من المفترض ان تعم الاحتفالات، وليس التفجيرات، معظم انحاء العراق مع قرب انسحاب الكم الأكبر من القوات الامريكية بعد سبع سنوات من الاحتلال، ولكن ما يحدث على الارض يثير الخوف والهلع، ليس في اوساط العراقيين فقط، وانما دول الجوار الاقليمي ايضاً. افاق العراقيون بالأمس على سلسلة من الانفجارات شملت سبع محافظات، وأوقعت أكثر من خمسين قتيلاً ومئتين وخمسين جريحاً، نسبة كبيرة من القتلى والجرحى من رجال الشرطة الهدف الاساسي لهذه التفجيرات. العراقيون يعيشون أزمات متفاقمة، تبدأ من عجز النخبة السياسية عن تشكيل حكومة بسبب خلافاتها الطائفية والمذهبية، والتدخلات الخارجية، وتنتهي بانقطاع شبه كامل للتيار الكهربائي في صيف قائظ، تصل درجات الحرارة فيه الى فوق الخمسين درجة مئوية. ومن المؤكد ان هذه التفجيرات جاءت لتضيف اليهم ازمة امنية تذكرهم بأخرى مماثلة بلغت ذروتها عامي 2006 و2007، حيث جاوز عدد القتلى الالفي شخص شهرياً على الأقل. الذين خططوا لهذه التفجيرات كانوا على درجة عالية من الخبرة والكفاءة في الاعداد والتنفيذ لمثل هذه الاعمال الدموية، فقد استخدموا مختلف انواع القنابل والشاحنات المفخخة، علاوة على الهجمات الانتحارية لاحداث اكبر قدر ممكن من الخسائر البشرية، وهز الحكومة الطائفية وأجهزتها، وفضح عيوبها الامنية، وبالتالي عدم أهليتها لادارة شؤون البلاد. التقارير الأولى أفادت بان هذه التفجيرات تحمل بصمات تنظيم 'القاعدة'، وتؤكد عودة هذا التنظيم الاصولي بقوة الى قواعده السابقة في العراق، في محاولة من قيادته لملء اي فراغ امني يمكن ان ينشأ عن انسحاب القوات الامريكية. واذا صحت هذه التقارير، وهي تبدو أقرب الى الصحة، فإن علينا ان لا نتفاءل بأي مستقبل مستقر لهذا البلد على المدى القصير على الأقل، لأن عودة التنظيم الى العراق هذه المرة ستكون مختلفة عن كل المرات السابقة. فتنظيم 'القاعدة' يعود اليوم الى تربة عراقية اكثر ملاءمة لاحتضانه مجدداً، خاصة في المناطق السنية التي اصيبت بخيبة أمل كبيرة من جراء فشل عمليات المصالحة الوطنية بسبب العقلية الثأرية للنخبة الحاكمة، واظهارها أبشع أنواع الديكتاتوريات الطائفية الاقصائية التي ترفض التعايش مع الآخر، والقبول بأي مشاركة حقيقية في الحكم. فقوات الصحوات التي تأسست لمحاربة تنظيم القاعدة، وضمت اعداداً كبيرة من ابناء العشائر السنية، وجدت الحليف الامريكي الذي جندها، يتخلى عنها ويهرب بقواته الى الكويت تاركها خلفه تواجه مصيرها الاسود، فلا هي بقيت قوات مقاومة، ولا هي حصلت على نصيبها من كعكة الحكومة التي رفضت استيعابها في أجهزتها الأمنية او المدنية، باستثناء نسبة محدودة من هؤلاء. وتأتي الأزمة الحكومية الحالية، ورفض السيد نوري المالكي رئيس الوزراء التنازل عن كرسي الحكم تسليماً بمبدأ التبادل السلمي للسلطة الذي هو أهم أعمدة الديمقراطية ومرتكزاتها، ليكشفا هشاشة العملية السياسية في العراق التي انبثقت من رحم الاحتلال، واكذوبة التحول الديمقراطي الذي تباهت به النخبة السياسية العراقية المنخرطة في هذه العملية. القوات الامريكية المنسحبة لن تعود الى العراق، بعد ان نجت بجلدها، وسلمت بالهزيمة. كما ان قوات الامن العراقية، ورغم المليارات التي انفقت على تدريبها وتسليحها، انفضح عجزها وعدم قدرتها على تسلم المهام الامنية بنجاح، والاحتمال الاكثر ترجيحاً هو دخول العراق في حالة من الفوضى الدموية، وربما حرب اهلية طائفية لا يستطيع أحد ان يتنبأ بنتائجها او كيفية السيطرة عليها. في ظل هذه الحقبة المأساوية للمشروع الامريكي في العراق، يمكن القول بان زعيم تنظيم القاعدة وقادتها المحليين يفركون أياديهم فرحاً لوصول البلاد الى هذا الوضع الفوضوي والمثالي بالنسبة اليهم، ولابد انهم يتبادلون التهاني ويصلون لخالقهم شاكرين له هذه الهدية التي انتظروها طويلاً، بل لم يتوقعوها بعد الحاق هزيمة كبرى بهم، جعلتهم يخسرون امارتهم الاسلامية التي اعلنوها مبكراً.