما سمي "اتفاق الشرف"، وبموافقة رئيس الجمهورية، فؤاد معصوم، ورئيس البرلمان، سليم الجبوري، وبدا هذا "الاتّفاق" لدى العراقيين الوطنيين أنه "بلا شرف".!
ومن تفاهة التاريخ أن يوقّع على (اتّفاق الشرف) قادة أحزابٍ وممثلي تكتلاتٍ، ومنهم حسين الشهرستاني، المتّهم الآن، دوليّاً، بتهم خطيرة في نهب المال، وأخذ الرشاوى بالملايين. اتّفق حيتان الفساد في العراق هؤلاء على أسماء وزراء أرادوا تمريرها في البرلمان، في عمليّة خائبة وخبيثة، وبعد أن وافقت عليها الرئاسات الثلاث، بمعنى أن الرئاسات الثلاث (الممثلة بفؤاد معصوم وحيدر العبادي وسليم الجبوري) قد اشتركت في مثل هذا الماراثون المخزي، والتوقيع على هذه الخطّة البليدة لإبقاء نفوذ الطبقة السياسيّة الحاكمة. ولمّا طرح "المشروع" في البرلمان العراقي، حدثت مشكلة دستورية، بتمرّد بعض النواب على رئاستهم، وعلى مثل هذه الخطّة التي شيطنها رؤساء الكتل الدينيّة والطائفيّة، فكان أن اعتصم بعض النواب في داخل قبّة البرلمان. وحتى إن كان ذلك سابقة تاريخيّة، فالبرلمان العراقي يعيش حالة فوضوية منذ تأسيسه، نظراً لأنّ نواباً فيه، إناثاً وذكوراً، لا يستحقون أن يكونوا دلالين ودلالات في سوق شعبي، فكيف حدث ذلك؟
ما إن أعلن رئيس مجلس النواب، سليم الجبوري، رفع الجلسة إلى يوم 14 إبريل، الخميس الماضي، بعد أن تسلّم أسماء الكابينة الوزاريّة الجديدة من رئيس الحكومة حيدر العبادي، حتى تحوّل البرلمان إلى مكان للاعتصام، إذ رفض 167- 171 نائباً إقرار هذه الخطة التي تضم أسماء مرشّحة، اعتمدت المحاصصة الطائفيّة والسياسيّة في توزيعها، فضلا عن أنها أسماء مجهولة، ولها ارتباطاتها بالعمليّة السياسيّة الحاليّة، ولا تواريخ مهنيّة لأصحابها من اللاهثين وراء المناصب والمنافع. جاء اختيار هؤلاء من أجل تأمين مستقبل مصالح الطبقة الحاكمة في البلاد، واستشراء نفوذها من دون الأخذ بمطالب الشعب العراقي، والبحث عن أكفأ الناس، من أجل أن يخلصوا العراق من أزماته ومشكلاته ومعضلاته الصعبة ، ومن المأزق الذي يعيشه منذ 13 عاماً.
غدت الرئاسات الثلاث اليوم منبوذة من البرلمان العراقي، ضمن سيناريو ربّما أعدّ بإحكام، إذ قال نائبٌ من كتلة الأحرار إن ما حدث يوم 12 إبريل/ نيسان بمثابة "انتفاضة"، كان غرضها أن تكون الحكومة المقبلة حكومة تكنوقراط، وليس حكومة محاصصة كما يريدها بعضهم. واستطرد: التقت رئاستا البرلمان والحكومة على مطالب المرجعيّة والمعتصمين، وكافة أبناء الشعب العراقي، من خلال محاولتهم تشكيل حكومة محاصصة جديدة. .. وإن اجتماع رئيس الوزراء حيدر العبادي مع رئيس البرلمان وقادة الكتل السياسيّة الثلاثاء شهد عراكا على المناصب، وكأنّ الأمر كعكة يُراد تقسيمها. وحسب النائب، لم يُحسن العبادي استغلال تفويضه من المرجعيّة الدينيّة العليا، ولا من الشعب العراقي في عملية الإصلاح. تفاقمت الأمور، واختلقت أزمة، يقال إنها مدّبرة من رئيس المجلس لإحباط أيّة محاولة لإقالته.
بدا واضحاً أنه كلما زاد الشعب العراقي من مطاليبه العادلة زاد توحّش الذين يسيرون بالعمليّة السياسيّة في العراق. إنهم يوقّعون "اتفاق شرف" في ما بينهم، كونهم يشعرون جميعاً بغدر أحدهم بالآخر، وإن قادة الكتل السياسيّة يريدون الآن الانتقال من المشاركة في الكعكة إلى الاستبداد بها، في حين ينتفض بعض النواب اليوم، بعد أن لازمهم الصمت قرابة سنتين، واغلبهم ينتمون الى كتل سياسيّة أضرت بالعراق كثيرا .. وقد جاءوا جميعاً من خلال عمليّة سياسيّة كسيحة، لا أدري إن كانوا ما زالوا يؤمنون بها.. ربما سيكبر عددهم، من أجل إقالة الرئاسات الثلاث، وهم يتحرّكون بسرعة خوفاً على مستقبلهم السياسي في المستقبل المنظور، وربما اندفع بعضهم منفذاً تعليمات قياداتهم من زعماء الكتل. ولا ادري لماذا لم يعلن هؤلاء عن استقالاتهم من احزابهم وكتلهم البغيضة ؟
أعتقد أن الكتلة (الجديدة) في البرلمان أحد العناصر التي تطبّق سيناريو جديداً في العراق، فثمّة مفاجآت قريبة في العراق. والامر الاخر ، اننا نكتشف يوماً بعد آخر، ما يحدث عند ناسٍ كثيرين يكتبون ويصرحون على الصحف والمواقع الالكترونية ، ونتساءل : كم هو حجم تقلّبهم السياسي، فهم غير مبدئيين، ولا شرف لهم عندما كانوا قبل أشهر يسبّحون بحمد النظام السياسي، ويتعبّدون في محراب العمليّة السياسيّة التي تديرها طبقة سياسيّة جاهلة وممقوتة ، أوجدها المحتل الأميركي، ورعتها إيران الإسلامية رعاية الأطفال المشاكسين، وباركتها مرجعية الإمام السيستاني بشكل لا محدود. وكان هناك كارتلات من الطفيليين والمرتزقة العراقيين يدافعون بشراسةٍ عن النظام الطائفي البشع ، وعن نوري المالكي ورهطه، وعن العمليّة السياسية المقرفة، وعن الدستور الموبوء. واليوم يظهرون وقد تغيّروا، وخرجوا من عباءاتهم وجلودهم، وخصوصا في تغيرّ اللغة التي يستخدمونها تغيرّا واضحاً في المواقف السياسية، وعلناً، ولا يقتصر الأمر على برلمانيين وإعلاميين، بل يشمل ذلك العدد الكبير من انصاف المثقفين والكتّاب وأصحاب المواقع الإلكترونية، خصوصا الذين انقطع عنهم سيل الرشاوى والمكافآت المالية التي كانت تغدق عليهم.
لقد اجمعت الكتلة المعارضة على اقالة رئيس مجلس النواب ونائبيه في حين عارض ذلك سليم الجبوري وآخرون .. دعونا نترقّب الأحداث على مهل، فثمّة من يدير دفّة هذه السيناريوهات جمعاء في العراق، وسنرى ماذا سيحّل بالعراق، بعد أن بقي يسير في مأزقٍ تاريخيٍّ لا يُحسد عليه. وثمّة مفاجآت ستحدث في العراق وهو يغرق في بحر من الفوضى ، وينتقل من كارثة الى اخرى ! فمتى يحدث التغيير الحقيقي من خلال مشروع وطني يطالب به كل احرار العراق .. متى ؟