بعد إعلان النصر على تنظيم «الدولة» في العراق: هل استوعبت القيادات السياسية الدرس جيدا؟
بغداد ـ «القدس العربي» ـ مصطفى العبيدي: مع إعلان رئيس الوزراء العراقي إنجاز النصر على تنظيم «الدولة» الإسلامية وتحرير كافة المدن العراقية من سيطرته، ومسك القوات الأمنية للمناطق الحدودية مع سوريا، تثار تساؤلات عديدة حول مدى دقة الإعلان عن نهاية التنظيم مع استمرار وجود مبررات نشوئه وظهوره، واستمرار انتشار خلايا التنظيم النائمة في مناطق متفرقة من العراق، وغياب رؤية وطنية لتحقيق التوافق والمصالحة بين الأحزاب التي تدعي تمثيل المكونات.
ومن المؤكد ان ظاهرة تنظيم «داعش» ستبقى صفحة لا تنسى في تاريخ العراقيين المعاصر باعتبارها أشد الفترات سوادا وأكثرها مأساوية، وهي صورة لمؤامرة شيطانية تسببت في خسائر مدمرة للكيان العراقي لها أبعاد تمتد لآفاق غير محددة الآن ومستقبلا. وقد أثار السيناريو المريب لظهور التنظيم وانتشاره، الكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى إجابات شافية، وسط محاولات منظمة للتكتم على كشف الحقائق.
ويتفق المراقبون والسياسيون في العراق على وجود عوامل عديدة مهدت لظهور التنظيم الإرهابي في العراق في حزيران/يونيو 2014 وخاصة في المناطق التي يغلب عليها أهل السنة كالأنبار والموصل وصلاح الدين وكركوك وديالى ومناطق طوق بغداد، ومنها سوء إدارة تلك المحافظات من قبل قوات الاحتلال الأمريكي والمؤسسات الأمنية والاستخبارية الحكومية التي تقوم على أسس حزبية وطائفية، ووجود بعض القيادات الفاشلة والفاسدة فيها، التي مارست سياسة التمييز الطائفي والإقصاء وتدمير المدن، مما ولد حالة من عدم الرضا والغضب لدى بعض السكان فجعل الكثير منهم حاضنة طبيعية للتنظيمات المتطرفة مثل القاعدة و«داعش» التي رفعت شعارات مضللة كالدفاع عن حقوق السنة ومحاربة الاحتلال وأعوانه، اضافة إلى الاهمال وسوء الخدمات وغياب التنمية في تلك المناطق التي أدت إلى انتشار البطالة والجريمة، عدا التدخل الإقليمي المعروف في الشأن العراقي.
والسؤال الأبرز هو هل ان واقع المناطق السنية الآن أفضل مما كان عليه وقت ظهور «داعش» عام 2014؟ والجواب كما يحدده قادة الأحزاب السنية والوطنية هو بالنفي، بل ان واقعها الآن مع الدمار الذي لحق بجميع مدن تلك المحافظات أثناء معارك التحرير والملايين من سكانها النازحين في المخيمات منذ سنوات، وعدم وجود سياسة حكومية واضحة لإعادة الإعمار وتحقيق المصالحة الوطنية وإعادة تأهيل السكان لمحو الآثار الفكرية للتنظيم عليهم خلال فترة سيطرته على مدنهم، يؤكد ان الأوضاع الآن أسوأ مما كانت عليه قبل «داعش».
والسؤال الآخر الأهم هو، هل ان القادة السياسيين أخذوا العبرة من ظاهرة «داعش» وأعادوا ترتيب العلاقة بين المكونات وتلافي الأخطاء لتحقيق المساواة وإلغاء الإقصاء والمحاصصة والابتعاد عن النهج الطائفي، من أجل ضمان عدم تكرار ظهور تنظيم متشدد جديد؟ الأيام المقبلة ستتكفل بالإجابة.
التحقيقات
وأخذت مسألة تحديد المسؤولين عن سقوط الموصل وسرعة ظهور وانتشار تنظيم «داعش» في عدة محافظات عراقية في حزيران/يونيو 2014 رغم وجود قوات أمنية حكومية كبيرة، اهتماما كبيرا من الشارع العراقي.
وقد تعهد رئيس الوزراء حيدر العبادي 24/10/2017 بفتح تحقيق تفصيلي لكشف المسؤولين عن دخول التنظيم للبلاد. وأكد خلال زيارته باريس، أن «أحد أسباب دخول الإرهاب إلى العراق هو الفساد، ومحاربته جزء أساسي وحيوي».
كما دعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في رسالة للعبادي بعد إعلان النصر إلى ضرورة التحقيق في أسباب سقوط الموصل ومحاسبة المسؤولين عنها.
وسبق لمجلس النواب العراقي ان شكل لجنة تحقيقية حول أسباب سقوط الموصل بيد «داعش» وأجرت مقابلات مع القيادات العسكرية والسياسية في الموصل وتوصلت إلى تحديد المقصرين وأبرزهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي أعطى باعتباره القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والداخلية آنذاك، أوامر انسحاب القوات الأمنية أمام تقدم عناصر التنظيم في حزيران/يونيو 2014 بدون مبرر. وقد أحال البرلمان ملف التحقيق إلى السلطة القضائية لاتخاذ الإجراءات اللازمة، إلا ان الأحزاب السياسية المتنفذة منعت القضاء من اتخاذ إجراءات بحق المقصرين.
هل انتهى «داعش»؟
سؤال ملح يتداوله العراقيون تزامنا مع إعلان تحرير العراق من «داعش»، عن حقيقة اندحار التنظيم نهائيا في العراق وسط تحذيرات سياسيين من احتمال ظهور تنظيمات متشددة أخرى مستقبلا.
وكشفت قيادة العمليات المشتركة، عن القضاء على 90 في المئة من الخلايا النائمة لتنظيم «داعش» الإرهابي، مبينة أن المعلومات المتوفرة لديها تفيد ان تلك الخلايا كانت تنوي شن هجمات في المدن بعد إعلان النصر النهائي، ولافتة إلى عزمها تنفيذ حملة تفتيش كبرى في المناطق المحررة سريعاً. بينما أكد نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، «أن القتال مستمر مع عناصر داعش على الحدود العراقية السورية، وان داعش انتهى عسكريا ولكن نشاطه الإرهابي لم ينته كليا».
وتتوالى معلومات مؤكدة عن ظهور جماعتين تسمى «الرايات البيض» و«السفياني» في منطقة جبلية وعرة بين محافظتي كركوك وصلاح الدين، وتضم حوالي 500 مقاتل من العرب والكرد والأجانب، بعضهم من بقايا تنظيم «داعش». وتقوم هذه الجماعات بقصف المدن القريبة بالهاونات، كما أقدمت مرارا على قطع طريق الخالص كركوك وقتل وخطف سائقي السيارات، وسط اتهام قادة شيعة للبيشمركه بـ«دعم» الجماعتين.
وكشف عضو مجلس محافظة الأنبار فرحان محمد الدليمي ان «المعلومات المتوفرة لدينا تفيد بوجود معسكرات وأماكن متعددة يختبئ فيها عناصر داعش تبدأ من صحراء ناحية الرمانة ومنها إلى نينوى وصلاح الدين» مبينا ان «وادي القذف وحوران ما زالا يهددان أمن واستقرار المناطق المحررة».
وانتقد عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية عن حركة التغيير الكردية، هوشيار عبد الله، إعلان حكومة بغداد «النصر» على تنظيم «الدولة» مشيراً إلى أن الأخير قادر حتى الآن على فتح جبهات قتالية في العراق، محذرا من احتمال ظهور تنظيمات أشد تطرفا في المستقبل.
وكانت بعثة الأمم المتحدة في العراق أكثر تشخيصا لمخاطر عودة «داعش» عندما أعلنت»إن المعركة ضد الإرهاب العالمي لا تنتهِ مع هذا الانتصار، ولا يمكن القضاء على هذا التنظيم الإرهابي إلا من خلال القضاء على أيديولوجيته التكفيرية البغيضة وتجفيف منابع دعمه الخارجي ومعالجة الأسباب التي دفعت الكثير من العراقيين للانضمام إلى داعش أو التسامح معه». كما أعربت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق «يونامي» عن قلقها إزاء الهجمات المتكرّرة بقذائفِ الهاون وما أعقبتها من «أعمالٌ انتقامية» في قضاء طوزخورماتو مؤخرا، فيما دعت الحكومة العراقية لاتخاذ كافة التدابير اللازمة «للحد من العنف والانتهاكات».
وأشارت المتحدثة باسم الحكومة الأمريكية هذر نويرت إلى ان «الولايات المتحدة تضم صوتها إلى صوت حكومة العراق في التأكيد على أن تحرير العراق لا يعني نهاية القتال ضد الإرهاب وحتى ضد داعش في العراق» مؤكدة ان «علينا جميعا أن نكون يقظين في مواجهة جميع الأيديولوجيات المتطرفة لمنع عودة داعش أو ظهور تهديدات من جماعات إرهابية أخرى».
المصالحة الوطنية
وازاء الواقع المتردي في علاقات قادة المكونات وخاصة في المناطق المحررة (المدمرة) ولضمان عدم السماح بعودة التنظيمات المتشددة سواء بأسمائها السابقة أو بأسماء وأشكال جديدة، يشهد الواقع السياسي حراكا لقوى داخلية ودولية، في محاولة لتحقيق المصالحة الوطنية ومعالجة آثار التنظيم على المجتمع.
وفي هذا السياق انطلقت في بغداد، أعمال مؤتمر «النخب الوطنية التمهيدي» بتنظيم مشترك بين منظمة التعاون الإسلامي ووزارة الخارجية العراقية، بالإضافة إلى لجنة المصالحة في العراق، للخروج بتوصيات تعزز من قدرة الشعب العراقي وقيادته على ترسيخ مفاهيم التعددية في مؤسسات الدولة والمجتمع، وكبح الفتن الطائفية والعرقية ومحاربة الإرهاب، ومنع التدخلات الخارجية.
كما استضافت بغداد المؤتمر الدولي الثالث لمكافحة إعلام داعش وفكره برعاية رئيس الوزراء حيدر العبادي وبمشاركة أكثر من 120 خبيرا ومستشارا دوليا يمثلون أكثر من 42 دولة، لبحث سبل «مكافحة نشاطات داعش في بيئة المعلومات والفضاء واستثمار الانتصار العراقي لتعزيز السلم والأمن الدوليين».
ويقول ممثل الأمم المتحدة في العراق يان ياكوفيتش «إن العراق يحتاج إلى الدخول في حوارٍ وطني شامل وتسوية مصحوبة بعملية من القواعد الشعبية والمصالحة المجتمعية. ومن الأولويات الأخرى إيجاد حل عادل ومستدامٍ وبنحو عاجل للمسائل العالقة بين بغداد وأربيل من خلال حوار شراكة يقوم على الاحترام الكامل للدستور». وشدد على إن انتهاء القتال ضد داعش يُبرّز الأولويات الرئيسةَ المتمثلةَ بإجراء الانتخابات العامة في موعدها المقرر في 12 أيار/مايو 2018 والعودة الطوعية للنازحين إلى ديارهم في أمان وكرامة، ولضمان ألا يجد الإرهابيون مرة أخرى أرضيةً خصبةً للعمل والتنامي.
دروس
ان ظاهرة تنظيم «الدولة» بكل الآثار المدمرة التي تركها على المجتمع العراقي، تستحق ان تدرس بعمق من قبل الحكومات في العراق وخارجه، من أجل الخروج بدروس ونتائج لضمان عدم السماح بنشوء ظروف تسمح في احيائها بشكل جديد، إلا ان مؤشرات الأمور بعد إعلان العبادي تحقيق النصر على التنظيم، تؤكد ان القيادات السياسية العراقية لا يبدو انها استوعبت الدرس جيدا، بل ان خلافات جديدة وصراعات نشبت قبل وبعد إعلان النصر، بين القوى السياسية على خلفية الصراع على السلطة والمصالح والتلاعب بالمشاعر الطائفية والقومية.
فقد تعقدت أزمة العلاقة بين بغداد وحكومة الإقليم عقب الاستفتاء على الانفصال وما أعقبه من فرض القوات الأمنية سيطرتها على كركوك والمناطق المتنازع عليها ولم تفلح حتى الآن كل جهود فتح حوار بينهما لحل الأزمة.
بينما أكد اتحاد القوى الوطنية (السنية) على أهمية البدء بمرحلة جديدة مفادها إرساء دولة المواطنة وسيادة القانون وإنهاء المظاهر المسلحة وعسكرة المجتمع وتحقيق الشراكة الوطنية والمصالحة الوطنية الهادفة ومحاربة الفساد وعدم منح أي فرصة لعودة الإرهاب مجددا من خلال معالجة الأسباب التي أدت إلى ظهوره.
ويدور خلاف شديد بين بعض قادة الحشد الشعبي، حول مرجعية ومستقبل فصائل الحشد وتنفيذ أوامر العبادي بعد الانتهاء من «داعش» حيث طالب بعض القادة ومنهم السيد الصدر بحل الحشد وضمه للأجهزة الأمنية وإعادة أسلحته إلى الدولة، بينما يطالب الآخرون ببقاء الحشد ليكون نسخة أخرى من حزب الله اللبناني. كما ظهرت بوادر تمرد على أوامر العبادي ومنها ما حصل في زيارة زعيم العصائب قيس الخزعلي إلى جنوب لبنان.
آثار
وإذا كانت جرائم التنظيم تسببت بدمار وتخريب غير مسبوق في تاريخ العراق عبر آلاف الضحايا والأرامل والأيتام، والنهب الواسع لكل ممتلكات الدولة والمواطنين والتدمير المبرمج للمدن التي احتلها، والتخريب المتعمد للبنى التحتية ولكل الآثار والمعالم التاريخية الخالدة، اضافة إلى تعمد توسيع الفتنة الطائفية والعرقية بين أبناء الوطن الواحد، إلا ان آثاره لم تنهِ بإنهاء سيطرته على المناطق والمدن، لانه خلف تركة ثقيلة من خلال التعبئة الفكرية الظلامية لأجيال من السكان وخاصة الشباب والأطفال الذين نشأوا خلال فترة وجوده، اضافة إلى تركه الآلاف من النساء والأطفال من عائلات عناصره الذين قتلوا أو وقعوا في الأسر لدى القوات الأمنية، وهي مشكلة معقدة أمام الحكومة التي تحاول التخلص من أبناء ونساء الدواعش الأجانب عبــر تسليمهم إلى بلدانهم الأصلية.
وخلاصة ظاهرة تنظيم «الدولة» أن الأمن في العراق سيبقى هشاً وقابلا للاختراق ما لم تتحقق المصالحة المجتمعية وتلغى المحاصصة الطائفية والسياسية، وطالما بقيت قوى أساسية في الشعب العراقي تشعر بالإقصاء والغبن، وبالتالي لا يستبعد عودة التنظيمات الإرهابية من جديد مستغلة الثغرات السياسية والأمنية والاجتماعية التي كانت غطاء لظهور التنظيم.