.. أدخل الى المقهى الاقرب الى جسر المقام وشط العرب.. اليوم هو الجمعة والمقهى مزدحم بخليط من غتر وعباءات وصايات ودشاديش وعمم وسدارات فيصلية.
.. ياتيني استكان (اللومي حامض).. ارتشفه وانا اجول ببصري بسعادة غامرة بين الجالسين على التخوت والكراسي.. هذان (افنديان) في حوار حار.. أثنان يلعبان النرد.. شابان يلعبان الشطرنج ويقف الى جانبيهما آخران يتابعان (المباراة).. كهل بعقال ضخم مقصّب يدخن النارجيلة وهو منشغل الذهن.
.. اجتاز أسد بابل عند مدخل شارع الوطن.. انعطف يسارا.. امتار معدودة وانا الآن على رصيف شارع الكورنيش المشجر بالكالبتوسات الضخمة..
.. مراكب هندية عديدة ترسو على الضفة الغربية التي اسير على كورنيشها.. اتملاها وانا اعبرها ببطء كبير.. بحار يعبر (الدقل) الخلفي للمركب الى قفص مربع مسيج.. يبان جزءه العلوي من فوق السياج.. يختفي نزولا.. يسقط من اسفل القفص حبل بدلو صغير الى مياه الشط.. يُسحب الحبل والدلو.. تتساقط دفعات من الماء من اسفل المقصورة الصغيرة.. أضحك.. صاحبنا يقضي حاجته تحت قبة السماء الصافية وفوق موجات الشط الخفيفة.. "لابد أنك سعيد الآن يا صاحبي الهندي".. استعيد بنشوة اللحن "يا مركب الهندي يابو دقلين.. يا ليتني كنت ربانك.. ".
صف من المقاهي الصيفية المكشوفة على جانب الرصيف تشرف فوق مياه النهر العظيم.. المقاهي كلها مزدحمة بالرواد.. جانب منها مخصص للعوائل..
.. على الرصيف مئات السابلة يتهادون بمشيتهم.. عوائل مع اطفالها.. ازواج من الشابات السافرات.. نساء بعباءات مهدلة من على الكتفين.. شاب وشابة يسيران شبه ملتصقين، هو يهمس شيئا في اذنها وهي تحمر خجلا.. زوج آخر غير بعيد عنهما يسيران على مهل، هو يتحدث دون أن يرفع بصره اليها وهي مطرقة برأسها تصغي بإمعان.. " يا للجمال!!.. عشاق جامعيون!! ".. اتجاوزهما..
.. هنالك باخرة كبيرة وسط النهر، تلتصق على أحد جانبيها ابلام ومهيّلات وجنائب ودوّبْ.. البحارة منهمكون بتفريغ حمولاتهم من الاعالي، ونوتية القوارب يتلقونها من تحت.. قارب يحمل فاكهة وقناني مشروبات مبردة وسندويجات وعلب تمر ومأكولات اخرى.. يساوم البحارة.. يستلم نقوده اولا، ثم يناول المشتريات بسلة تتدلى اليه.
.. اصل الى نهاية شارع الكورنيش.. قلة من المارة فقط.. " ليلة الامس.. ليلة الجمعة.. حشد من المتنزهين بمختلف الاعمار.. باعة المشروبات الباردة والدوندرمة والحَب والمكسرات يتجولون بين المتنزهين بعرباتهم.. المقاهي مزينة بالمصابيح الملونة.. النهر يصخب بعشرات الابلام (العشارية) الانيقة وراكبيها من الرجال والنساء وهم يسترخون على الوسائد والافرشة المعدة في الجوانب والخلف من هذه القوارب.. منهم من يسرح ويتأمل اضواء المدينة من الضفة الغربية الى ظلال نخيل الضفة الاخرى المتكاثف.. منهم من يغني موالا.. آخرون ينسجمون في غناء جماعي وسيدة تهز اعطافها وسط القارب.. وهل نسيت (الكسلة)؟! قبل اشهر.. عيد نوروز!، امسيته وليله.. مهرجان حتى ولا مهرجان رأس السنة في البندقية "
.. اعبر جسر البراضعية.. اصعد كورنيش النهر.. على يميني قصر بيت المنديل الجديد الفخم، الى جواره قصر الذكير.. بضعة قصور أخرى.. بعض ساكنيها يجلسون في الشرفات.. المتنزهون وهم من جديد من طبقات متباينة في العلو او الدنو تتنزه باسترخاء، معظمهم يقصد نهر السراجي القريب وقصرأغا جعفر (وكيل الشيخ خزعل أمير الاهواز سابقا) ذلك الصرح الفني الضخم بساحاته الواسعة المنحدرة الى النهر وشرفاته ونقوش اخشابه القديمة وحدائقه الغناء..
(عند بداية الثمانينات قُطع الكورنيش ونهر السراجي وقصر أغا جعفر على المتنزهين ليصبح منطقة للقصور الرئاسية المخصصة للقائد (التاريخي والجغرافي المنتصر ابدا رغم هزائمه).
اصل الى نهر السراجي وبدلا من أن انعطف يسارا الى قصرآغا جعفر، أنعطف يمينا فأدخل في عمق بساتين السراجي.. بعد بضعة مئات من الامتار اقف بحيرة امام بيت صغير من طابق واحد مبنيّ بالطابوق العادي (لا العقاري) من غرفتين ومطبخ.. بشباكين تمتد فوقهما قضبان حديدية سوداء يطلان على نهر السراجي.
.. هذا البيت الذي تأنف عائلة متوسطة الدخل سكناه هو (قصر استراحة العائلة المالكة)، يأويها حين تأتي في زياراتها للبصرة.
.. احسست بالجوع وقد قرب المساء.. معي ما يكفي مما تبقى من راتب الشهر، فنحن في اوله، لكي اتناول وجبتي في فندق البصرة (فندق المطار) في المعقل، والذي آتي اليه بين الحين والآخر.
بعد تناول وجبتي في مطعم فندق المطار الفخم، جلست في الصالة الواسعة (اللوبي) لاتناول فنجان قهوتي.. مقاعد مريحة انيقة وطاولات فوقها مزهريات بباقات ورد صغيرة.. عدد كبير من علية القوم في انتظار طائرتهم.. آخرون يسترخون مثلي وراء فنجان قهوة اوقدح بيرة مبردة.
.. المطعم مدخله من اللوبي، قاعة البار وصالة الحفلات والرقص مدخلها من الجانب الاخر لّلوبي.
قدمت في احدى الليالي بدعوة من الصديق علي ناصر وزوجته (وهو نحات وصاحب محل للموبيليات) الى صالة البار والمرقص والتي لايسمح للعازبين دخولها دون رفقة عائلية.
لقد كانت ليلة من ليالي العمر السارة..
.. قاعة المرقص بمقصورات جانبية لجلوس العوائل.. انارة القاعة خافتة يضفي عزف البيانو عليها شاعرية مضاعفة.. بار كبير جميل في صدر القاعة جلس فوق مقاعده العالية ازواج من البصريين والاجانب.
.. في التاسعة حضرت الفرقة الموسيقية، وبدأت في عزف الحانها الراقصة الهادئة.. الفوكستروت، فالس بوسطن، التانجو.. بعد نصف ساعة قام زوج من الراقصين، سرعان ما التحق بهم ازواج آخرون..
.. رقص علي وزوجته.. شجعني لاطلب يد آنسة من الجالسات للرقص.. نهضت وتقدمت الى احدى الجالسات مع عائلة طبيب اخصائي في مستشفانا.. لم تعتذر.. نهضت واخذنا نرقص على الانغام الهادئة.. حادثتها اثناء الحركات الهادئة عن مواضيع خفيفة عامة.. رافقتها ونحن نعود الى مقصورة عائلتها وانحنيت شاكرا.. كنت وكأني في قاعة رقص راقية في لندن او براغ!
".. لا تعجب يا هذا أنت في جمهورية البصرة المتحضرة "
.. الوقت قد قارب الغروب.. اغادر لاعبر ساحة الفندق الى جسر خشبي جميل على تفرع غير كبير لشط العرب.. اقف متكئا عل سياجه ارقب شباك قوارب الصيادين المرفوعة، المتلامعة باصداف مئات اسماك الصبور العالقة بها.. كثير منها يعكس الوان قوس قزح من حزم الشمس الغاربة الساقطة فوقها.. بضع عشرات من سمك الزبيدي والشانك النهري تعلق بالشباك.
.. اتجول في حدائق جزيرة السندباد المزدانة بالاشجار النادرة وساحات الورود الدائرية.. أناس كثيرون يتنزهون ومن مختلف الطبقات بمختلف الازياء.. عوائل يفترشون عشب الحدائق وامامهم زادهم البسيط.. اطفال يسرحون متراكضين هنا وهناك او معلقين على اراجيح ومنزلقات ودوارات ساحة العاب الاطفال.
.. ازواج من شباب وشابات يتهامسون وهم في جلسة منعزلة في هذا الركن او ذاك من ضفاف الجزيرة.. من حافة الجزيرة ارقب الضفة الشرقية للنهر الوسيع بغابات النخيل والبيوتات الطينية الصغيرة بينها وبعض بيوت حديثة البناء.. اظل سارحا بمنظر الغروب يداعب برقة معالمها البعيدة.. أتذكر فجأة انني على موعد هام.
.. الجمعة هذه هي يومي في القيادة.. أنا اليوم قائد لمجموعتنا من الاطباء المقيمين.
.. كل اسبوع وفي عطلة الجمعة هنالك قائد يتحكم دون معارضة او نقاش بافراد المجموعة التي يرأسها، يقودها حيثما شاء، حتى الى دروب الجحيم.
.. نعمان كان هو القائد الديكتاتور في الاسبوع الماضي.. لم يسمح لي باية كلمة اعتراض، حين اقترحـت ان نـدخل سينما الحمـراء لـنشاهد فلـم (نداء الطبيعة) Cry Of The Wild
-لكنها قصة عن حياة كلب للكاتب العظيم جاك لندن يا نعمان..
-لاكلب ولا بزونة.. سنشاهد فلما للكاوبوي ونخرج من السينما وقد ملئنا اكياسا من الرصاص.. (رنغو لا يتفاهم) هو فلم سينما الرشيد الذي سنراه.
.. بعدها قادنا الى نادي الرازي الفخم لتناول العشاء.. لا عرق يقدم هناك!.
اسبوع (عاطف) كان في نادي الجامعة ثم في مطعم علي بابا الراقي في شارع الوطن.
خرجتُ بالمجموعة من دار المقيمين.. الانفار تحت قيادتي هم، نعمان المتأنق المتعطر، عاطف الارستقراطي الرقيق، عبد المطلب المواضب على مواعيد صلاته رغم أنّـا قد قدناه الى دروب البوكر بكل انواعه، المستور والمكشوف والهاري كاري (ظل لا يقرب الخمرة لسنين طويلة من معرفتي به.. فهي لديه (المنكر! الحقيقي).. البوكر ليس منكر جدأ.
اوقفت عربة حنطور تعمدت ان تكون متداعية وطلبت من الحوذي ان يتوجه بنا الى ساحة أم البروم، اكثر ساحة شعبية في البصرة.. انظار السابلة ترنو الى الافندية المتأنقين.. البعض يعرفنا حق المعرفة من خلال عملنا في خفارات العيادة الخارجية وواجباتنا في الردهات.. اوقفت العربة.
.. نحن على الرصيف أمام خمارة صغيرة في أم البروم، جدرانها الخارجية من الكارتون المقوى، تفتقر الى اي نافذة و بباب من (الجينكو) المصدأ.
.. لم يصدقوا اعينهم حين فتحت باب الخمارة الحقيرة داعيا اياهم للدخول.. جمد نعمان في مكانه من الرصيف.. تراجع عاطف الى الوراء قليلا.. احنى عبد المطلب رأسه وابتسم..
-اسمعوا لقد اقسمنا جميعا، ووعدنا بعضنا الآخر بكلمة الشرف أن لا نعصى أمر القائد الاسبوعي ، ".. حتى لو قادنا الى الجحيم "، اليس هذا ما اتفقنا عليه ومارسناه في الاسابيع الفائتة.. تنزهتم بنا نزهة الاكابر.. اليوم سنتنزه نزهة البسطاء من الناس.
-أنا ادخل وامري الى الله.. قالها عبد المطلب وتقدم.
.. تململ نعمان قليلا ثم تقدم هو الآخر.. لم يجد عاطف مناصا من الانصياع فدخل وقد زاد وجهه الابيض المحمر احمرارا..
.. اتسعت اعين الصاحين وانصاف السكارى من الجالسين وهم يرون الافندية المتأنقين النظاف تقتحم عليهم خصوصيتهم..
عشرة موائد خشبية متأرجحة يجلس وراءها عمال ببدلات زرقاء ورجال بناطلهم وقمصانهم مغطاة بسخام وشحوم السيارات، ريفيون بملابس عتيقة وغتر حائلة.
.. أختار طاولة شاغرة.. الكراسي الاربعة الحديدية قديمة تقشرصباغها.. على الطاولة المشققة اربعة صحون قصديرية ثبتت بمسامير من وسطها الى خشب الطاولة.
-مسّـاكم الله بالخير.. الله بالخير.. الله بالخير.. تتقاطر تمسّيات الله بالخير من كل فرد بالخمارة.. يرفع البعض كؤوسهم صوبناأثناء القاء التحية.
.. ياتي صاحب الخمارة مسرعا ليمسح الطاولة والصحون بمنشفة صغيرة يضعها فوق كتفه.
-اهلا ومرحبا.. شِـ ياُمرون الباشاوات..
أنظر الى مجموعتي متسائلا..
-واحد فريدة.. قال عاطف
-وانا كذلك.. عقّـب نعمان
-وأنا كذلك.. قلتها تضامنا..
.. يصمت عبد المطلب فيسأله الخمار
-الباشا شيشرب؟
-واحد كولا!.. يحاول صاحب الخمارة أن يقول شيئا فابادره راجيا أن يجلبها من اي محل مجاور.
.. يأتي صانع الخمارة بدلو صفيحي كبير مملوء بالسلاطة.. يغرف بكفه حفنة كبيرة ويضعها في كل صحن امامنا.
يعود الضجيج والصخب الى الشاربين.. أحدهم يرفع صوته بعتابة لحضيري ابو عزيز.. آخر وفي الوقت نفسه يرددموالاً للـ(المنكوب) مغني الهور الشهير..
سرعان ما خرج عاطف من صمته وهو يراقب هذا العالم الغريب عليه.. نعمان بدأ بسرد نكاته فضحك الجميع.. عبد المطلب الصموت تابع المشهد والأحاديث بكل جوارحه.. نرفع كؤوسنا بين الحين والاخر لنرد بها على كؤوس صحبنا السكارى المرفوعة.. نبادر نحن فنرفع اقداحنا تحية لهم.
.. نخرج ضاحكين، عاطف اصبح وجهه قطعة من الشوندر المطبوخ..
اعبر بهم الساحة التي ازدانت بالمصابيح الملونة وبهرة اللوكسات المعلقة على مناقل الكبدة المشوية (الفشافيش) وعربات قدورشوربة العدس والباقلاء المنقوعة والسمبوسة واللبلبي..
.. سينما الحمراء الصيفي (القديمة) تقدم فلمان في عرض واحد.. احاول ان اشتري من شباك الاربعين فلسا.. ينظر اليّ عاطف معاتبا ومتوسلا.. اتحول الى شباك السبعين فلسا.. كنا قد لحقنا على النصف الاخير من الفلم الثاني (المهراجا الظالم).. بين الحين والآخر ترتفع الشتائم وصيحات الاستنكار و عفاط(زيكَـأت) المشاهدين وخصوصا من مقاعد الاربعين على مظالم المهراجا العجوز الاشوه الذي يختطف حبيبة (البطل) مهاندرا، الشاب الوسيم الذي يغني بين الحين والآخر شوقا الى حبيبته جاندرا..
.. نشترك وبحمية في الصراخ والشتائم.. لانعرف للاسف كيف نطلق (زيكَـاتنا).. نعمان يجيد صفير الاستهجان احسن منا جميعا..
نقف مع الواقفين ونصفق بحماس ونصرخ مشجعين (البطل) مهاندرا حين يفلت من قلعة سجن المهراجا الحصينة ويفتح الابواب للسجناء المظلومين ويتقدمهم ليلحق فيخلص والده من تحت اقدام فيلة المهراجا ويقتحم مخدع المهراجا الذي يحاول ان يغتصب حبيبته جاندرا، وبعد سجال بالسيوف يدفع به المهراجا حتى اعلى القلعة ويطعنه فيسقط من شاهق الى الساحة الحجرية المحتشدة بانصار البطل مهاندرا.
.. نقفز مع عشرات المشاهدين الصاخبين القافزين فرحا.
.. تبدء الحشود الهندية بالرقص بملابسها الفضفاضة البراقة وتنثر مساحيق باهرة الالوان في الفضاء فيغطي ساحة السينما كلها بين غناء مهاندرا وجاندرا المتعانقين..
.. يخرج الجميع وهم سعداء فرحون يتناقلون فيما بينهم مآثر بطولات مهاندرا..
انا وافراد مجموعتي فرحون ايضا..
اقودهم فاعبر الساحة الى زقاق سوق المطاعم.. اختار مكانا في دكان الكوارع (الباجة) .. أطلب رأس خروف كاملا.. يهشمه صاحب المحل.. اغرف باصابعي اجزاءه واضعها في صحن ثريد كل منهم.. ابدء بعاطف(الاحمر).. يعود قليلا الى الخلف حين اضع عين اقتلعتها من محجرها.. يصبح وجهه شوندريا.. الجوع غلاب.. يشارك في الاكل بحمية.
انهي جولتي القيادية بأن اجلسهم على صفائح الجايجي في الساحة.. قرب بائع الفشافيش.. نشرب بضعة اقداح من الشاي.
أرأف بهم فنعود بسيارة اجرة بدلا من الحنطور.
وصلتني رسالة من صديق مقيم في الكويت ومعها حوالة بريدية بمبلغ كبير، يرجوني فيها أن اشتري له بستانا في البصرة للنزهة قبل التجارة يخبرني فيها ايضا ان البستان سيكون في عهدتي ومتعتي، حتى عودته الى العراق.
لم اُضع وقتا، فقد طلب مني شيئا طالما تقت اليه،التجول في بساتين البصرة ولهدف رومانسي جميل.
راجعت بضعة دلالين للعقار والبساتين، فلم أجد لديهم بغيتي.. قررت أن اتوكل على الله وابدأ المهمة بنفسي.
بدأت بـ(السيد) وبستانه على نهر الخورة القريب.. كنت قد اسعفته وزوجته في المستشفى قبل حين.
.. البستان يقع في منعطف من البراضعية، عند مدخل الطريق المتعرج الى ابي الخصيب.
قطعت المسافة على قدميّ، عابرا نهر الخورة فوق جسر البراضعية عند نهاية كورنيش شط العرب.
انعطفت يمينا في مدخل لبساتين نخيل غير معتنى بها.. اصل بعد خطوات الى صرح قد بني بآجرطيني، تعلوه قبة ضريح تهفّ فوقها سعفات النخيل المجاور.. سوره الامامي ترك القدم فيه ثغرات كبيرة.. أدخل عبر باب من خشب اسود متداع الى ساحة رملية ترابية واسعة.. اجتازها الى مدخل غرفة كبيرة نصف مظلمة يتوسطها ضريح يغطيه قماش حريري أخضر.. بقايا شموع على حواشي الضريح.. لطخات اكف من الحناء مختلفة التقادم.
.. إنه مقام خليفة بن علي.
(رغم بعثات وزارة الاعلام للتقصي، لم تعرف هوية الراقد في هذا الضريح الرومانسي)
.. ادخل بستان السيد واجتاز السواقي العديدة فوق جسيرات جذوع النخيل.. اصل الى ضفة نهر الخورة.. مجاميع من البش والبط تسبح في النهر المظلل بالاشجار.. مجاميع اخرى منها تسرح مع الدجاج والديكة على ارضية البستان.. اسمع صوت السيد :
-يا اهلا وسهلا دختور.
وانا احتسي الشاي واتناول تمرات من صينية وضعة أمامي، اطرح عليه مشروع شراء بستان..
.. يضرب بكفيه ويهز رأسه أسفا، فقد بيع البستان المجاور المشرف على شارع الفراهيدي من الضفة الاخرى قبل اسابيع لاغير.
أغادره.. اوقف سيارة عبرية (كوستر) متجهة الى أبي الخصيب.. أجلس في مقعد شاغر في صدر السيارة.. يبدأ الطريق المظلل بالاشجار يتعرج.. تتبدل صور البساتين بتبدل اشجارها المثمرة.. على حاشيتي الطريق اشجار موردة.. ألوان البساتين وثمارها العالقة واوراد حاشيتي الطريق تجعلني أتوه عن مقصدي في البحث والسؤال.. اتنبه فأسأل السائق الى جواري عن اسماء المناطق والبساتين ومالكيها ممن يعرفهم.. يجيبني عن بعض اسئلتي.. أعبر جسر نهر السراجي الخشبي القديم.. وجسر مهيجران الذي تغطي اجزاء من سقفه قضبان خشبية.. النهر واسع والبساتين على ضفتيه تبهر الناظر باشجار المانغو وزينتها من الثمار الكبيرة الصفراء والبرتقالية والخضراء المصفرة المخترقة لخضرة الاوراق الشمعية السطوح.. اشجار الحمضيات تتلامع باوراقها من بين غابات النخيل.. لم يدّب الاصفرار بعد الى ثمارها المعلقة.. طيور مختلفة تسبح فوق صفحة النهر.
.. اطلب من السائق التوقف عند مدخل ممر ترابي على يسار الطريق.. اتوقع انه لابد سيفضي الى ضفاف شط العرب.
.. على الجانبين من الممر اسيجة طينية عالية.. ابواب البساتين مغلقة.. اطرق البعض منها فلا من مجيب.. تلوح لي مياه شط العرب.. هنالك قصر مشرف على النهر.. اصل الى منحدر الضفة.. اطرق باب بستان القصر.. أتنفس الصعداء، هنالك من يجيب على الطرق..
يفتح بوابة البستان رجل عجوز بملابس فلاحية.. احييه واعرّف نفسي.. ادخل البستان واتوقف بعد مسافة قصيرة.. اسال الرجل العجوز عن معرفته لبستان يباع في منطقة قريبة.. اعرف منه أنه فلاح قديم في المنطقة وحارس في السنين الاخيرة لقصر الكويتي الذي يقدم في فترات من السنة هو، او هو وعائلته للاستجمام.. يسالني عن المبلغ الذي اريد وضعه للشراء.. حين يعرف بمقداره يخبرني أنني لن أجد على المناطق القريبة من النهر العظيم بستانا بهذا المبلغ حتى لو كان صغيرا.. يدعوني لقدح من الشاي.. أعتذر شاكرا واعود الى طريق السيارات.. أستقل كوسترا آخر متجها الى ابي الخصيب..
.. اعبر نهر عويسيان.... اعبر نهر حمدان الواسع.. جمال الجسور الخشبية والنهر والبساتين على الضفتين لا يقل روعة عما مررت عليه.. اطلب من السائق التوقف.
.. اجوس في الممرات الترابية المتعرجة يمين الشارع (بعيدا عن شط العرب).. اعبر جداول وانهرا صغيرة، جسورها من جذوع النخيل المربوطة احيانا الى جذوع اشجار اخرى.. أجد بضعة بيوتات طينية وسط بساتين صغيرة جدأ.. أسأل رجلا في الاربعينات، صاحب عربة حمل خشبية بحصان سمين، يقف عند بوابة احد البيوتات.. يجيبني بأنه يعرف انه هنالك بساتين تباع في المنطقة، لكنه لا يعرف من يملكها.. يطلعني بأنه يستأجر قطعة البستان الصغير هذا حيث أقام بيته الطيني ، وانه يجمع ما ييسره الله من نقله الاحمال في البساتين لعله يوفر المبلغ الذي يطلبه صاحب الارض.. يدعوني للدخول لبيته الطيني الصغير على قدح من الشاي او كأس من اللبن.. اشكره واعتذر.. (بعد سنتين يصبح حمدان ذو عربة النقل الخشبية صاحبي.. بيته الطيني الصغير غير بعيد عن بستان صديقي.. ادخل داره في وليمة محدودة يقيمها بمناسبة تحقيق حلمه وشراءه بستانه الصغير.. ادخله مرة اخرى بعدها بعامين آخريين معزيا زوجته بوفاته المفاجئة).
.. اعود الى طريق السيارات.. أصل الى ابي الخصيب.
.. بعد أن اتجول في المدينة الهادئة الصغيرة.. معظم بيوتها متوضعة في بساتين صغيرة وكبيرة، أو على جداول وقنوات.. كل بستان فيها لابد أن يكون فيه كوخ صغير للضيوف وجلسات الشاي في المساء و السمر وشرب الراح في الليل.
.. وانا استرخي على ضفة الركن ما بين شط العرب ونهر ابي الخصيب، وقد بدأت احس ببعض الجوع، تذكرت صديقي الدكتور محمد صالح سميسم رفيقي في سجن بغداد المركزي في مطلع الخمسينات.. هو الآن طبيب قرى وارياف في السيبة غير البعيدة عني.. اتوجه الى مرسى القوارب.. اصعد الى (ماطور) قارب بمحرك.. اطلب منه الاتجاه بي الى السيبة.
المسلك المائي يستغرق حوالي الساعتين.. استلقي فيها على الفراش المريح في آخر القارب واتابع بجذل غابات النخيل وبساتين شط العرب من الجانبين..
.. نقترب –حيث ينشطر شط العرب الى شقين- من جزيرة عامرة بالنخيل واشجار فاكهة.. يجيبني النوتي بانها جزيرة أم الخنازير.. على اليسار مدينة المحمرة الايرانية وميناءها الواقع على ملتقى نهر كارون بشط العرب.. على اليمين بساتين عراقية تمتد حتى الفاو..
.. نمخر الشق الايمن من النهر الكبير.. بعد فترة ليست طويلة يشير النوتي الى بساتين وقرية صغيرة :
-هذه هي المطوّعة.. وهذه بساتين الدكتور طلعت الخضيري.. نتجاوزها لنصل بعد اقل من نصف ساعة الى السيبة.. يرسو قرب مبنى صغير من الطابوق :
- ها قد وصلنا.. وهذه هي العيادة الطبية.
ارتقي سلالم من أحجار مكسرة.. باب العيادة مفتوح.. أطل على الشاب الاسمر الطويل الجالس وراء طاولة معدنية خضراء يقرأ في كتاب أمامه.. يرفع رأسه وتلوح على وجهة وشفتيه ابتسامة ترحيب.. يعانقني بحرارة.
بعد اسئلة وحوار سريعين يسالني :
-شاي؟، قهوة؟ او بارد؟
-لا هذا ولا ذاك.. أنا جوعان يا صاحبي.
ينادي صادق، معين العيادة..
-إعبر لذاك الصوب!.. كباب، شوية خضرة، فاكهة، وبالطبع بطل عرق!..، يتوجه اليّ متابعا.. صادق هذا، معين وبلام العيادة.
.. نجلس ليلا على مقدمة العيادة.. تحتنا النهر المتلامع بأعمدة رجراجة متقطعة طولية هي انعكاس لأضوية معامل تكرير عبادان وصهاريج نفطها الضخمة.. تستمر جلستنا حتى ساعة متأخرة نستعيد فيها الذكريات ونحلم بمشاريع قادمة.
بعد ايام من البحث غير المجدي، اتذكر موزان (ربيب الردهة المزواج) ودعوته لي الى بساتينه وبيته في (البوارين)..
.. اركب العبارة من ضفة الكورنيش.. تنقلني الى التنومة.. استقل سيارة أجرة (تورن) واطلب منه التوجه بي الى البوارين.
.. نسير بمحاذات (نفق) نهر الصالحية.. الاشجار من على ضفتيه تلتقي لتشكل بأغصانها واوراقها سقفا ظليلا للنهر، نفق مائي مشجّر.. نجتاز قصرا للدكتور الشمخاني على ضفته الشمالية.. بعدها ببضع مئات من الامتار اشاهد بيتا متواضعا على ضفته الجنوبية.. إنه بيت عبد القادر باش اعيان (.. تحكي الرواية : أن العائلة المالكة الهاربة من حركة رشيد عالي في مطلع الاربعينات، لجأت الى حمى هذا البيت واصحابه.. رتب عبد القادر باش اعيان انتقالهم الى المحمرة ليستقلوا طرادا انكليزيا اُرسل لانقاذهم).
.. ننحرف عن النهر باتجاه الدعيج ذات البساتين العامرة الغناء (اجتث السيد الرئيس حفظه الله، في الثمانينات معظمها، إجتثاثا تاما وسوى اراضيها.. قطّع هامات ما بقي من نخيلها الباسق.. " خلوها ساحات فارغة نِتْكاوَنْ بيها جَيفْ ما نْريد! " ).
.. على اليسار طريق الشلامجة (البوابة الحدودية).. ننعطف يمينا ونسير فوق سد ترابي.. على يميني شريط ضيق من البساتين المطلة على شط العرب.. على يساري نهير غير عميق تجلس على ضفتيه نسوة يغسلن صحونا وثيابا واطفالا ويتبادلن الحديث والضحكات وصرخات التنادي على اطفالهن.. بضعة ابقار تعبر من هذا الجانب الى ذاك..
-هذا النهير الصغير بين البوارين والجهة الاخرى هو الخط الحدودي مابيننا وبين ايران.. يعلق السائق.
.. السائق يعتذر عن مواصلة السير اكثر لضيق السد الترابي.
.. أسأل إمرأة من الجالسات على الضفة عن بساتين موزان.. تنهض وتشير الى بستان غير بعيد.
.. يستقبلني موزان بالاحضان.. لا يزال على مرحه ولا يزال شعره الاسود السبل المدهون بالزيوت مفروقا من منتصف راسه لينسدل على منتصف أذنيه.
.. يدور بي في بستانه الرئيسي حيث بيته الطيني الواسع.. بط ودجاج وبش وديكة وأطفال ونساء ينتشرون.. كلٌ في مهمة خاصة به في ارجاء البستان.
.. على الغداء الذي يُحضّر على عجل، والحاوي على الدجاج والاسماك وانواع الادام والرز، تدخل بين الحين والاخر إمرأة تضع صحن تمر.. اخرى تضع دورقا لّلبن.. ثالثة لسفط الخبز (رغم وجود خبز كاف).. الرابعة وهي اصغرهن سنا تأتي بصحن من الحلوى..
".. موزان يستعرض جوقة زوجاته ممن على ذمته ".
حين اطلعته على نيتي في شراء بستان اهتز جذلا وهو يخبرني بأن البستان جاهز.. " هنا بجواري " وهو احد بساتينه، وانه مستعد لبيعه بالسعر الذي يناسبني.
شكرته كثيرا واخبرته انني لم أكن اعلم أن البوارين على مثل هذه المسافة عن العشار، واننا قاب قوسين من المحمرة، وأن صاحبي يرغب في أن لاتكون بعيدة عن مركز المدينة في البصرة.. واضفت :
-آسف يا صديقي موزان، فانا أدري أن حكمتك تقول " عروس ريانة تطوّل العمر أحسن من بستان بنخل يابس من خشب ".. آسف انني لن استطيع تسهيل أمر زواج جديد لك.
.. حين غادرته في اليوم التالي كنت محملاً بعثوق التمر والحصران الملونة.
بعد يومين قصدت بستان فرج، الاعمى، البصير بالمعنيين، (الاصح بستان وقصر الفليج، الذي يعمل فرج على رعايته).. لم تكن هذه زيارتي الاولى لفرج، فكنت أجيء اليه من حين لآخر لاجلس على منصة للقصر تشرف على شط العرب ومعي سناراتي وخيوطي والثقالات وطعم الاسماك.. أنا مولع بصيد السمك.. دائما يستقبلني بترحاب شديد.. يسارع فيتراكض دون عصى للعميان تساعده، حاملا حصيرة يفرشها، او زيرا من الماء يضعه على المرفع القريب، او صينية الشاي والتمر واللبن. لا اعرف والى يومنا هذا كيف يستطيع التقافز على الجداول الصغيرة والتعرج بين قامات جذوع النخيل للوصول اليّ، خصوصا حين يجتاز ممرا ضيقا يفصل بين جدار البيت والجدول العميق المتفرع من شط العرب.. أنا نفسي،ببصري الحديد، أكثر حرصا وتوجسا في اجتياز هذا الممر الى المنصة التي اجلس عليها للصيد.. ثم الاعجب أنه الوحيد في رعاية البستان والقصر.. كيف يتسلق النخل ويلقحه بغبار الطلع، كيف يغبّره ، كيف يلم عثوقه ، كيف يسعّفه، كيف يكرّبه، وكيف يجني ثماره؟؟!!.
.. دققت البوابة الخشبية بقبضتي وصحت مناديا :
-فرج!
-نازِلكْ ركض دَختور..
لمحته وهو ينزل كجرذ النخل من نخلة عالية.. اختفى ليظهر بعد اقل من دقيقة عند البوابة المشرعة
-كيف عرفت صوتي ونحن لم نر بعضا لاشهر؟
-صوتك ما يتوه عليّ لو بعد ميّة سنة.
قدمت له قنينة العرق، فاحنى راسه خجلا..
-ليش زحّمتْ نفسك دكتور.. جَيتكْ هي هدية.. تقدمني وهو يواصل حديثه.. دقيقة واحضر لك كل شي على مكان كَـعِدتكْ.
شكرته واخبرته انني قد قصدته في مهمة قد يساعدني بها.. واخبرته قصة المبلغ المودع لدي والبستان الذي ابحث عنه.
-والله جَنكْ جَيتْ بوَكتكْ يا دختور.. اصبر عليّ شوي حته ابدّل وآجي وياك.
عاد بعد قليل بصاية وعباءة ونعل في قدميه، وقادني عبر الدرب الترابي.. عبر الشارع.. دخل في دروب البساتين المتعرجة من الجهة الثانية من الشارع.. إلتف على درب آخر.. عبر قنطرة.. مشي عبر نخيل غير ذي سور او سياج.. عاد الى درب ترابي ضيق آخر.. انا اتبعه محاذرا في سيري من هذه القنطرة الضيقة او سعف نخلة قصيرة تعترضني.. وقف فجأة امام سياج غير مرتفع من الاسلاك الشائكة..
-هذا هو طلبك دختور..
.. أنظرُ الى بستان محيّر بجماله.. صفوف منظمة من النخيل تمتد مسافة غير قصيرة تتعلق على جذوعها عرائش (سوابيط) العنب المحملة بعناقيدها بكثافة.. اشجار رمان وجوافة هنا وهناك بين صفوف النخيل.
لم ينتظر سؤالي لكيفية دخول البستان.. توجه الى بوابة البستان المقابل على الدرب الترابي الضيق وصاح :
-ابو سليمة!!.. عيوني ابو سليمة!! جاييك ضيوفْ
.. خرج ابوسليمة معفّرا بالطين والاتربة، فقد كان يقوم بكراء جدول في بستانه.. طلب منه فرج أن يفتح بوابة البستان المعني.. دخل ابو سليمة معنا الى بستان الاعناب.
.. النخل في احسن وضع، أكثره نشوٌ، قليل منه متقادم (عيطة).. حلاوي، اسود، بريم، خستاوي، عددغير قليل من نخل البرحي الثمين.. كل اربعة صفوف من النخيل يعقبها جدول.. يبدو أن الجداول مكريّة حديثا.. الاعناب كلها من افخر الانواع.
مشينا على طول البستان.. صدر البستان يطل على نهير جميل مظلل بالاشجار
-هذا نهر الحنتوشية وهو فرع من حمدان، قال ابوسليمة.
لم اصدق انني قد وقعت اخيرا على أكثر مما اريد.. سألت بلهفة لمن هذا البستان
-هذا البستان وعشرات البساتين جواره من الجانبين هي لفهد الراشد (اسم وكأني كنت اعرفه).. هذه البساتين كلها معروضة للبيع، حتى البستان المجاور الذي أعمل على رعايته، وأدعو الله ان يمكنني من شراءه بعد حين.. فهد الراشد يقيم في الزبير
شكرت ابو سليمة كثيرا وعانقت فرج.. عدت معه وانا اطير فرحا.. ركبت الكوستر المتجه الى العشار، ووددت لو ان لي جناحين اطير بهما الى الزبير.. الوقت متأخر على ذلك.
بعد أن تقصّيت عن الرجل من استاذي الدكتور مصطفى النعمة واعددت المبلغ المطلوب وهو اربعة ألاف دينار توجهت في اليوم التالي الى الزبير.
.. استقبلني أحد اولاده.. عرفته بنفسي واطلعته على مقصدي من زيارة والده.. تقدمني الى ديوانية بالغة السعة صفّت على جوانبها تخوت بفراش انيق ووسائد عديدة.. تقدمني مرحبا وطلب مني الجلوس، فجلست على احد التخوت.. جلس الى جانبي مرحبا من جديد ومحدثا حديث الاستضافة المهذب.. اشار الى رجل يقف قرب احد ابواب الديوانية بكوفية حمراء.. سارع الرجل الى القدوم بدلّة القهوة وفناجينها.. أستأذنني ابن الراشد للدخول واخبار الوالد عن قدومي.
.. عاد وجلس الى جانبي محاورا. تقدم الرجل الذي يقف جانبا بكوفيته الحمراء من جديد بدلة القهوة وفناجينها.. قدم لي فنجان آخر فارتشفته وهززته، فتراجع الرجل الى مكانه من الباب.
.. دخل رجل نحيف طويل القامة منتصبها، بصاية وعباءة كشميرية وعلى رأسه غترة بيضاء قد لُفت على طريقة اهل الزبير.. الوجه باسم وهو يتقدم صوبي.. قدرت عمره بما يفوق الثمانين.
نهضت عن مجلسي.. صافحني مرحبا وجلس الى جانبي.. وقف الابن الى جوارنا احتراما.
تقدم الرجل بالغترة الحمراء بدلة القهوة وفناجينها.. هززت الفنجان بعد ارتشافه.
.. اطلعته على نيتي في شراء بستانه.. عرّفته بموقع البستان المرغوب.. اشار الى ولده أن يخبر اخيه ليجلب خرائط بساتين المنطقة.. حضر الابن الثاني.
.. جلب الرجل بالغترة الحمراء.. صينية صغيرة وعليها قدح لبن وصحن من الرطب البرحي ووضعها أمامي.
.. فرش الراشد الخرائط واشار الى موقع البستان المطلوب.. حاول مرة وثانية أن يجعل اختياري على قطعة مجاورة اخرى مبينا مزاياها وعيناه تلتمعان بلذة الدهاء والذكاء.. شكرته واصررت على بستاني المنشود.
-عيّنْ خيرْ.. اللي تَبيهْ يا دكتور.. ما يْصِير خاطْركْ إلا طيّبْ!
اشار فجُلب دفتر العقود.. وقعنا عقد الشراء الاولي..
-عشرة بالمائة والباقي عند توقيع العقد النهائي!
اخرجت مظروفا ثخينا يحمل اربعة الاف دينار وسلمته الى احد ولديه.
-اربعة آلاف دينار!.
-اربعمائة هو المبلغ المطلوب الآن.. قال فهد الراشد موضحا..
-بل المبلغ كله لوسمحت.. سيكون في حرز أمين اكثر مما لو كان عندي يا طويل العمر.
- اللي تَبيهْ يا دكتور.. شدّ على يدي مصافحا واستطرد.. شايفْ خير!
استأذنت بالخروج.
" اذا هذا هو فهد الراشد.. هذا الذي خرج واتباعه يهزجون على ظهور الجمال في العشرينات في تظاهرة ترحيب بالملك فيصل الاول حين قدم الى البصرة ".
(في الثمانينات فتح فهد الراشد واولاده هذه الديوانية الواسعة لتستقبل فلاحيه القدامى وعوائلهم ضيوفا، حين طال القصف الايراني بساتينهم.. وضع لكل عائلة خيمة، ووفّى ولفترة طويلة بكل ما تتطلبه الضيافة الكريمة)
تجوّلت في ازقة بيوتات الزبير الطينية الكبيرة الفريدة ببناءها وتعرجات ازقتها، بحيث تسمح بشكل اكبر لنسمات الشمال.
.. قصدت أسواق الزبير، وهي دكاكين منفتحة على شوارع وساحات ترابية فسيحة (كل ما يتطلبه اهل البادية من فضاء ونور).
.. اشتريت هدايا الوداع.. عطر فيجي لنعيمة، (كلوس) سجائر روثمان لمسعود معين الدار وقنينة وسكي لفرج.
للراغبين الأطلاع على الجزئين الأول و الثاني: