هذه المقالة التي أسردها أمام ناظري متابعي شؤون عراقنا الحبيب في عقد الستينيات من القرن/20 أعدّها الأهم والأعظم مقارنة مع عموم مقالاتي المتلاحقة عن الرئيس الراحل "عبدالسلام محمد عارف" وعهده، والذي برهن في معظم خطواته المتلاحقة منذ عام (1964) -إثر تعاظم خبراته والهفوات التي وقع في أتونها خلال ستة أعوام منصرمة- أنه أفاد من التجارب التي خاضها والدروس التي إستنبطها، فأضحى ينظر نحو الأمور -حسب شهادة العديد من المحللين والمتابعين المحايدين غير الحاقدين على شخصه ونظامه- وذلك على عكس رؤيته وتصرفاته غير المتزنة بُعَيدَ إنقلاب (14تموز1958)، محاولاً الإلتزام بنصائح المقرّبين والحكماء لتوجيه نظام حكمه ليغدو بين أيدي مدنيّين مهنيّين أكفاء وأصحاب شهادات عالية من ذوي الخبرات المتدرجة، مع منحهم كامل صلاحيات واسعة في إدارة وزاراتهم ومؤسساتهم، مع الإبتعاد الجليّ عن تكليف القادة العسكريين بحقائب وزارية ومناصب نائية عن إختصاصاتهم، والذي يطـّلع على الوزارات التي شـُكّلت في عهده يتلمّس ذلك دون أدنى ظن. وفي شأن تلكم النصائح المعمّقة والآراء السديدة والأفكار الصريحة والطروحات الهادفة، فلا أنسى تلك الليلة التي كنتُ ضابطاً خافراً في غرفة التشريفات بالقصر الجمهوري بعد إنتهاء الدوام الرسمي بعد ظهر يوم (الأحد6/12/1964)، وقتما كان "الملازم عبدالجبار جَسّام" قائماً بالتجوال الدَوري على نقاط الحماية كالعادة.
كان رئيس الجمهورية قد طلب حضور الأستاذ "عبدالرحمن البَزّاز" سفير العراق في "لندن" القادم إلى "بغداد" بمناسبة عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، والذي يشغل في الوقت نفسه منصب السكرتير العام لمنظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" ورئيس الوفد العراقي المفاوض مع شركات النفط العملاقة العاملة في العراق، وذلك في مكتبه الرئاسي لمناقشة بعض الأمور في تمام الساعة السابعة مساءً. لمْ أَستقبل الأستاذ "عبدالرحمن البَزّاز" -الضيف الوحيد في ذلك المساء ذي النسيم البارد- لدى دخوله الى القصر الجمهوري، فقد كان أحد مرافقي الرئيس بإستقباله لدى البوابة الرئيسة... ولكن في حدود الساعة الثامنة مساء طرق سمعي كلام مُنَمَّق ومُعمَّق يطلقه شخصٌ ما في الممرّ المؤدّي من الجناح الرئاسي إلى الباب الجانبي لمبنى القصر قرب غرفة التشريفات، ولمّا نهضتُ شاهدتُ الأستاذ "البزاز" متحدّثاً و"عبدالسلام عارف" مستمعاً، وذلك قبل أن يخرجا إلى الساحة المبلَّطة التي تطلّ عليها نافذة غرفة التشريفات، ليظلاّ ذاهبَين آيبَين على مقربة من النافذة التي كنتُ قد فتحتُها مسبقاً لغرض التهوية للجو الساخن الذي إستشعرتُ به بتأثير أجهزة التكييف المركزي، على الرغم من برودة طقس العراق في تلكم الأيام من فصل الشتاء. ولما كنتُ معجباً أشد الإعجاب بشخص "الأستاذ البزاز" ودرجة الدكتوراه في القانون التي يحملها -حسب إعتقادي في حينه- فقد زاد فضولي، لأتحوَّل كلّياً الى آذانٍ صاغية فأسجل رؤوس نقاط قد أفيد منها:- عن التأميم في العراق والإصلاح الزراعي -أنت تعلم يا "حجي" مواقفي السابقة أزاء التأميم والإصلاح الزراعي، سواءً خلال العهد الملكي أو أبان حكم "عبدالكريم قاسم"، ولكني أشدد أن الخطوة التي إتخذتموها بصدد التأميم قبل (5) أشهر كانت خاطئة وغير مدروسة... فالعراق المُعاصر الذي تأسس (عام1921) دولةٌ لم تكن رأسمالية مطلقاً كي نطبق الإشتراكية في ربوعها ونُؤمِّم مصالح الناس لديها، فقد تملكت جميع المصالح الأساسية لتسيير إقتصادها الوطني على أكمل وجه، فالقطارات حكومية والخطوط الجوية كذلك، ومصلحة نقل الركاب والبريد والتلفونات والطرق البرية والجسور والمستشفيات الكبرى والمدارس والكليات والموانئ والسفن الكبيرة كلها تابعة للدولة، ورؤوس أموالها تبلغ عشرات الملايين لكل مؤسسة على حدة... إذنْ، فهل كان هناك داعٍ لتأميم مصانع غزل ونسيج وشركات صغيرة ومعامل متواضعة لا يتعدى رأسمال كبراها مليون دينار واحد فقط من تلك التي كانت تزوِّد السوق العراقية بمنتجاتها البديعة وتُصدِّر الفائض منها الى الخارج، فتُعيل بذلك آلاف العمال والموظفين وعوائلهم وتُشارك في القضاء على البطالة التي لم يعد لها وجود في العراق... إعملوا إحصائية منذ الآن، أو مع مطلع السنة الجديدة، لتَرَوا النقص الذي سيبرز في إنتاج تلك المعامل والشركات، ولاحظوا الخسارة الكبيرة التي أصابت أو ستُصيب العراق من جراء التأميم... والحقيقة الأهم أن الموظف أو العامل عندما يتيقَّن أنه مُصانٌ بالقانون وراتبه مضمون فربما يتحوَّل إلى إنسان غير مسؤول، وأنه إذا ما تمتّع بإجازات طويلة أو لم يتمتع، وإن أجاد العمل أو أخفق، فإن راتبه الحكومي يتسلّمه حتماً، وذلك ما يحقق له ما يبتغي من معيشة لائقة، لذلك فلا يرى حاجة ليُرهِق نفسه في الإنتاج ولا يخشى من الطرد أو الإقالة. وأقولها لك صراحة، أن الذي توصّلتُ إليه، أنكم أقبَلتُم على خطوة التأميم وإتخذتموها سيراً على ((المودة/التقليعة)) التي إجتاحت البعض من دول العالم النامي، وأنكم تأثرتم بالتجربة المصرية في هذا الشأن، فما دام الرئيس "جمال عبدالناصر" قد أَمَّمَ فإنكم أمََّمْتُم، وأنه ما دام قد إتّخذ الخطوة الفلانية، فإنكم يجب أن تقلّدوه!!! كان عليكم -يا أبا أحمد-قبل كل شيء، أن تدرسوا بعناية ما آل اليه التأميم من نتائج في "مصر" وما أحدثه من وَيلات وإنتكاسات في المجتمع المصري وإقتصاده قبل أن تُؤمِّموا. وحتى بالنسبة لـ"الإصلاح الزراعي" -والذي أنتَ غير مسؤول عنه- فقد بات وَبالاً آخرَ على العراق، فبلدنا الذي كان مُصَدِّراً لأنواع الحبوب والسمسم والأذرة وغيرها، ومن بعدها "الماشية" المرتبطة في الأساس بالزراعة، فإنه أصبح مستورداً لها... ودعني أعطيك مثالاً بسيطاً، ولكنه خطر جداً في نتائجه، فـ"القاهرة" التي لم يكن تعداد نفوسها يزيد عن "مليون واحد" من البشر عام (ثورة يوليو1952) فقد أمسى الآن يقارب (7) ملايين أو يزيد، ليس بسبب الزيادة التي طرأت على السكان التي يزعمونها، بل بتأثير هجرة الناس إلى "القاهرة" من جراء الفشل الذي أصاب الزراعة في الريف المصري وتوقّف العمل في المصانع والمعامل بالمدن الأخرى وإخفاق الدولة في إدارتها، ما جعل العامل والفلاّح يتحوّل من ((مُنتِج)) الى ((مُستهلِك)) يبحث عن لقمة عيش له ولعائلته لقاء أية خدمة متدنية يؤدّيها أو بيع مواد جاهزة على الأرصفة، وبات يعيش "فوق السطوح" أو في غرف منفردة وصولاً إلى المبيت في الدرابين والأزقّة وما بين المَوتى وسط المقابر... لقد كان "الإصلاح الزراعي" وبالاً وبِدعة، وكل بِدعة ضَلالة، وكل ضَلالة في النار. تأميم النفط •وما رؤيتك -يا دكتور- نحو تأميم النفط، إذا ما إتخذنا مثل هذه الخطوة؟ -تأميم النفط موضوع مُغاير يتطلّب قراراً سياسياً يتوجّب دراسته من جميع مناحيه وتقدير ما ستتخذه الدول الأخرى من مواقف محددة تجاهه، وخصوصاً الدول العظمى المتنفذة في أُمور العالم المعاصر -شئنا ذلك أم أبَينا- إذْ أن النفط شريان الحياة المعاصرة، فالسيارات والسفن والطائرات والقاطرات والآلات والمضخات والمعامل والمصانع وسواها تعمل جميعاً بمنتجات النفط، وقد أُضيفت إليها "البتروكيميائيات" التي أُدخلت في صناعات النسيج والمواد المنزلية والأبنية الجاهزة وصولاً إلى أبدان الآلات الثقيلة، هذا ناهيك عن الآلة الحربية لدى كل دولة... لذلك، فإن الحياة تتوقّف فعلاً في أي بلد صغير من دون النفط، فكيف الحال إذا كانت دولة صناعية كبيرة أو عظيمة؟... فلذلك، فإنهم لا يمكن أن يسكتوا مطلقاً ولا يمكن أن يظلّوا مكتوفي الأيدي إذا ما أمّمنا النفط، لا سيّما وأنهم يعدّون أنفسهم أصحاب فضل علينا وعلى دول (O.P.E.C)، فلولاهم -حسب قناعتهم- لما أُكتُشِفَ النفط، ولما أُستُخرج من باطن الأرض أو البحر، ولما تطورت الصناعات النفطية... وفي إعتقادي، أنهم لو إلتزموا الهدوء ورضخوا تجاه أي قرار لتأميم النفط، فإنهم سيخطّطون للإنتقام مستقبلاً، والذي لن يكون بعيداً في عدد سنواته، وسيدخلوننا في مخاضات عسيرة لسنا أهلاً للخروج منها سالمين مُعافين، وسنتيه في صراعات لا يُحمد عقباها. لذلك أرى -أننا ما دمنا نمتلك أكثر من 50% من حصص الشركات النفطية الأجنبية العاملة في العراق- أن نكتفي بمواصلة المفاوضات الدائرة حالياً معهم لزيادة حصصنا لأقصى قدر ممكن إبتغاء تحسين أوضاعنا وإقتصادنا... وإذا ما لم ننجح بهذا المنحى، فلا أرى معضلة كبيرة في ذلك، ولا داعي لإثارة مشكلات كبيرة وعميقة، بل نتوكل على الله ونسير بخطىً رصينة ولكنها مدروسة، ومن دون "تطبيل وتزمير"، فكفى بنا خُطىً ثورية قد تجلب علينا أذىً لا نحتمله. ولا يمكن أن أنسى ما قيل عن الزعيم السوفييتي"نيكيتا خروشوف" في إيضاحه للرئيس "عبدالناصر" خلال مفاوضات إقتناء الأسلحة عام (1955) بــ((أن"الاتحاد السوفيتي" ليس على إستعداد لإطلاق طلقة واحدة في سبيل "الشرق الاوسط"، ولكن "الغرب" مستعد لإشعال حرب عالمية ثالثة في سبيل الحفاظ على مصالحها بالمنطقة نفسها)).
جمال عبدالناصر -ولكني لا زلتُ معجباً بالرئيس" جمال"، وأعتبره أخاً كبيراً، ونحن سائرون في طريق الوحدة معه بإذن الله. -"يا حجي" سأكون معك في غاية الصراحة، فالرئيس "جمال" قاد ثورة أفاقت الجماهير العربية وأبهرتها، ولكنه جعل "مصر" تنتكس إنتكاستين مُخجِلَتَين... إحداهما أن إحتلّت (إسرائيل) كل صحراء "سيناء" وبلغت قواتها "قناة السويس" خلال أيام معدودات عام 1956، في حين كان هو يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة المصرية، ولكنه إستطاع بوسائل إعلامه المقتدرة أن يبرّر ذلك تحت غطاء "العدوان الثلاثي" ومشاركة دولتَين عُظمَيَين في تنفيذه... والواقع أنه لولا الضغط الأمريكي بزعامة الرئيس "آيزنهاور" بشكل خاص، إضافة الى الضغط السوفييتي، لما إنسحبت (إسرائيل) من "قناة السويس وصحراء سيناء" مطلقاً... وثانيتهما هي إنفصال "سوريا" عن الجمهورية العربية المتحدة، وفشل أول تجربة وحدة عربية في التأريخ المعاصر، إذْ كانت تصرفات القيادة المصرية وممثّليها في "الشام" وراء ذلك الإنفصال عنوة وبإنقلاب عسكري... وقد حاول "عبدالناصر" تبرير ذلك بقذف اللوم على الإستعمار والإمبريالية والرجعية العربية -كعادته دائماً-... ولكني على يقين بأن القادة السياسيين والعسكريين المصريين الذين عيّنهم الرئيس"عبدالناصر" بشخصه، هم الذين تسبّبوا في تأجيج المشاعر التي أدت إلى الإنفصال... فإن كان "سيادته" على دراية بذلك فتلك مصيبة، وإن كان لا يدري فالمصيبة أعظم... وحتى إذا ما إفترضنا أن أولئك القادة كانوا عُمَلاء مثلاً، أو مستغلّين، أو طغاة جائرين، فإن الذي بعثهم هو المسؤول الأول والأخير. ثم أن الرئيس "عبدالناصر" يحكم بالنار والحديد وبالإرهاب الذي يفرضه "المباحث" تارة و"المخابرات" تارة أخرى، و"الإتحاد الإشتراكي" تارة ثالثة، وما البعض من المؤسسات -التي يسميّها بالديمقراطية- سوى واجهات "إعلانية" وأكرّر أنها "إعلانية" وليست "إعلامية"... لقد ((تَبَهذَلَتْ)) مصر العربية، وحَجُم دورها، وأمست في الحضيض، وأنه لولا إسنادك يا سيادة الرئيس لأخيك "عبدالناصر" سواء بعد "ثورة رمضان" أو بعد "ثورة تشرين" بحرارة لما إستطاع الوقوف على قدميه... فـ"الجزائر" ما زالت منشغلة بهمومها بعد أن نالت إستقلالها حديثاً، و"اليمن" التي تورّط فيها "جمال" عسكرياً لا ثقل لها في جميع المستويات، و"دخول الحمّام مش زيّ الخروج منه" -كما يقول المثل المصري- وستثبت الأيام القادمات ما أقوله الآن، فالمُصارع مهما بلغ من قوة فأنه لا يستطيع مقارعة عدد من المصارعين الأقوياء، والرئيس"عبدالناصر" على خلاف مع معظم الزعماء العرب، ولاعب القمار الجيد ذو الدخل المحدود، لا يستطيع الغَلَبة على "مليونير" لا يَنفَد ماله بسهولة، والرئيس"جمال" يُعادي جميع الدول المتنفذة في سياسة العالم بشكل أو بآخر، وأنه بسبب تهوّره في إتخاذ القرارات فإنه سيغرق "مصر" في خضمّ نكسة ثالثة أكبر من سابقتَيها، وعندئذ سيبقى العالم متفرجاً عليه، إن لم يكن يُعاديه. وأودّ القول، أنه ليس من الشجاعة أن يتّخذ رئيس دولة قراراً جريئاً لم يدرسه أو يُقدِّر نتائجه بشخصه... فمن الوارد أن يبقى سالماً محافظاً على حياته ومحتفظاً بسلطته وكرسي حكمه، دون أن يتحسّس بما يُعانيه الوطن من مهانة والشعب من ضَنَك العيش والمَرارة والجوع والمرض والحرمان، بينما يتمتّع هو والمحيطين من حوله بملذّات العيش الرغيد. توزيع الصلاحيات وفي رأيي أيضاً يا "حجي" وما دام الموضوع قد تعّمقنا فيه بهذا القدر من الصراحة، أن تُعيد توزيع صلاحياتك على السادة رئيس الوزراء والوزراء والمسؤولين الآخرين، وإلاّ ((فمَن يُحاسِبُ مَنْ)) إذا ما كنتَ أنتَ تحتفظ بمعظمها؟؟؟... فإنهم إن أخطأوا في أمر ما أو أخفقوا، فسيقذفون باللائمة عليك... كما أن عليك التفكير بإعادة إنشاء مؤسسات ديمقراطية ذات قابلية على إبداء الرأي بكل حرية وصراحة، ولتكن هناك "معارضة مُعلَنة" تمثّلها أحزاب مُجازة رسمياً لها صحفها ومجلاّتها... فقيادة الدولة لا يمكن أن تتعرّف على سلبياتها سوى في هذه الحالة فحسب، وإلاّ فأنها ستبقى كـ"النعامة" التي تعتقد أن الناس لا يرونَها ما دامت هي لا تراهم، وكفى تشّبثاً بالفترة الإنتقالية والأوضاع القلقة والظروف المصيرية والدستور المؤقت، فقد ضاق منها الشعب ومَلَّ. التمرد القائم في الشمال -أُريد سماع رأيك -يا دكتور- حول التمرّد القائم في المنطقة الشمالية. -لقد "وقع الفأس الرأس" -كما يقول المثل الشعبي- ولابد من حل، وإلاّ فالعراق سيتعب كثيراً، وستكون نتائجه وخيمة وقد لا تظهر الآن أو في المستقبل القريب، بل تمتد آثاره الى المستقبل البعيد والأجيال اللاحقة إذا لم نستطع إقناع "الملاّ مصطفى البارزاني" بالجلوس معنا في مفاوضات جدية... ولكني لا أرى في قدراتنا العسكرية ثقلاً يضطر معها "الملاّ" لذلك، وأن إتفاق إيقاف إطلاق النار القائم معه حالياً يعتبر هشّاً، إذْ يمكن أن يندلع القتال في أي يوم بسبب تصرّف أهوج من لدن أحد الطرفين. "عبدالسلام عارف" مقاطعاً:- -ولكن يا دكتور لدينا (5) فرق عسكرية متكاملة يمكن تحشيدها، ولدينا قوة جوية مقتدرة، ولدينا كذلك أفواج من الأكراد مستعدة للقتال ضده.
-حتى لو (5) جيوش، فإنها ستضيع في الجبال وبين الوديان والغابات... فالوضع ليس كما كان عليه في عقد الأربعينيّات حين كان التمرّد مقتصراً على منطقة "بارزان" لوحدها، حيث إستطاع الجيش العراقي بفرقة واحدة أوانئذ محاصرة "الملاّ مصطفى" الذي إضطر للهرب خارج الحدود إلى "إيران" قبل أن يلتجئ الى الإتحاد السوفيتي بعدئذ، ولم يكن أحد من دول الجوار -وخصوصاً حكومة طهران- يسانده... أما وقد عاد "الملاّ" إلى العراق عام 1959 بقوّة، وبات رمزاً قومياً للأكراد وإلتفّوا حوله، فقد إنقلب الحال... فهذا العصر هو عصر القوميات وليس الأديان والحدود الجغرافية... ولكن "الملا مصطفى" إستطاع جمع الدين مع القومية ما أضاف قوة متزايدة إلى قدراته، وأما أفواج الأكراد العاملين مع الدولة فأنني لا أراهم سوى مجاميع من "المرتزقة" ولربما يكون معظمهم ذوو وجهين... والذي أنا على يقين منه أن الحلّ العسكري سوف لا يوصلنا إلى نتيجة مرضية، وقد كانت هناك تجارب كثيرة عبر التأريخ، وإذا ما إكتفينا بتجارب التأريخ المعاصر، فإننا نجد معظم الحركات المشابهة ممن وصفتها الحكومات بـ"العصيان أو التمرد"، لم يَفِدْ معها إستخدام القوة العسكرية حتى بمستوى الدول الكبرى التي دفعت جيوشاً هائلة العدد والعُدَد... وفي أيامنا هذه هناك تمرّد في "آيرلندا" ضد الحكومة البريطانية منذ عام 1961، وهناك تمرّد في "فييتنام، لاوس، وكمبوديا"، بينما فشلت تجربة الجيوش الفرنسية في إخماد الجزائريين، وهناك مشاكل مشابهة في "جنوب أفريقيا" وبقاع عديدة من القارة السوداء... وجميعها لم، ولا، ولن تُحلّ عسكرياً. وإذا ما إستمرّينا في نهجنا الحالي بشأن الشمال فسنستنزف قوات جيشنا ونُرهق إقتصادنا ونُريق دماءً لا تُعوَّض، ونستهلك مدافعنا ودباباتنا وطائراتنا داخل بلدنا بحيث عندما يحدق بنا خطر أكبر وأكثر مصيرياً وأعظم، نكون حينذاك غير ذوي إقتدار على مجابهته، ما سيعرِّض كل الوطن إلى الضياع... وينبغي كذلك أن نُحسِّن علاقتنا مع "إيران" التي تُسند "الملاّ مصطفى" بشكل واضح، وعندئذ فقط يكون في موقف أقرب إلى المفاوضات. ثم أن طلبات "الملاّ" ليست بالمستحيلة أو الصعبة للغاية، فهو لا يبتغي بوضعه الحالي -على الأقل- الإنفصال عن العراق، لذلك فلا أرى مشكلة في منح الأكراد حكماً ذاتياً وحقوقاً قومية مشروعة، إذْ سنخلّص أنفسنا من مشاكلهم ونحسّن صورتنا أمام العالم المتحضِّر من بعد سنوات من غلياننا الثوري، فيتحسّن إقتصادنا ونسير نحو الإزدهار ونحقق خطط تنمية طويلة الأمد، وتستقر ميزانية الدولة، ونخطط لخمس أو لعشر سنوات قادمات، وتزدهر السياحة في عراقنا، سواء في الشمال حيث المصايف، أو في الوسط والجنوب حيث المراقد المشرّفة، وفي عموم القطر حيث الآثار التي تمتدّ في عمق التأريخ ممّا يتوق إليها الأجانب بشدة. تحسين العلاقات مع الجوار وبهذه المناسبة أقول- وأنتم سيد العارفين- أن هناك عشرات من دول العالم لا تمتلك معادن ثمينة أو نفطاً أو صناعات ثقيلة أو زراعة مقتدرة، بل تعتمد ميزانيتها أساساً على السياحة، ومنها "سويسرا، النمسا وبلغاريا" على سبيل المثال، ومن الدول العربية هناك "لبنان وتونس والمغرب" ناهيك عن "مصر" ... لذلك فلنتّكل على الله ونخطو إيجابياً لإجتياز هذه المعضلة العويصة التي طال أمدها، فالموضوع لا يحتاج إلاّ لقرار سياسي جرئ وصائب وواقعي يستند إلى المنطق. كما يجب أن نفكر جدياً بتحسين علاقات الجوار مع غير "إيران" إذْ لا يمكن أن نبقى في قطيعة أو علاقات سلبية مع هذا وذاك لذرائع واهية ومواقف سياسية متعاكسة... فـ"تركيا" لنا معها مصالح مشتركة يمكن أن نطوّرها نحو الأفضل ليسود في حدودنا المشتركة معها الهدوء والأمان فنكون نحن المستفيدين أكثر... و"مملكة الأردن" ينبغي نسيان الماضي معها، فنحن الذين قتلنا أبناء عمومة "الملك حسين"... و"الكويت" يجب أن نمحي من عقول أُمرائها مطالبتنا بأراضيهم عام 1961 أو قبله... و"السعودية" لا يجوز أن نعادي حكّامها بسبب موقف الرئيس "عبدالناصر" منهم أو بسبب تورّطها في مشاكل "اليمن"... ومن المُعيب علينا أن نبقى مع "سوريا" في أتون حملات إعلامية لا تجدي نفعاً، بل تجعلنا أُضحوكة أمام العالم المتحضّر. تطوير الجيش العراقي -ومن ضمن الأمور التي يجب تقديرها بخصوص الفرق العسكرية الخمس، أن تطوير الجيش وتسليحه يعتبر ضرورياً لتأمين الدفاع عن الوطن أو لربما التدخل لإستتباب الأمن الداخلي في حالات الضرورة القصوى، ولكن ليس على حساب إقتصاد الوطن وعمرانه وتحسين أداء مصانعه ومعامله وإنتاجها... فإستتباب الأمن يتم إعتيادياً عن طريق جهازي الشرطة والأمن، وهما يكلّفان أقل بكثير من تعاظم الجيش ويعوّضان عنه في الأمور الداخلية... وعلينا أن نقدِّر أن إطلاق مدفع لقنبلة واحدة قد يعادل مبلغاً يمكن به مضاعفة راتب شهري لمهندس أو طبيب عراقي... وأن تحليق طائرة واحدة لساعة واحدة ربما يكلّف الدولة ما يتم صرفه لتبليط شارع... وأن تزويد كتيبة دبابات واحدة بالأسلحة اللازمة يمكن أن يُعوَّضَ عنه بإنشاء حي سكني راقٍ... إعملوا إحصائية بسيطة لتتوصّلوا الى المبلغ الذي يُصرَف يومياً على إدامة جندي واحد يجلس على قمة جبل في الشمال بسبب خلاف دبّ بين أبناء العراق الواحد... وأنه بدلاً من هذا الصرف على عشرات الآلاف من الجنود يمكننا فتح معمل كبير في حجمه وإنتاجه، ليتقدم بتشغيله البلد بأكمله ويعمل فيه مئات من العمال لتعيش عوائلهم برواتبهم المتواضعة عيشاً مقبولاً على أقل تقدير. الحرس الجمهوري -كما لا أخفي رأيي في أن الجنود المكلّفين بحمايتك، هنا وفي بيتك، ومباني الإذاعة والتلفزيون ومواقع أخرى عديدة، فإنهم يكلِّفون الدولة مبالغ طائلة أيضاً... ولكن، إذا ما إستقرت ظروف البلد بعد الإقدام على إجراءات وخطوات معقولة، فلا حاجة أوانئذ لمثل هذه المظاهر المسلَّحة والصرفيات الهائلة التي لا موجب لها، إذْ ستَخُفّ عمّا عليها الآن... ولكني في الوقت نفسه لا أبتغي القول بأن هذه الحماية يجب أن تُصَفَّر ولا يبقى لها وجود، فهي ضرورية لإستقرار الحكم والأمن الداخلي، ولكن لا ضرورة لمئات من الجنود لحماية القصر الجمهوري، وآخرين مثلهم للإذاعة والتلفزيون والمُرسلات وغيرها، ومئات آخرون يقفون متهيّئين للطوارئ، فمثل هذه الأعداد لا وجود لها ولا حاجة بها لا في "البيت الابيض" ولا في "الكرملين" ولا لحماية "قصر بننكهام". ولكني أعود إلى القول بأن حماية الزعماء والقادة والرؤساء ضرورية، فالخلفاء الراشدون (رضي الله عنهم جميعاً)، رغم كونهم قد حكموا في صدر الإسلام وكانوا من صحابة النبي (صلى الله عليه وسلم)، قُتِلُوا جميعاً -عدا سيدنا "أبي بكر"- على أيدٍ خبيثة مجرمة، إثنان منهم مع الصلاة والآخر وهو يتلو القرآن !!!... فأين ظروفنا الآن من تلكم الظروف؟ وأين نحن -كأشخاص- من أولئك الصحابة الكرام؟. حرية الصحافة والرأي سكت "عبدالسلام عارف" قليلاً قبل أن يبادر:- - في لقاء سابق، يا دكتور، كان بيننا خلاف حول "حرية الصحافة" والإستمرار في مراقبة المطبوعات من عدمها... فهل ما زلتَ على الرأي نفسه؟ وهل آن الأوان لإطلاقها في ظروفنا الحالية؟ -سيادة الرئيس، أودّ أن أوضح لكم أنه لا يوجد أوانٌ محدّد أو حدّ فاصل لأية حرّية، ومن ضمنها "حرية الصحافة"... ولكن الساسة غير الراغبين في إطلاقها يتذرّعون بالظروف والمواقف والمستجدّات وغيرها من المصطلحات لتبرير تقييدهم للصحافة أو لحريات أخرى... ومن رأيي أن "الصحافة الحرة" هي التي يمكن أن تُنبِّه سلطات الدولة المختلفة -التشريعية منها أو القضائية أو التنفيذية- لأخطائها وسلبيّاتها كي تتمكّن من تصحيحها وإتخاذ إجراءات محددة وضرورية للحدّ منها، وهي شبيهة تماماً لصديق أو شخص ينبِّهك إلى "أوساخ" قد تكون عالقة في وجهك أو رأسك أو ظهرك لا يمكنك ملاحظتها أو مشاهدتها بأمّ عينيك كي تُزيلها. فالصحافيون هم من الطبقة المثقفة عادة، ومعظمهم قد يمكن إعتبارهم أهلاً لطرح أفكار مُجدية تفيد البلد، أو سلبيات ينبغي تقويمها، إذْ لا يمكن، أو يصعب، أن يراها الذين يُديرون السلطة التنفيذية أو من العاملين ضمن السلطتين التشريعية أو القضائية... لذلك، فان العديد من الدول المتحضِّرة تعتبر الصحافة "سلطة رابعة". ومن المعلوم والثابت في التأريخ، أن الأمم قد تقدَّمت، وصولاً لأعلى مراحل الرُقي بتأثير حرية الفكر والتعبير باللسان والقلم، وليس بالقمع والإرهاب وتقييد الحريات... وبما أن (6) سنوات قد إنقضت على "ثورة تموز"، وحوالي (3) سنوات على "ثورة رمضان" وما يزيد عن سنة على "ثورة 18/تشرين"... وأن ما أسميناه بـ"الفترة الإنتقالية" نحو الحكم السوي ينبغي أن لا تزيد عن سنة واحدة، فإني مازلتُ على رأيي في إطلاق "حرية الصحافة"، فحينئذ فقط تكبر "حكومة الثورة" في نظر الشعب وعلى المستوى العالمي أجمع... وإذا ما طُرِحَتْ "أفكار هدّامة" في الصحافة، أوانئذ يمكن إحالة أصحابها للقضاء لمحاسبة المقصِّر وفقاً للقانون، ولا ضَير في ذلك. أما "الرقابة على المطبوعات" فأراها ضرورية، ولكن ليس على النواحي السياسية وإنتقاء أداء مؤسسات الدولة، إنما على النواحي الأخلاقية والدينية والمذهبية، فلا يمكن أن يُسمح بصدور كتاب يحتوي خلاعة، أو مؤلّفات تمسّ الدين، أو تتسبَّب في خلافات مذهبية أو طائفية أو عرقية نحن في غنىً عنها. كتلة عدم الإنحياز -دكتور، بإعتبارك ضليعاً في القانون الدولي، كيف ترى مستقبل دول "كتلة عدم الانحياز" التي تنتهج سياسة لا تميل الى الشرق أو الغرب؟ -من حيث المبدأ، يا سيادة الرئيس، فأن "عدم الإنحياز" لا غُبار عليه، فالحِياد تجاه الصراعات المعلنة وتلك الخفية الدائرة بين كُتلَتَي العالم القائمتَين ضروري لدولة متواضعة مثل العراق وغيره... إلاّ أن هذا التكتّل لا يشكّل ثقلاً مؤثراً على السياسة العالمية ضمن أمور عديدة، قد يكون أوّلها أنه لا يمتلك قوة سياسية وعسكرية وإقتصادية موحدة أو متقاربة مثلما تمتلكها الكتلتان العظيمتان، وسوف لا يتمكن من إمتلاكها في المستقبل القريب وحتى البعيد... وثانيها، أنه "تكتّل" غير متجانس، لأن فيه العديد من الدول الرأسمالية وأخرى شيوعية وثالثة إشتراكية ورابعة (تائهة) بين هذه وتلك، ودولاً ديمقراطية وأخرى دكتاتورية يحكمها زعماء دول ليبراليون وآخرون إشتراكيون أو شيوعيون، وهناك من يدّعي بين هؤلاء وأولئك، وأن معظمهم لو وافاهم الأجل أو أُخرِجوا من الحكم لأي سبب، فإن الذي يليه يقلب سياسة الدولة رأساً على عقب ويمحو عادة كل ما أنجزه أو عمله سَلَفُه، فمعظم تلك الدول لا توجد في أنظمة حكمها سياسة مركزية تعتمد على مؤسسات مستقرة، بل هي سياسة شخوص زعماء ورؤساء... وثالثها، أن هذا "التكتّل" لا يمكنها تغيير موازين القوى في العالم المعاصر، وأن أية دولة منها لو مالت أو لم تَملْ، وإذا حادَت أو لم تَحدْ، فأنها ليست بذات تأثير على أي من الغرب أو الشرق. لذلك فإنني أرى مستقبل "عدم الإنحياز" لا تبشر خيراً، وأنه سوف لا يدوم إلاّ قليلاً، وإذا ما طال عمره بضعة عقود من الزمن فأنه لا يتعدى مستوى الإعلام والمؤتمرات السنوية واللقاءات بين الزعماء. ولكن، هناك عدد من الدول التي إستطاعت البقاء على الحياد التام في ظروف صعبة للغاية، وفي مقدمتها "سويسرا" المؤلفة من (4) قوميات وأقاليم متنوعة، والتي إستطاع قادتها تجنيب بلادهم -وهي تتوسّط القارة الأوربية- حربَين عالميّتين متقاربتين في ظرف كانت البقاع المحاذية لجميع حدودها الصعبة ملتهبة بنيران الحروب... فهل نستطيع نحن في "العراق" أن نكون كما كانوا في "سويسرا"؟ وهل لقادتنا مثل تلك النظرة وذلك التوجّه وبُعد البصيرة التي كان أولئك القادة متمتّعين بها؟ وهل يساعدنا وضعنا الإقليمي على إتّباع ذلك النهج القويم؟ وهل يمكن أن تدعنا الدول ذات مصالح سياسية وعسكرية أو نفطية وإقتصادية في المنطقة أن نبقى على الحياد؟ وهنا سكت"عبدالسلام عارف" بعد أن توقّف عن المسير، وظلّ ينظر بعيداً نحو السماء المتلألئة بملايين النجوم، قبل أن يدقّق في ساعته اليدوية، وينطق:- آه... لقد قاربت الساعة من العاشرة... لقد تمشّينا في هذا الطقس البارد ما يقارب ساعتين... شكراً يا دكتور على هذه الأفكار والطروحات... إنني فخور بك... صاحبتك السلامة. إستقلّ "عبدالرحمن البزّاز" سيارته الشخصية، وقادها بنفسه نحو بوابة الخروج من القصر، بينما كان رئيس الجمهورية يودّعه واقفاً بالقرب من سلّم باب التشريفات. وما أن دخل الرئيس "عبدالسلام عارف" إلى جناحه الخاص، حتى هرعتُ لأُخرِج مذكّرتي الشخصية السنوية لعام 1964 لأُسجّل في صفحة يوم (6/12/1964) تبييضاً وتفصيلاً لرؤوس نقاط عمّا تفوَّه به الأستاذ الكبير السفير "عبدالرحمن البزّاز" في حديثه مع الرئيس "عبدالسلام عارف"، قبل أن أترجّى زميلي "الملازم عبدالجبار جسام" لإتاحة الفرصة لي في تلك الليلة كي أُسجّلها في أوراق، والذي إستغرق ساعات الليل حتى الثالثة فجراً مواصلاً تجواله على نقاط المراقبة والحماية حوالي القصر الجمهوري... ووقتما عاد "عبدالجبار" وإستقر على مقعد بغرفة التشريفات، ووجدني ما زلتُ غارقاً في الكتابة فقد ظلّ يعاتبني ويلومني -كعادته في كل ليلة نقضيها معاً- على إغراق ذاتي في مثل هذه ((المتاهات والتـُرّهات)) وهذا ((الجنون)) عوضاً عن أداء صلوات النافلة والتهجُّد في جوف الليل.