الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 10384تاريخ التسجيل : 07/10/2009
موضوع: من ذكريات الحياة في شارع السعدون السبت 11 مارس 2017 - 15:20
من ذكريات الحياة في شارع السعدون
من ذكريات الحياة في شارع السعدون
بسبب زحف البناء حول شارع السعدون وكثرة المقاهي الكبيرة، وكما ذكرت، بنى والدي بيتا جديدا على طراز البيوت البغدادية القديمة والتراثية على شاطئ دجلة يقع في ثاني شارع من الاورفه ليه مقابل النهر. وكان به مدخل نسميه (دجة) عادة ما يجلس عليها قارىء القرآن كل جمعة أو عندما نقدم الطعام للفقير وبهذا الممر باب للضيوف على اليسار وفتحة على الحوش.
أنتقلنا الى هذا البيت في عام 1934وكان من طابقين وبه شناشيل و حوش كبير. في الطابق الأول هناك صالون وبه الدلكات والسفرة والجلوس والمطبخ. كما كانت هناك غرفة في واجهة الحوش بها درجتين او ثلاث لندخل الى الغرفة (تحتها سرداب لا اذكر يوما نزلنا به لانه مليء بالماء، احيانا يقل واحيانا يزداد يسميه البغداديون (النزيز) والسرداب به شبابيك ليست كبيرة تطل على الحوش، كما توجد تواليت او (ادب) في اول الدرج كما يسمونها سابقا، واتذكر البيانو الموجود بهذه الغرفة وبها عود والدي. كنت اقضي معظم وقتي أدندن على البيانو واحياناً يزور والدي رجل أسمه بهجت دادة العواد وهو عازف عود وكمان وبيانو ويجلسان لعزف الموسيقى التركية على العود. أما الطابق الثاني فكان به شرفة مطلة على النهر بالشناشيل وغرفة واسعة للجلوس و4 غرف نوم كبيرة ومخزن وحمام يستخدم الحطب لتسخين الماء شتاءاً ومرافق صحية. وكانت سقوف الدار مزينة بقطع معدنية ملونة بالورود وكل خشب الدار مطلي باللون الاخضر. في الصيف يغطون الحوش بقماش سميك وخشن يسمى (الچادر) يضعونه فوق المحجر، وتحته سيم حديد قوي يتحمل الثقل كي يحجب الشمس عن الحوش، وفي المساء كنت وانا صغيرة اتمتع بسحب الحبال مع الخادم كي نرفع الجادر عندما تغيب الشمس. هذا الدار كان ملاصقا لدار عمتي نجية زوجة المرحوم عزة الاعظمي أذ فتح والدي بابا على دارها، وهي فتحت باب على دار خالي خليل الاورفه لي الملاصق لدارها من الخلف وبجنبها دار العم نشأت فكل منهم فتح بابا على الآخر. وكنا نلعب مع بنات خالي سعاد وانعام والتزاور مستمر بين الكبار والصغار اذ تجتمع العائلة بالحوش لشرب الشاي المخدر المهيل مع الكليجة وكانت انعام ابنة خالي وابنة عمتي هي الصديقة المقربة لي، حتى عمتي تقول انعام (تك) وداد فهي نشطة وحركة ومرحة مثلي. في بداية الثلاثينات بدأت عائلة الاورفه لي بالنزوح من باب الشيخ وراس القرية والجعيفر والحيدرخانة ويبنون بيوتهم في الاورفه لية. وفي الاربعينات انتقلوا الى الجانب الثاني المقابل لحديقة غازي (الامة حاليا). وبنى والدي داره الفخم في عام 1942. كان الدار يتكون من 3 طوابق و3 سطوح مطل على حديقة الملك غازي مساحته 900 متر بناء وبه حديقة واسعة جانبية وخلفية. وبقينا بهذا الدار الى بعد وفاة والدي (رحمه الله) عام 1957 ومن ثم انتقلنا الى منطقة المسبح بالكرادة في شارع السفارة الالمانية وتدريجيا انتقل الاورفه ليه جميعم منتشرين في منطقة المسبح. ومرة اخرى انتشر اخواني الى مناطق ابعد الى الصليخ والمنصور والاعظمية وانا بعد زواجي بنينا دارنا في شارع الربيع قرب نفق الشرطة. والان كل واحد في بلد بعد العدوان والهجمة الشرسة على بلدنا في 2003. مع الاسف الان نحن لا نعرف حتى اسماء احفاد اخوتنا او أخواتنا. يا للزمن الصعب الذي يمر به كل عراقي. لقد تشتتت العائلة الواحدة، فمنهم من هاجر الى اميركا ومنهم الى كندا و هولندا وانا وزوجي انتقلنا الى عمان حتى غادرنا الى الابد، ودفنت زوجي حميد في مقبرة سحاب بالأردن. وها انا اجتر ذكرياتي وانا في الغربة لأكتبها لكم. النوم في السطوح في الصيف أعتاد العراقي أن ينام على سطح الدار، أذ أشتهرت ليالي بغداد بهوائها العليل، وأحيانا يكون الحر لا يطاق بالسطح. كنت واختي الصغرى نبلل فراشنا بالماء وننام عليه او نبلل رأسينا لعل نسمة هواء تبردنا. إضافة الى الحر، هناك مشكلتان هما الناموس ليلاً والذباب صباحاً. كان الحر شديدا في الصيف ولا يوجد اي وسيلة تبريد غير المروحة (المهفة) اليدوية وهواء الله، وكان الجميع ينام على سطح الدار حيث الهواء عليل أحيانا وبارد لولا لدغ الناموس المتواصل لذا كانوا يضعون الناموسية فوق السرير. ولكن الويل اذا دخلت ناموسة فلا نستطيع ان ننام الى الصباح، ولكن جيراننا اليهود حلوا مشكلة الناموس بشكل اخر، اذ بنوا في السطح أعمدة خشبية لمساحة تتسع لجميع أهل الدار ووضعوا عليه سيم ناعم ويرشون الفليت (قاتل الحشرات) قبل النوم. كان علينا ان ننزل الى غرفنا مبكراً ما ان تبزغ شمس الفجر واحياناً نغطي راسنا ونكمل النومة ولكن نفيق وراسنا يؤلمنا من الشمس الحارة، وهناك شيء مزعج يوقظنا مبكراً هي ذبابة الصباح لذا نترك السطح ونعود لغرف النوم مسرعين. ومن مراسيم السطح العراقي الركي اي (البطيخ الاحمر) حيث كنا نضعه على السطح من المغرب فنقسم الركية الى قسمين ونتركها وعندما نصعد نجدها باردة جداً فناكلها ثم نخلد الى النوم. اما الماء فكنا نشربه من (التنكة) المصنوعة من الفخار وبها مشربة وغطاء وعادة توضع على التيغة (السياج) من المغرب حتى تبرد وتصبح باردة ونشرب منها طول الليل واحياناً نضع اكثر من واحدة. كنت أحب نوم السطوح لأتمعن بالنجوم، فقد كانت ساطعة، ولانه لم يكن في بغداد كهرباء لأنارة الشوارع، لذا يمكن ان نرى ان النجوم اقرب لنا. كما كنت أعشق القمر واتكلم معه واحيانا أراجع دروسي على ضوئه الساطع واكتب الخواطر وأتمعن بوجهه الذي احياناً اراه ضاحكاً واحياناً اخرى عابساً. اما الغيوم فقد كانت متعة كبيرة. كنت اراقب تغيرها واتخيل الصور والاشخاص والطبيعة وكنت مع اختي الصغرى سداد كل واحدة منا تتخيل شيئاً، ونتنافس بايجاد صور متعددة فيها كحيوانات او صور بشر. الله يا بغداد كم كنت جميلة!!!!!! كما ذكرت سابقا كان جيراننا معظمهم من اليهود، وكان اهلي يشاركونهم في السراء والضراء فكانت جارتنا تناديني وتقول لي: “إبدالك وداد ما تجين اشوية…” فأذهب واذا بها تقول: اشعلى الضوء…. وكانت هذه عادتهم يوم السبت، لا يضيؤون الضوء ولا يشعلون ناراً، لذا كان الخادم حسين عندنا يغيب لانه يذهب ويمر على بيوت اليهود في شارعنا كي يوقد لهم النار والضوء كل يوم سبت ويعطوه كم فلس. وكانوا يرسلون لنا في عيد العرازيل صينية بها الششة (هي مجموعة من المكسرات من مصقول لوز وجوز ونبق عجم وباقلاء يابسة وحمص وفستق عبيد) توزع بالعيد الذي يجب ان تمطر السماء به وكان هذا عيدا مهما عندهم. كما كانوا يضعون سريرا به أعمدة برونزية في الحوش المفتوح يلفونه بأغصان السعف وبعض أوراق الياس ويعلقوا البرتقال والنومي والرمان في أعلى السرير وكان منظراً جميلاً لا أنساه. وأتذكر زواج جيراننا وكنا نحن الصغار نتفرج على الرجال من فتحات المحجر المطل على الحوش ووزعوا الطاولات ووضعوا كاسات بها مكسرات وبعدها أتت فرقة الجالغي البغدادي وأنشدوا المقامات العراقية. أما النساء فاجتمعن في غرفة واسعة في الطابق الثاني وكان هناك (فرقة موسيقية) من النساء يغنين المقام والبستات البغدادية ويعزفن الدف والطبلة والنقارة (وهي الة متكونة من قطعتين مدورة ويضربون الجلد بعود صغيرة فيخرج صوت النقر لذلك سميت النقارة). واذكر قدموا لنا الجلي الأحمر هذا كان في أوائل الثلاثينيات وعمري لا يزيد على ست سنوات. ولا انسى منظر بعض النساء ,كن ياتين منقبات حتى لا يعرفهن أحد، لابسات العباءة ولا ترى غير عيونهن ويسمونهم (التبديل)، يعني نساء غير مدعوات ويأتين للتفرج على العروس.