ثم وجّه السيد الرئيس حديثه نحونا متسائلاً:-
((ماذا تقولون أيها الطيارون؟؟ هل بإستطاعتكم الطيران ليلاً؟؟)).
فما كان من المرحوم "خالد النوري" إلاّ الوقوف بوضع الإستعداد مُسرِعاً -كعادته- ليجيب:-
(وَلِـمَ لا... سيدي الرئيس... أنتَ تأمر ونحن ننفذ)!!!
عندئذ سار الرئيس مع صحبه بجانب ((الأخ المشؤوم "العزرائيل عبداللطيف الجبوري")) يتبعهم معظم المدعوين سيراً على الأقدام نحو "الملعب" الذي طَوَّقَته الجماهير من جهاتها الأربع، فصدحت الحناجر وتلاحقت الخطب الطنانة والعبارات الرنانة والقصائد التي تمتدح "أبا أحمد" وتقدّسه وتعلـّيه إلى مصاف الأنبياء والرسل وأعاظم الأبطال، تلاه البعض من الخطباء والشعراء عارضين مطالب أهالي "قضاء القـُرنة".
ولربما إستشعر الرئيس بذاته مضطراً لإلقاء كلمة قصيرة وجوباً، وسرعان ما أطالها منسجماً مع الجماهير ليحوّلها -كعادته- إلى خطاب مُرتَجَل ودافئ، تخللتها عبارات مازحة باللهجة العامية، حتى غربت الشمس تماماً وأذن المؤذّن لصلاة المغرب ونحن متهيئون بالقرب من طائراتنا كي نقلع بأسرع ما يمكن.
ومن المؤكّد أن السيد الرئيس ومعظم الحضور لم يتحسّسوا بقدوم الليل، فقد كانت ساحة الملعب الواسعة ومرافقه العديدة مُنارة بسطوع بفعل أضواء العشرات من البروجكترات الضخمة المسلّطة عليها، حتى جاوز الوقت الساعة السادسة والنصف، وقتما راح السيد الرئيس يُلَوِّح بيديه مُودّعاً الجماهير تحت وابل من التصفيق الحاد تخلّلته أهازيج وهُتافات مدوّية، وتوجّه مُحاطاً بصحبه وسط سيارة مكشوفة (تـَنـْتـَه) إلى حيث كنا بإنتظاره، فيما كان الآلاف يرقصون ويهزجون -كعادتهم مع كل حكام العراق- مُنادين بحناجر تشق عنان السماء:-
(إحنا جنودك يا سلام.. إحنا جنودك يا سلام)
(عبد السلام محبوبنا.. مكتوب جوّه قلوبنا)
توجه السيد الرئيس إلى الطائرة الأولى التي يقودها "النقيب خالد النوري" وقد صعد معه كل من "عبداللطيف الدراجي، مصطفى عبدالله، جهاد أحمد فخري، عبدالهادي حافظ، محمد الحيّاني، العميد زاهد محمد صالح، الرائد عبدالله مجيد".
وبعد إتمام تشغيل محرّك الطائرة والتأكد من سلامة مروحتيها وأجهزتها ومعدّاتها، فقد أسرع نائبا الضابطين "الكهربائي محمد عبدالكريم، والبرّاد كريم حميد" إلى جوفها وأحكما غلق بابها.
أما في طائرتي، فقد جلس إلى جانبي في مقصورة القيادة "المقدم الركن قاسم حمودي -آمر موقع البصرة"، فيما أشغل مقاعد جوف الطائرة كل من:- "بايز عزيز-متصرف لواء الناصرية، إبراهيم الوَلي-رئيس تشريفات القصر الجمهوري، المقدم الركن فاضل مصطفى أحمد-مقدم لواء الحرس الجمهوري، المقدم الركن "زكي الصائغ"- ضابط ركن موقع البصرة، "شاكر الغرباوي"- رئيس بلدية الناصرية، "أحمد الحَسّو"- أحد موظفي القصر الجمهوري، "فيصل حَسّون" نقيب الصحفيين، و"عبد العزيز بركات"- السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية".
أما الطائرة الثالثة فقد كانت مخُصّصة للصحافيين والمصورين ومراسلي الصحف والإذاعة والتلفزيون والسينما.
الطيار "منذر" يفنّد نظرية المؤامرة
•أنــا:- ولكن الأخ "الملازم محمود رؤوف" يطرح غير ذلك.
•مُـنـذِر:- ماذا يطرح؟
•أنــا:- يقول:-
1.أن الطيارين الثلاثة لدى مشاهدتهم رئيس الجمهورية متوجّهاً إليهم، فقد أدارَ "الملازم الطيار مذكور فليَّح" قائد إحدى الهليكوبترات -التي كانت مُخَصّصة لرئيس الجمهورية وكبار المسؤولين الذين بصحبته- محرّك طائرته.
2.ولكن، لم تَنْقَضِ سوى بضع دقائق حتى توقّف المحرّك بشكل مفاجئ... وفور إنشغال طيارها وفنّيّيها بإصلاح العطل، فقد نزل السيد الرئيس مع صحبه على عُجالة ممتطين الطائرة الثانية التي كان النقيب الطيار "خالد محمد نوري" يقودها، فأدار محرّكها... ولكن، ما هي إلاّ لحظات حتى أقلع "خالد"، بينما أقلعت (أنتَ) بعدها مباشرة.
3.وبعد إنقضاء حوالي خمس دقائق، تم إصلاح العطب، لتقلع بما حملته من مصورين ومراسلي صحف بدلاً من رئيس الجمهورية وصحبه.
4.وقد سأل الأخ "محمود" قائد الطائرة المعطوبة "الملازم مذكور فليّح" أثناء إشرافه على التصليح، فأجابني:- ((أن قـَطعاً مفاجئاً في الدورة الكهربائية هو السبب)).
5.ولذلك، إستنتج -حسب قناعته الشخصية- إحتمال وجود مؤامرة وراء الحادث، فتلكما الطائرتين معاً كانتا قد لُعِبا في دورتَيهما الكهربائيّتين، وأنه بعد إنقضاء دقائق على تشغيل محرّك الطائرة المخصصة للسيد الرئيس، فقد بان العطل... ولمّا لم ينتظر "النقيب خالد" إلاّ قليلاً قبل الإقلاع، فقد أصابها العطل بعد دقائق وهي في الجو جراء إنقطاع الدورة الكهربائية.. فسقطت)).
•منذر (غاضباً):- ما هذا الكلام؟؟!! ومن أين أتى به؟؟!!
أخ صبحي:- أكرر ما تفوّهتُ به قبل قليل.. وأرجوك سجّل ما أقوله الآن:-
أولاً- الهليكوبتر المرقمة (598) والمخصصة للسيد الرئيس هي تلك التي قادها آمر التشكيل "النقيب خالد النوري"، والثانية (أنا) "منذر سليمان عزت" قدتـُها، وهما لوحدهما محورتان لتنقـّل الشخصيات (V.I.P)... أما الثالثة فهي ذات مقاعد إعتيادية لركوب الصحفيين، فهل يُعقل أن يمتطيها السيد الرئيس والوزراء؟؟!!
وثانيا- قائد الهليكوبتر الثالثة هو "الملازم عثمان نوري" (كاكا عُصْمان)، وليس "الملازم مذكور فليّح الرُبَيعي" الذي ما زال بدرجة "معاون طيار" (CO-PILOT)، فلا يجوز أن يتسلّم -لحد هذه الساعة- طائرة على ذمته ويقودها لوحده إلاّ وقتما تتطلـّب الحاجة لذلك، وقد إصطحبناه إحتياطاً إبتغاء حالة طارئة.
ثالثاً- صحيح كان هناك عُطل كهربائي أصاب الطائرة الثالثة التي إحتضنت الصحفيين، وقد تأخرت دقائق معدودات حتى تم إصلاح العطل، فأقلعت بعدنا بقليل.
رابعاً. أما الأخ "محمود" فليتخيّل ما يشاء ويحلّل كيفما يشاء، ولكن ما تحدثتُ بعظمة لساني -بصفتي طياراً كنتُ الثاني بذلك التشكيل في تسلسل القدم العسكري والخبرة ومرافقة السيد رئيس الجمهورية وكبار مسؤولي الدولة- وهو الواقع الذي أصرّ على مصداقيته وعلى يقين منه، مثلما على يقين أني "منذر إبن سليمان عزت".
•أنــا:- شكراً جزيلاً على هذا الإيضاح الوافر، وسأبلغ "الأخ محمود" بما تفضلتَ به.
•مُـنـذِر:- كلاّ لا تبلـّغه فحسب، بل فليأتِني في خفارتي اللاحقة بعد (3) أيام ليُسَمعني من أين أتى بهذه المعلومات الخطيرة؟؟!! إذْ وقتما يتحدث بها لأقربائه وأصدقائه فإنهم يعدّونـها ((تحصيل حاصل)) يتفوّه بها شخص كان في قلب الحدث ومسؤولاً عن حماية هليكوبترات رئيس الجمهورية على الأرض حتى لحظة إقلاعها.
•أنــا:- سأبلـّغه بذلك، ولكنه بالتأكيد عاد إلى "البصرة، ويفترض أن يتمتع بإجازته القادمة بعد شهر، وقد نزورك سوية... والآن دعني أطرح سؤالاً أتمنى أن تكون صريحاً معي.
•مُـنـذِر (مقاطعاً):- والله عبارتك هذه -يا صبحي- بصراحة لم تعجني!!! فهل إستشعرتَ بنقص الصراحة بأي من أجوبتي؟؟!!
•أنــا:- لا لا يا سيدي العزيز، الله يبارك بك، لم أقصد ذلك أبداً، بل أننا نسمع أحاديث عامة تتمحور حول ((الطيران الليلي)) الذي لم تكونوا متأهبين له.... فهنا سؤالي الذي قد يكون مُحرِجاً لكم:- هل كنتم -أنتم الطيارون- مدرَّبين على الطيران الليلي بشكل مُرضٍ؟ وكم مارستموه؟ وهل أعددتم خطة ملاحية للعودة إلى "البصرة"؟؟؟.
•مُـنـذِر:- والله أمنحك كامل الحق في تساؤلك، لأن رئيس المجلس التحقيقي العسكري "عقيد الجو الركن زيدان أحمد زيدان" وأعضاء مجلسه وسواهم قد ألحّوا على هذه النقطة كثيراً.
فالحقيقة، إننا مدرَّبون على الطيران الليلي، ونمارسه (تدريبياً) بين فترة وأخرى... إلاّ أن خبرتنا العملية فيه ظلّت محدودة للغاية لضآلة تكليفنا بواجبات ليلية.
ولكن معضلتنا لا تكمن في هذا المجال، ففي هذا الحادث لم يكن مجرد ضعفنا في الطيران الليلي سبباً رئيساً في سقوط الطائرة، فواقع الحال أن تحليقنا من "القرنة" إلى "البصرة" لا يُعَدّ (طيراناً ليلياً) بمعناه الإصطلاحي والعملي، بل هو أقرب إلى الطيران النهاري، لأننا أقلعنا من بقعة مُنارة بالبروجكترات متوجهين نحو مدينة كبيرة واسعة ذات معالم وعمران وميناء ضخم أعظم إنارة، وخط طيراننا ليس صحراء قاحلة أو برارٍ جرداء، بل هي مكتظة ببلدات كبيرة ومئات القرى المتناثرة في الأعماق وعلى جانبَي أعظم طريق دولي يربط "العراق" بالخارج وتتزاحم فيه المئات من السيارات والشاحنات ليل نهار وعلى مدار الساعة، والمسافة بين المدينتين لا تعدو (70) كلم، بحيث حالما نرتفع بعض الشيء في سماء "القرنة" حتى نرى مدينة "البصرة" العظيمة أمام ناظرَينا بكل وضوح بأضوائها التي تبدو وكأنها حريق ضخم، وما علينا سوى التوجه نحوها في رحلة لا تدوم سوى (20-25) دقيقة بالسرعة الإعتيادية.
أما "الخطة الملاحية" فلم يأتِ ببالنا وضعها، فالإتجاه المغناطيسي من "القرنة" نحو "البصرة" بحدود (150) درجة، وما علينا سوى ضبطها والإلتزام بها عن طريق "الحُك/القنباص (COMPASS)" حتى نبلغ "البصرة" القريبة بكل يسر وسهولة.
•أنــا:- وما كفاءة الأجهزة اللاسلكية والآلات الملاحية في هليكوبتر الـ(WESSEX)؟
• منذر:- أنها أكفأ وأرقى بكثير وبشكل لا يمكن مقارنتها مع ما في الهليكوبتر السوفييتية (مي-4) –والتي نسميها ((عَرَبانه))، وتعتبر ((عمياء)) ليلاً ولا يُعتمَد عليها.
•أنــا:- والآن يا سيدي فلنعرّج على الأهم... كيف وقع الحادث؟
•مُـنـذِر (مازحاً):- ما هذا -يا صبحي- ؟؟ هل لا تكلّ ولا تملّ ولا تكتفي... لقد دمرتـَني يا أخي، فنحن جالسون منذ الساعة السادسة والآن الثامنة والنصف، دعنا نتناول (لقمة زقـّوم) ثم نعود، وكل وقتي لك بعد ذلك.. ومثل ما يقول المثل:- (جيب ليل وخذ عَتابة).
ووقعت الكـارثـة
•أنــا...(بعد طعام العشاء):- أدام الله فضلكم وسُفرتكم العامرة، وطعامكم كان لذيذاً وقد تناولتُ منه لحد التخمة، والحمد لله... فلنعد إلى الحادث الجلل بتفاصيله لو سمحتَ.
•مُـنـذِر:- نعم... فحالما شاهدنا الرئيس متّجهاً نحونا أدرنا محركات طائراتنا تباعاً حسب النظام المتبع، فنادانا "النقيب خالد النوري" للتأكد من سلامة الأجهزة اللاسلكية ووضوح الصوت.
وبعد التأكد من إستقرار الجميع في مقاعدهم وشدّ أحزمتهم، أقلع "النقيب خالد" في تمام الساعة السابعة إلاّ عشر دقائق، وتبعتـُه بعد دقيقة واحدة، فيما تأخر "الملازم عثمان" ومعاونه "الملازم مذكور فـــلَيــِّح الرُبَيْعي" بالهليكوبتر الثالثة بحدود (4-5) دقائق بعد إصلاح العُطل الذي ذكرناه.
وبعد دقيقتين من إقلاعنا وإبتعادنا من قلب "القرنة" إستشعرنا بظلام دامس بسبب إنتقالنا في غضون ثوانٍ من منطقة مُنارة للغاية إلى خارجها.
وحالما أعلمنا المراقب الجوّي لمطار البصرة الدولي "فَريد عبدالأَحَد" أن إحدى الطائرتَين تحمل رئيس الجمهورية، فقد أبلـَغـَنا بـ"التقرير الجوي التقليدي" المحتوي على إتجاه الريح السائدة وسرعتها ومدى الرؤية والغيوم والضغط الجوي... وكان كلها طبيعية... ولم نتَلَقَّ بعد ذلك، سواء من "مطار البصرة"، أو سواه أي تحذير لأي سوء في الأحوال الجوية السائدة.
كانت الأضوية الحمراء والخضراء والبيضاء لطائرة الرئيس أشاهدها بكل وضوح على مسافة (200) متر تقريباً، والإتصال اللاسلكي بيننا سالك، ونحن على إرتفاع (6000) قدم ((حوالي 2000 متر)).
وأخيراً الفـاجــعـة
بعد طيران دام حوالي (7) دقائق بعد الإقلاع، فوجئتُ بطائرتي وقد دخلت وسط منطقة مطبات هوائية (BUMPY) مؤثّرة جعلتها تهتزّ بعنف، في حين أمسى مدى رؤيتي (صفراً) بسبب الغبار الذي إمتلأ به جوف الطائرة والجو المحيط، قبل أن ينقشع بعد بضع دقائق.
أمرني "النقيب خالد" -بعد علمه بإقلاع الطائرة الثالثة بقيادة "كاكا عثمان"- أن أوعز إليه بالعودة إلى "القرنة" ما دام متأخراً عنا وبعيداً عن هذه الأجواء الطارئة، في حين طلب من "مطار البصرة الدولي" تحديد موقع طائرته في الجو وتثبيت إتجاهها.
ولما أستشعرتُ تلكّؤا في إستجابة "سيطرة المطار" ، تدخّلتُ متحدثاً مع مراقبهم الجوي، وبلهجة عنيفة:-
((ألا تفهم يا أفندي؟ النقيب "خالد" معه السيد رئيس الجمهورية، حدّدوا له إتجاهه وموقعه بسرعة)).
فما كان من السيطرة إلاّ الرد:-
((سيدي..لا توجد لدينا أجهزة لتحديد الإتجاه!!)).
أدرتُ التردد اللاسلكي نحو "برج السيطرة لقاعدة الشُعَيْبة الجوية"، فكان الجواب مشابهاً:-
((سيدي.. لا يتوفر لدينا جهاز لتحديد الإتجاه)).
واصلنا الطيران نحو "البصرة"، ولا أدري لماذا أحسستُ بإرتباك خلال تلك اللحظات، قبل أن يباغتني "خالد" بصراخه المفاجئ:-
((ولك منذر.. منذر، ولك عيني إلحَكْني.. أنا بخطر)).
في تلك اللحظة بالذات، دخلت طائرتي وسط "مطبّات" شديدة متتالية ومزعجة في جيب هوائي أوسع من سابقه، فأمست تدور حول نفسها وتتقلـّب سائبة إلى جميع الإتجاهات، وقد فقدتُ كامل سيطرتي عليها وقتما أمست ((عصا القيادة)) لا تستجيب بشكل مطلق وأحسستُ بإنـهواء الطائرة نحو الأسفل وإستشعرتُ بأحشائي وقد غدت في بلعومي... ولا أدري كيف خرجتُ من أتون الجيب الهوائي ومن الذي قذفـَني من أتونه، حتى وجدتُ طائرتي قد هَوَت من إرتفاع (6000) قدم قبل نصف دقيقة إلى أقل من (3000) قدم... ولا أعرف -لحد هذه اللحظة- كيف تخلـّصتُ من تلك الدوامة؟؟!! وبماذا أعدتُ السيطرة على طائرتي؟؟!! ومن مكّنني من توجيهها مجدداً؟؟!! وما الذي تسبب في خلاصي؟؟!! حتى وجدتُ ذاتي وسط أجواء هادئة وصافية تماماً من كل شائبة حائماً في سماء أهوار واسعة كلّها مياه... فيما ظلّ "المقدم الركن قاسم حمودي" يتقيّأ مراراً حتى أفرغ كل ما في جوفه من طعام وشراب، فأضحى شبه مغميّ عليه.. وسأعلم بعدئذ أن البعض من الركوب الآخرين قد أُصيبوا بالحالة نفسها.
ناديتُ "النقيب خالد" عشرات المرات وبشكل متلاحق فلم تردني أية إجابة، وبعد دقائق عديدة قررتُ العودة الى "ملعب القُرنة" الـمُنارة بالبروجكترات، فهبطتُ قرب "ملعب الإدارة المحلية" نفسه في حوالي الساعة (7.30) من ذلك المساء المشؤوم- أي بعد طيران لم يدم سوى (40) دقيقة- مواصلاً نداءاتي اللاسلكية مع "خالد" طوال طريق العودة من دون جدوى، حتى شاهدتُ "كاكا عثمان" وقد سبقني في الهبوط.
تَرَجَّــلتُ من مقصورة القيادة كالمجنون فاقداً توازني موجّهاً صراخي نحو "المقدم الركن فاضل مصطفى"-مقدم لواء الحرس الجمهوري:-
"سيدي، سيدي... طائرة الـمُشير تاهت يا سيدي!!!".
وهنا فقط، أدرك الركاب الذين أسرعوا في ترجلهم من الطائرة، أنهم لم يبلغوا "مطار البصرة" كما كان مخططاً، بل أنهم في "القرنة" مرة أخرى.
ما بعد الفاجعة
وأضاف الأخ "منذر":-
ساد الهرج ساحة الملعب الـمُنار بالبروجكترات وسط إرتباك وقلق وإضطراب... وبأوامر فورية فـَتـَحَت السيارات الرسمية وسيارات الأهلين -التي كان البعض منها ما يزال هناك- أضواءها، فيما أشعل معظم أهالي "القرنة" المشاعل فوق سطوح منازلهم عسى أن تهتدي طائرة السيد رئيس الجمهورية اليها، بينما إنطلقت عشرات السيارات بإتجاهات مختلفة على الطرق الخارجة المبلطة والترابية والزراعية، لعلّ أصحابها يعثرون على أي شيء.
هرعتُ إلى الهاتف الأرضي المنصوب بالقرب من "مَنَصّة الخطابة" وهاتفتُ "مطار البصرة الدولي" موضّحاً لـ"برج السيطرة" الموقف القائم، ورجوتُ من المرابطين فيه الإسراع في إنارة مدرج هبوط الطائرات علّـها تساعد "النقيب خالد" في التوجّه نحوهم، في حين هاتفتُ الضابط الطيار الخافر لدى "قاعدة الشعيبة الجوية" لأشرح له مجريات الأمور لينقلها إلى آمر القاعدة "مقدم الجو الركن خالد حسين ناصر".
أقلعتُ بطائرتي لوحدي، وحلّقتُ فوق "القرنة" وضواحيها حوالَي (45) دقيقة بدورانات متواصلة باعثاً إشارت ضوئية متقطـّعة بـ"البروجكـتر" إلى جميع الإتجاهات، ولم أهبط إلاّ بعد أن تدنى مستوى البنزين، وحاولتُ مراراً أن يجيبني "النقيب خالد"، ولكن من دون جدوى.
في حوالي الساعة التاسعة ليلاً قرر المقدمون الركن الثلاثة "فاضل مصطفى، قاسم حمودي، زكي الصائغ" العودة إلى "البصرة" بموكب السيارات الرئاسية، فيما كان الوقت يمضي ببطؤ شديد من دون نتيجة، حتى غادرنا كل من بقي في محيط الملعب من المواطنين إلى مساكنهم.
أُمِرنا بعدم الطيران ليلاً بشكل مطلق وإنتظار الصباح الباكر للرجوع إلى "البصرة"، فتوالت الساعات ثقيلة على ذواتنا التي أصابها اليأس والعجز والشؤم، فجلسنا والبؤس يلازمنا متعلـّقين بأمل يتيم واحد في إحتمال أن تكون طائرة "خالد النوري" ربما ظلـّت الطريق فهبطت إضطرارياً وإرتطمت بالأرض في بقعة نائية عن الأنظار، فتعطـّبت أجهزتها اللاسلكية فقط، فلم تعد تعمل.
لم يُغمَضْ لأي منا جفن في تلك الليلة الطويلة البائسة حتى إنبثق الفجر وعمّ أول الضياء، وأوشكت شمس (الخميس-14/نيسان) على الشروق بُعَيدَ الساعة الخامسة، وقتما إخترق أسماعنا هدير محركات عدد من الطائرات المقاتلة (ميك-21) النفاثة وهي تجوب أجواء المنطقة بسرعة عالية وإرتفاعات منخفضة، في حين إستجلبت أنظارنا -ولو عن بعد- طائرة نقل عسكرية ضخمة من طراز (آنتونوف-12/أوكرايينا) وهي تحوم بإرتفاعات متدنية إلى الجنوب من "القرنة" باحثة عن الهليكوبتر المفقودة منذ حوالي (10) ساعات.
لم يُسمَح لنا -نحن الطيارون الثلاثة مع نواب الضباط الفنيين الأربعة- بالإقلاع حتى الساعة (5.30) من الصباح الباكر، لنسرع في الرجوع بطائرتينا إلى "قاعدة الشعيبة" مباشرة.
كنا في الطريق نحو "البصرة" بسرعة عالية حين أعلمتنا سيطرة القاعدة بالعثور على طائرة الرئيس "عبدالسلام محمد عارف" محطـّمةً إلى أجزاء متناثرة، وقد وافاه الأجل مع جميع صحبه وسط بقعة قريبة نسبياً من قرية "النشوة" إلى الجنوب الشرقي مدينة "القرنة" بحوالي (30) كلم.
وحال هبوطنا على مقربة من مبنى آمريّة القاعدة بالساعة (6.00) صباحاً، وجدنا "مقدم الجو الركن خالد حسين ناصر" إلى جانب "المقدم الركن فاضل مصطفى" متهيئين للإنتقال إلى مكان الحادث يصحبهم ضباط آخرون والسيد "عبدالعزيز بركات" -السكرتير الصحفي لرئيس الجمهورية" وبرفقتهم مصور تلفزيوني.
توجّهنا أوّل الأمر إلى غرفة العمليات سراعاً، ويبدو أن السيد آمر القاعدة إستشعر بي وبـ"كاكا عثمان" مُتعَبَين كثيراً، لذلك كلـّفَ "الملازم الطيار مذكور فليّح الرُبَيعي" لتثبيت الإحداثيات التي حدّدها قائد طائرة النقل ""الرائد الطيار محمد إبراهيم أدهم" لموقع سقوط الهليكوبتر على الخريطة.
مشاهدات في موقع الحادث
كانت الساعة (6.10) حين إمتطينا الهليكوبتر التي قادها "مذكور فليح"، فشغل آمر القاعدة مقعد معاون الطيار فيما جلس "المقدم الركن فاضل" و"الرائد الطيار محمد أدهم" والسيد "عبدالعزيز" والمصور التلفزيوني للقصر الجمهوري الذي برفقته، ونحن معهم في جوفها، حتى أسرع بنا إلى موقع الحادث الذي هبطنا بالقرب منه بحدود الساعة (6.30) قـُبَيلَ وصول رئيس المجلس التحقيقي العسكري وأعضاؤه بهليكوبتر أخرى من طراز (مي-4) القديمة كانت ضمن ملاك عدد من الهليكوبترات المرابطة لدى "قاعدة الشعيبة"، تلاهم بالسيارات "هيئة التحقيق القضائي" برئاسة "القاضي سالم محمد عزّت" بصحبة أعضاء قضاة وطبيبين ومحققين قضائيين ومصورين.
كان المنظر مُرَوّعاً ومأساوياً، حتى أُصيب "مذكور فليح" بحالة من الهلع الشديد لهَول ما شاهدناه، حتى أضحى باكياً بمرارة صارخاً:-
((سيدي... كلهم ماتوا... ماتوا كلهم يا سيدي)).
وبين حطام الطائرة المنكوبة وأجزائها المتناثرة ومحركها المدمّر ورِيَش مروحتـَيها وكتلتها المحترقة التي تحوّلت إلى شبه رماد، وسط دائرة يبلغ قطرها بضع عشرات من الأمتار.. وبدموع منهمرة غدونا نتفقـّد الجثث المتساقطة قبل كل شيء.
كان جثمان الرئيس "عبدالسلام محمد عارف" واضح المعالم قريباً من نقطة إصطدام الهليكوبتر بالأرض، مُنكفِئاً على وجهه، وقد تشابكت يداه تحت رأسه، مُلصِقاً وجهه بالأرض، فيما إحترق البعض من شعر رأسه، مرتدياً بذلته المدنية، بينما تمزّقت سترته في ظَهرها، وآثار من الدم متخثـّراً على فتحتَي أنفه.
أما وزير الداخلية "اللواء عبداللطيف الدراجي" فقد كان أبعد الجميع عن مركز حطام الطائرة وآثار قدميه وزحفه على الأرض كانت واضحة، وبكامل ملابسه عدا سترته المحترقة والتي يبدو أنه خلعها على بعد أمتار.. فيما كان وزير الصناعة "مصطفى عبدالله" على مسافة بضعة أمتار من شخص السيد الرئيس، وقد رقد قريباً منه وكيل وزارته "العميد المهندس عبدالهادي حافظ".
أما الضحايا السبعة الآخرون، فلم يكن بإقتدار أحد التعرّف عليهم مطلقاً لتحوّلهم إلى كتلة من الأشلاء المحترقة والمتشابكة، سوى متصرّف/محافظ البصرة "محمد الحيّاني" الذي سيُشَخَّصُ بعدئذ من قلم الحبر الذي كان يحمله... ولربما أُستـُدِلَّ بعض الشيء على جثمان "الرائد عبدالله مجيد".
وقد عثر المحققون في حينه على خاتم زواج يحمل إسم السيدة "شَهبال" عقيلة الوزير "مصطفى عبدالله"، وعلى السِدارة العسكرية للعميد "زاهد محمد صالح" وعلامة ياقته الحمراء ومسدّسه الشخصي.
وحينما عايَنوا الساعات اليدوية بأيدي الصَرعى غير المحترقين، وجدوها قد توقـّفت عند الساعة (7,10)، أي بعد اقلاعهم من (القرنة) بـ(20) دقيقة فقط.
تحليلات الختام
•عصمت:- هل من دلالة على سقوط الطائرة جراء متفجرات أو إستهداف بسلاح أرضي؟؟
•مُـنـذِر:- مطلقاً كلاّ، فقد أُخِذَت عَيِّنات من جميع أجزاء الطائرة المتناثرة وأجرِيَتْ عليها تحاليل في مختبرات الجيش ووزارة الصناعة، ولم يثبت هناك أيّ إحتمال من هذا القبيل.
وبالمناسبة فزميلنا "الملازم أول أحمد بهجت" هو الذي كُلـِّفَ بهذه المهمة، ولكم أن تزوروه في مدرسة الهندسة العسكرية.
•أنــا:- والله أفرحتني بهذه المعلومة، فهو صديقنا وسنزوره في بيته بعون الله.
والآن -يا سيدي- ما الذي جابهكم أثناء الطيران من حالة جوية طارئة؟؟؟ فالكل يؤكدون على صفاء الأجواء وعدم وجود عاصفة في ذلك الوقت.
•مُـنـذِر:- هم صادقون، فلم تكن هناك (عاصفة) عمّت المنطقة، والدليل أننا أقلعنا وحلـّقنا (7) دقائق في جوّ هادئ وصافٍ حتى جوبهنا ببعض الرداءة قبل أن نتواجه بالجيب الهوائي الثاني الذي أوقع الكارثة، فيما كانت الأجواء في "البصرة" ومحيطها ممتازة.
ولكن المعضلة في هذه البقاع -كما الحال في معظم مناطق العراق الجنوبية والغربية- هي ما تـُسَمّى باللهجات المحلـّية "الفـَتـّالة، أو الدُوّيرة"، وقد تسمّى علمياً بـ"الدوامة/VERTICO"، والتي تعني (مجموعة هوائية تدور حول نفسها بشكل دائري وسريع وعادة ما تسير بإتجاه محدد، وقد يكون قطرها بضعة أمتار لغاية العشرات والمئات، وعادة ما تحمل جراء دورانها الشديد تراباً وغباراً ورمالاً حسب نوعية الأرض، وحتى ماءً بكميات مختلفة)... وهي متوفرة في مناطق الأهوار والمستنقعات أكثر من سواها، وعادة ما تتميز بالشفافية لإنعدام الغبار فيها كون هذه البقاع مؤلـّفة من مُسَطـّحات مائية تتاخم مسطحات أرضية رطبة مُشبَعة بالمياه.
وأعظم ظني أننا دخلنا -من حيث لا ندري بالطبع- وسط "دوامة كبيرة" من الطبيعي أن لا نراها في ظلام الليل... ولذلك أقول لو كان الوقت نهاراً فلا بدّ من مشاهدتنا لها عن بُعد مناسب حيث يكون بإمكاننا تلافي مخاطرها بالحَيَدان عنها، وقد خضنا إجراءات التلافي عشرات المرات.
•أنــا:- وأخيراً وبعد كل هذا الحديث المُسهب –يا سيدي- ما قناعتك الأخيرة نحو حادث سقوط الطائرة؟ هل مجرد ((قضاء وقدر))؟؟ أم تراودك ظنون وشكوك؟؟
•مُـنـذِر:- أكبر ظني أن الحادث كان ((قضاءً وقدراً)) بواقع (99%)، تسببت فيه ((تقصيرات غير متعمدة)) من لدن أكثر من شخص واحد وجهة واحدة... ومنها:-
1.إستجابة السيد الرئيس لرجاء "قامقام القرنة" لحضور الحشد الجماهيري في "ملعب القُرنة" وإطالته في ذلك وتأخره بعد الضياء الأخير بدلاً من العودة إلى "البصرة" عصراً، أو مساءً على الأقل.
2.عدم مصارحتنا -نحن الطيارون- للسيد الرئيس، أو مُرافقه الأقدم وسواه، على أننا لسنا جاهزين للطيران الليلي، فنقترح عودتهم بالسيارات إلى "البصرة" ما دام الظلام قد حلّ.
3.عدم وجود أجهزة لتحديد مواقع الطائرات وإتجاهاتها لدى مطارَي "البصرة والشعيبة".
4.عدم وجود معاون طيار مع "النقيب خالد" قد يعاونه في التخلص من موقف صعب، أو يستلم القيادة ويتحكّم بالطائرة.
5.ويبدو أن القدَر الذي أنقذني وقذف طائرتي خارج العاصفة من حيث لا أدري، فإنه لم ينقذ "خالد" والسيد الرئيس.
•عصمت:- أراك -يا أخ منذر- تقذف باللائمة الأكبر على الطيران الليلي... فالسؤال الذي يطرح نفسه:- هل لو كان الطيران نهاراً لـما وقعت الواقعة؟؟
•مُـنـذِر:- لو وضعنا معتقدات الإيمان بالقضاء والقدر والأجل المحتوم جانباً وركزنا على الموضوعيات في تحليلاتنا، لوجدنا أننا لو كنا قد طرنا نهاراً لشاهدنا تلك الدوامة -إن كانت منظورة- وتلافيناها، ولـما وقع ما وقع.
((إنتهت تفاصيل الشهادة))
الختام
وعداً للقراء الكرام -إن أمدّ الله في عمري وصحتي- أن أضع أمام ناظرَيهم في أقرب وقت ممكن لـِما تبقـّى من الشهادات الشخصية وسط جلسات صداقة وزمالة مع الذين عاشوا وقائع ساعات حدث سقوط طائرة الرئيس "عبدالسلام محمد عارف"، وهم شخوص إمّا كانوا مهمّين، أو مقرّبين منه.
ومن الله التوفيق.