الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 61346مزاجي : تاريخ التسجيل : 21/09/2009الابراج : العمل/الترفيه : الأنترنيت والرياضة والكتابة والمطالعة
موضوع: الحقيقة واحدة : القس لوسيان جميل الثلاثاء 31 مارس 2020 - 1:36
الحقيقة واحدة
القس لوسيان جميل
[size=32]الحقيقة واحدة[/size]
ان هذا الموضوع في غاية الأهمية من حيث كل الأعمال الكنسية التي اقوم بها في هذا الموسم، وانا لا زلت مقيما في دهوك، لماذا؟ لأن التقليد الكنسي الى حد يومنا هذا، يعتقد بوجود حقيقتين ومعرفتين للانسان، اي بوجود قدرتين معرفيتين عند الانسان، هما القدرة البشرية والقدرة التي تطال الحقائق السماوية، كما يرى ان في الانسان كينونتين هما كينونة الجسد وكينونة الروح، تعمل كل منهما حسب قدرتها وامكانيتها وطبيعتها. فتوما الاكويني اراد ان يعقلن المعرفة السماوية فقال بوجود قدرة عند الانسان لمعرفة عالم الله تسمى قدرة المطاوعة Puissance Obédientielle. لكن يبدو ان جماعة الاكويني اي الآباء الدومنيكان لم يعودوا يلزموا طلابهم بتوما الاكويني، على الرغم من انهم لا زالوا يعلمونه في اديرتهم.
غير ان هذا الاعتقاد هو اعتقاد بدائي وهمي وغير موضوعي، كان موجودا عند الانسان القديم البدائي متعدد الالهة، وكان موجودا عند شعب العهد القديم، كما نجد هذا الاعتقاد بقوة في عقائد الايمان التي اوجدتها المجامع التي انعقدت في القرن الرابع، اثناء هيمنة الأمة الدينية القسطنطينية Théocratie chrétienne على الفكر واللاهوت المسيحي وجيرته لحساب مصلحتها القومية. فعقائد مجامع القرن الرابع الميلادي على الرغم من تفاوت مدارسها اللاهوتية وخلافاتها كانت متفقة على اسطورة كبيرة وهي اسطورة امكانية تدخل الله بأشكال شتى في حياة البشر، كما كانت متفقة على القول بأن يسوع هو المسيح الذي يتكلم او ينوه عنه سفر التكوين والأنبياء وانجيل لوقا الذي لم يكن رسولا ولم يكن قد شاهد يسوع ولا امه مريم. واذن كل المجامع كانت متفقة على ان يسوع هو الاقنوم الالهي الثاني الذي نزل من السماء وتجسد من الروح القدس وكل ما نجده في ما يسمى قانون الايمان، في حين كان الاختلاف بين نسطور و قوريللوس وكنيسة روما يعود الى التوجه الخاص بمدارس الجماعات الفكرية الفلسفية في ذلك الزمان البعيد جدا عن اية علمية. علما بأنه لو كانت للانسان القدرة على معرفة حقيقة الله الالهية لكانت تلك الحقيقة خاصة بذاتها ولا تتناقض مع العقل البشري بل تكمله، الأمر الذي لم يحصل مع اية عقيدة من العقائد التي تسمى من باب التمسك بالسلفية بعقائد الايمان. وهكذا، وعلى الرغم من ان الفكر البشري الراهن والبديهي يتناقض مع حقيقة اله ذلك الزمان وحقيقة يسوع كابن لله بالطبيعة، فقد بقيت تلك الكنيسة، لا بل حتى اغلب كنائسنا الى حد هذا اليوم، ومنهم بطريركنا الجليل واساقفته الأجلاء، متمسكين بقولهم بوجود حقيقتين: الحقيقة البشرية التي تخضع لفكر وقواعد العلوم ولحقيقة السماء التي تخضع لما يسمى الوحي والالهام وتجلي الله لبني البشر، مستندين الى اساطير العهد القديم وقصص العد الجديد التي تسلك سبيلا انشائيا قصصيا ( رومانسيا ) وغير سردي ولا موضوعي. هذا مع العلم ان الرومانسية لا تعني الحقائق العاطفيـــة، لكنها تعني " القصص " التي يؤلفها الانسان من خياله، حيث يُكونُ الممثلون جميعهم شخوص القصة، المطلوب منهم هو التأدية الحسنة، لكي تعطي هذه القصة معنى خفيا يريد مؤلف القصة ان يقوله للناس بأسلوبه القصصي الرومانسي. علما ان القصص الرومانسية قريبة جدا من البنيوية وقريبة من ظاهرة تماثل كل الأمور التي يوجد فيها قاسم مشترك تتماثل على اساسه، مثلا هناك تماثل بين الأحياء جميعها، وتماثل بين الفواكه وهناك تماثل بين الأمور والصفات الانسانية التي تقع في مجال قوى او بنى الانسان العليا الذاتية التي ليست اشياء موضوعية لكنها قيم ومواقف انسانية مختلفة الوظائف التي تخدم الانسان. علما بأن التماثل يعني وحدة الأشياء في امور اساسية مشتركة بينها واختلاف في بعض الأمور العرضية، كأن تكون فاكهة البرتقال مختلفة عن فاكهة التفاح مع بقاء البرتقال والتفاح فاكهة. التماثل يسمى Analogie بعد هذه التوضيحات، نقول عن القصة الرومانسية انها قصة رومانسية خيالية من حيث تأليفها، على الرغم من اختلاف قصة رومانسية عن أخرى. غير ان البنيويين Structuralistes قبل ان يتكلموا عن بنيوية القصص الرومانسية بأشكالها المختلفة عن الكلمة، يميزون في الكلمة مبناها ومعناها الخفي، حيث يرمز المبنى المسموع او المقروء الى المعنى الخفي للكلمة، التي تسمى هنا الـ Logos. ثم يتكلمون عن مبنى العبارة او النص ( التعبير ومعناه ) وعن مبنى القصة ومعناها، كما يتكلمون عن شكل القصة ومضمونها، وعن نصوص الأشعار والأغاني وعن اسفار الكتب المقدسة ايضا، والتي تهمنا في هذا المقال، حيث يرمز الشكل الى المضمون في القصة الناجحة وفي الأسلوب الكتابي Genre littéraire لأي سفر مقدس. اما الظاهرة فتتبع القاعدة الرومانسية والبنيوية كذلك، حيث تكون الظاهرة ما يظهر ويقع تحت الحواس، في حين يكون معنى الظاهرة خفيا يحتاج الى اكتشاف المعنى الخفي لتلك الظاهرة، عن طريق التأويل بالدرجة الأولى وعن طريق الحدس، علما ان ما ترمز اليه القصة وما تريد ان تقوله لنا، لا يتعلق بأي من الممثلين، كما ان مثل هذه القصص لا تعلمنا أية حقيقة موضوعية سردية تقع تحت الحواس، وانما تخبرنا القصة الرومانسية عن المشاعر وحدها، وعن مواقف وتوجهات وخيارات ذاتية وباطنية Subjective. ولذك فان جميع او اغلب قصص العهد القديم وقصص العهد الجديد الرومانسية تقع في هذا المجال الرمزي الخفي الذي يحتاج الى مجهود ودراية لاكتشافه، لأن بواطن القصص الرومانسية الرمزية المذكورة ليست خان جغان يلج اليها من هب ودب، حتى وان كان بابا او بطريركا او اسقفا، لأن مثل هذه القصص الرومانسية، ولاسيما تلك القصص المبنية بناء اسطوريا في اسلوبها الانشائي، تحتاج الى خبرة وحدس معمق ودراية وذهنية علمية للتمييز في هذه القصص بين ظاهرها وباطنها. المسألة تشبه ايضا الشعر الحقيقي، وليس مجرد نظم، حيث يكون على قارئ الشعر ان يدخل الى بواطن الشاعر نفسه لأن المعنى " في قلب الشاعر " كما يقال، كما يحتاج قارئ الشعر الى تحسس الجمال والحب والحقيقة والخير من خلال الكلمات الشعرية المستخدمة. اما السلطات الكنسية فلا محل لها من الاعراب هنا، ولا يحق لها ان تعد مثل هذه القصص موضوعا ايمانيا خاصا بها، الأمر الذي ينطبق على اللاهوت واساليب الوعظ. نقول ذلك، لأن الكنائس لم تستطع، ولن تستطيع ان تثبت وجود عالمين او معرفتين او حقيقتين عند الانسان، هما الحقيقة البشرية والحقيقة الالهية. علما ان الانسان له بنيتان اساسيتان هما البنية التحتية والبنية الفوقية، حيث لكل بنية معناها الروحي، يمكن ان نسميها بناها الصغرى ايضا، مع تأكيدنا على ان كل هذه البنى لا تملك كينونة مستقلة بذاتها، لكنها توجد كلها في الانسان الواحد. فاذا مات الانسان فهو يموت كله وما يتعلق به من بنى. ولن تبقى هناك نفس خالدة بعد موت صاحبها، لأن النفس اصلا ليست لها كينونة خاصة بها او وجود مستقل، وانما ما يسمى نفس الانسان ليست اكثر من صفات بيولوجية مختلفة وصفات ذاتية روحية مثل الأنا والأنا العليا والضمير والمشاعر والمقدسات تعود كلها الى الانسان الواحد. وهي تموت كلها مع موت الانسان صاحبها. فما يسمى النفس ليس عصفورا او بلبلا موضوعا في قفص بحيث ما ان ينفتح القفص اي الجسد حتى يطير البلبل حيث يشاء او حيث مصيره الحقيقي. الأن للتوضيح لنأخذ مثلا قميص رجل او امرأة، فهذا القميص هو قميص واسمه قميص واستخداماته معروفة. ولكن هذا القميص قد يكون من الصوف او من الحرير او من اي صنف من اصناف القماش. وقد يكون فصاله رجالي او نسائي، وقد يكون له طراز خاص من دكم وفتحات معينة وقد يكون ملتصقا بالجسد او يكون فضفاضا الخ.. فاذا احترق القميص يحترق كل شيء فيه ايضا، لان كل الصفات المذكورة في القميص تنتهي مع احتراق القميص نفسه ككائن اسمه قميص. ويكننا ان نقول الشيء عينه عن دار مثلا. ففي كل دار صفات اساسية تجعله ان يكون دارا. فاذا نسفت هذه الدار فان صفاتها الجوهرية لا تنعدم وحدها لكن كل صفاتها الأخرى المعمارية والفنية والترفيهية والجمالية تنتهي بفعل انهيار تلك الدار، لآن تلك الصفات لم تكن قائمة بذاتها ( تعبير فلسفي )، لكنها كانت تقوم بالدار او توجد في الدار كما يوجد اللون في القماش او في كائن آخر له وجود ذاتي يسمى كينونة. ( كائن موحد قائم بذاته ).
وهنا لا ننسى كلمة Logos التي تترجم الى اللغة العربية بمصطلح الكلمة، لتعني هذه المفردة معاني رمزية ذاتية عميقة، كما نجدها في مقدمة انجيل يوحنا حيث تقول المقدمة: في البدء كانت الكلمة ( Logos ) والكلمة كانت عند الله وكانت الكلمة هي الله. فالمقصود الأول هنا هو الاله الذي يظهر للبشر بصفات معينة في كل حقبة حضارية مختلفة. غير ان انجيل يوحنا يقصد بالكلمة يسوع المسيح ايضا، ليس بوصفه انسانا والها، لكن بوصفه كان منذ الأزل في فكر الله قبل انشاء العالم، بحسب الفلسفة الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة. ففي فكر يوحنا الانجيلي الكلمة المحررة الأولى هي الله نفسه بالصفات التي يظهر بها للبشر، لكن يبدو ان يوحنا يعد يسوع ممثلا عن كلمة الله الأزلية ومحررا الانسان من كلمة الله القديمة في العهد القديم. فبحسب يوحنا تكلم يسوع كلام الله من خلال شخصه واعماله كمحرر من العهد القديم، وليس لأي سبب آخر سماوي، فذكر كلمة يسوع وعمله التحريري، كان يكفي لكي يعرف الانسان انه مع يسوع امام حقيقة مقدسة والهية، التي تتجاوز فكر العهد القديم واخلاقه والهه. فمقدمة انجيل يوحنا ليست ياهوية بل آلوهيمية.( من كلمة ايل القديمة بصيغة الجمع ) اما اليوم فان ذكر كلمة يسوع يمكن ان تكفي لنعرف بالإيمان الحدسي الوجداني، اننا امام حقيقة مقدسة وامام حاجة انسانية لا يمكن الاستغناء عنها اذا ما اردنا الخروج من اي عهد قديم يسعى ليكون ابديا، ويريد ان يبقى مهيمنا على حياتنا. وهكذا، نحن مع الكلمة اليوحنانية لا نكون امام مجرد لفظة Un mot بالإنكليزي World لكننا امام شخص وفكر وعمل يعده الانسان ضرورة مقدسة. اما هذا الفكر وهذا الايمان فاننا نجده من خلال تاريخ حضاري فلسفي وعلمي وليس من خلال اساطير سفر التكوين واساطير القرن الرابع الميلادي، واساطير المسيحية المشرقية التي يعدها البعض الحقيقة بعينها. هذا، وبما ان الاله السماوي الذي تعتقد الكنائس الى حد هذا اليوم انها تستطيع ان تعرفه وتعرف صفاته بالإيمان، كما يستطيع هو ايضا ان يكلم الناس ويظهر لهم ارادته من خلال الوحي والالهام، فان تصرفنا البدائي هذا يعني اننا ننظر الى الاله السماوي وكأنه بشر مثلنا، او كأنه احد الممثلين يغير هيئته في كل مرة ليظهر للناس بالشكل المفيد: مرة عامل ومرة تاجر ومرة انسان طيب ومرة اخرى انسان شرير وهكذا. يعني يصبح الاله السماوي " باربا الشاطر " الذي يغير هيئته الى اي شيء واي شكل من الأشكال التي يريدها، كما رأينا ذلك في احد الأفلام الكارتونية. فتارة نرى الاله الها متعددا كما في الأديان البدائية الوثنية، وتارة نرى الاله السماوي كاله ابراهيم واسحاق ويعقوب والأمة الدينية الثيوقراطية وتارة اخرى نرى الاله السماوي في المسيحية كأب لكل البشر ينظر اليهم كأبناء له متساوين في الكرامة والحقوق الانسانية. علما ان هذه النظرة ليست حقيقية، لكنها نظرة تقترب من الحقيقة، ولهذا كنت في كتابي: كيف نتكلم عن الله قد تبنيت هذه النظرة التي كانت في ذلك الوقت من القرن العشرين تعد عند البعض كفرا، وعند البعض تقدما فكريا ولاهوتيا جيدا. اما في كتبي غير المطبوعة بعد فتحولت بشكل جذري من فكرة الاله السماوي المذكورة الى فكرة " المقدس " الأنثروبولوجي الحضاري الذي نجده في اعماق بنية كل انسان من بناه الأنثروبولوجية العليا او الفوقية Super structure، ونقول ايضا احيانا ومجازا في قلب الانسان. علما ان بنية الانسان التحتية البيولوجية وبنيته الفوقية العليا بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة كلها لا تملك كينونة ( وجودا مستقلا ) بذاته، لكنها كلها توجد في الانسان الواحد في كينونته الواحدة ( Etre ). غير اننا نجد تأثيرات متبادلة بين جميع بنى الانسان الواحد. حيث اذا تقوت البنى التحتية تتقوى معها البنى الفوقية وتتغير واذا ضعفت احدى البنى تضعف الأخرى. اما اذا مات الانسان فان جميع بناه تموت معه ولا يبقى للانسان شيء يصعد الى الجنة او يذهب الى النار او يدخل جسما آخر بحسب فكرة التناسخ القديمة. الشيء الوحيد الذي يمكن ان يبقى مدة طويلة او مدة قصيرة بحسب اهميته عندما كان في الحياة هو صورة الانسان، ويقال عنها بحسب فلسفات الانسان: شخص الانسان. اما هذه الصورة فتتواجد عند من يحتاجها حاجة انسانية نسبية كانت ام مطلقة، فاذا كانت حاجة الانسان: فردا او جماعة الى تلك الصورة حاجة مطلقة Absolue فان تلك الصورة التي تمثل الشخص تصبح حاجة مقدسة ويصبح ذلك الشخص من خلال صورته المطلقة مقدسا مثلما كان يسوع شخصا مقدسا، او صورة مقدسة تعود الى يسوع. اما اذا كانت الحاجة الى صورة شخص معين نسبية فيكون ذلك الشخص محبوبا فقط، بدرجة قوة وعمق الحاجة النسبية اليه.
تطبيق ما جاء اعلاه: بعد كل التوضيحات التي اعطيناها في مسألة الحقيقة الواحدة نبدأ بالقول: ان عالم الانسان الذي يمكن ان نعرفه قليلا ام كثيرا هو عالم واحد مادي بمادية الكون وظواهره الكثيرة المتماثلة وببناه المتعددة. اي ان عالم الانسان هو عالم واحد فيه بنيته التحتية البيولوجية وفيه بنيته العليا او الفوقية التي تحوى ظواهره الانسانية الفذة الفريدة الخاصة بالإنسان، مثل الأنا والأنا العليا والضمير وبنى الشأن المقدس الذي يشمل كرامة الانسان ومساواته في الكرامة مع اي انسان آخر. كما نجد عالم الانسان المجتمعي الذي يماثل عالمه الشخصي او الشخصاني ( مفهوم فلسفي وانساني ). فاذا قلنا ان عالم الانسان هو عالم واحد فذلك يعني ان الانسان لا يعرف غير هذا العالم، ولا يستطيع ان يعيش في غير هذا العالم، كما ان السمكة لا تستطيع ان تعيش الا في عالم المياه. واذن فان الانسان لا يملك كينونتين: كينونة الجسد وكينونة الروح والتي سميت تقليديا ومن باب الوهم النفس البشرية الروحية الخالدة. فاذا كان عالم الانسان واحدا فهذا يعني اما انه لا يوجد عالم آخر الهي بالمطلق ولا توجد جهنم ولا يوجد الفردوس السماوي، واما ان الله او بالأحرى الباري المختلف عن الخالق نفترضه موجودا في عالمه الخاص من خلال معرفة انسانية فلسفية، وليس من خلال معرفة الهية. حيث ان الباري يعني الخالق من العدم والذي منه يخرج الوجود المادي كله والذي يسمى في الفلسفة الكلاسيكية العلة الثاني في حين يسمى الباري العلة الأولى. اما كلمة الخالق فيعني من يحرك الوجود ويغيره من حالة الى اخرى، من خلال ما يسمى الانفجار العظيم او غير ذلك. فهنا نستطيع ان نقول: اما ان الباري لا يستطيع ان يغير ما خلقه بشكل كامل ووضع فيه كل مستلزماته من قوانين كبرى وصغرى، او انه لا يريد ان يفعل ذلك، لأنه لا يريد ان يتدخل فيما يكون شأنا من شؤون العلة الثانية وليس شأنا خاصا بالاله. حينئذ لا يسمى التغيير خلقا من العدم ( بريا ) وانما تغييرا فقط. في حين اننا نحتفظ للباري بمصطلح الخلق من العدم المصطلح الذي نجده عند الغربيين خاصة. لا يملك الانسان معرفتين: كما ان الانسان، وبحسب المبادئ والقواعد اعلاه، لا يملك معرفتين، بل معرفة واحدة بشرية – انسانية انثروبولوجية خاصة بالإنسان دون كل الأحياء الأخرى، كما لا يملك الانسان علمين: الواحد بشري طبيعي والآخر علم معطى من الله مع النفس الخالدة يمكن ان نسميه مجازا علما محقونا فينا Science infuse ، او علما مولودا او متزامنا مع تكويننا الجنيني، Science innée مولود مع... ثم نردف ونقول: كلا لا يوجد في الانسان اي علم مولود معنا ولكن توجد فقط قدرات معينة موجودة بشكل افتراضي ( كمقدرة او قوة ) يمكن عند الكبر ومع الزمن ان تتحول الى قدرات معرفية بالفعل En acte هذا، بحسب الفلسفة اليونانية القديمة ايضا. واذن فمعرفة الانسان واحدة وعلمه واحد ولا معرفة سماوية مبرهن عليها يملكها الانسان، في الزمن الحاضر وفي اي وقت من الماضي. اما العلم التدريجي فله قواعد لا نتطرق اليها هنا، فقط نقول بأن لا شيء يأتينا من الله مباشرة. ومن هنا فالكلام عن طبيعة الاله السماوي وعن مشيئته وعن عالم الملائكة والشياطين هو افتراض بدائي اخذ بعدا خاصا في الأمة الدينية اي في امة العهد القديم الدينية، لأسبابها الخاصة وحاجاتها الثيوقراطية الشرائعية.
تطبيقات اخرى: بعد كل ما اتينا الى ذكره من تطبيقات عن الحقيقة الانسانية الواحدة يأتينا تطبيق آخر يهمنا كثيرا ويقول: اننا لا نعرف شيئا عن اقانيم الله الذي نقول عنه انه موجود وجود كينونة، اي اذا افترضناه كائنا يمكن ان نبرهن عليه من خلال عقل فلسفي يقول: بما ان العلة الثانية ( الخليقة – الكون – العالم ) موجودة فان العلة الأولى يجب ان تكون موجودة ايضا وثابتة الوجود، اي ان الله، ونسميه الباري مع الحضارة السامية العبرية والآرامية السريانية موجود لكننا لا نملك اية معرفة عنه. كما ان الباري يجب ان يكون واحدا وثابتا لا يتغير وازليا ايضا. اي غير خاضع للزمن. اما المعلومات الأخرى عن الباري فيقينا اننا لا نعرف عنها شيئا. فنحن مثلا لا نعرف ما يسمى سر الثالوث، ولا نعرف شيئا عن علاقة الباري بعالمنا الأرضي ولا نعرف شيئا عن مشيئته ولا عن عالمه السماوي ولا عن جنته ولا عن جهنمه. كما اننا ليست لنا اية معلومة تقول ان الله هو الذي خلق الانسان وهو الذي يحرك تاريخه ويشرف على ماضيه وحاضره ومستقبله ويحيي ويميت ويكافئ ويعاقب، كما نقرأ ذلك في العهدين: القديم والجديد. كما لا نعرف شيئا عن يوم القيامة وعن الملائكة والشياطين وعن انفس القديسين ومنهم نفس مريم امه والرسل والقديسون الآخرون. كما لا نعرف شيئا عن مصير الناس الذين نسميهم اشرارا. هذا، واختصارا نستطيع ان نقول اننا ليست لنا اية معلومات تقول بأن الباري ثلاثة اقانيم وان يسوع هو الأقنوم الثاني من هذه الأقانيم الثلاثة، هذا فضلا عن كل المعلومات الأخرى التي نجدها فيما يسمى قانون الايمان الذي هو مختصر فلسفي وليس ايماني عن تاريخ بني اسرائيل كله مع امتداده في المسيحية. وعليه نحن لا نستطيع ان نعرف شيئا عن شخص يسوع المسيح المتجسد والفادي والقائم من بين الأموات والصاعد الى السماء والجالس عن يمين الله ابيه والمزمع ان يأتي في نهاية العالم ليدين الأحياء والأموات، حسبما ما يقول قانون ايماننا المزعوم بدون دليل واحد يؤيد او يقرب فهمنا لما يقوله. مما يتطلب منا اما الغاء كل هذا الاسلوب اللاهوتي الأسطوري في تقديمه الحقائق الانسانية واما اللجوء الى التأويل للوصول الى معرفة انسانية خالية من الأساطير وليس الى معرفة الهية، عن حقيقة يسوع وحقيقة الهه. لكي نتمكن من ان نسلك طريق هذا يعني علينا قطع الصلة بكل الاسلوب اللامعقول Absurde الذي نراه في سفر التكوين وفي انجيل لوقا وفي مجامع القرن الرابع الميلادي التي دوخونا بسلفيتها. هذا، وبناء على ما سلف، نرى ان نغادر ما يدعي اللاهوت المسيحي التقليدي السلفي انه الهي في حياتنا من غير برهان، وان نعود الى المقدس الانساني كحاجة انسانية مطلقة محبوبة الى درجة القدسية، فنكون بذلك قد تحولنا من القراءة الأسطورية الظاهرية الى القراءة البنيوية الرومانسية، اي الى القراءة التي لا يهمنا فيها ظاهرها القصصي او الأسطوري، لكن يهمنا فيها المعاني الذاتية Subjectives والمواقف الانسانية التي تكتشفها بنانا العليا بعيدا عن السرد الموضوعي الشيئي. وهكذا ننتقل من ثنائية عالمنا ومعرفتنا وعلمنا الى احادية معرفة الانسان الأنثروبولوجية الانسانية المادية بكل بناها المتعددة. فما يهمنا هنا ليست الحقائق الموضوعية التي نعرفها بالحواس، لكنها المعاني الذاتية الوجدانية او القلبية كالضمير والمحبة والكراهية ومحبة العدالة وسائر الصفات الانسانية الحسنة، فضلا عن الأمور التي تستحق النبذ والتجنب. كما تخبرنا منهجيتنا الانسانية خاصة عن مواقف الانسان في مرحلة معينة ام في جميع مراحل الحياة. وهنا، وخاصة بدأنا نعرف علميا ان من بين الأمور الذاتية الوجدانية ( تسمى ايضا القلبية )، نجد قدرة ذاتية روحية خاصة تتطلب من الانسان ان يسعى الى كرامته الانسانية حيث يشعر الانسان الحساس بمطلب هذا المقدس في حقبة زمنية معينة، فيصير الرواد رسلا لغيرهم من اخوتهم البشر، يبشرونهم بما يشعرون هم به، على قاعدة الأواني المستطرقة، حيث ينفتح كل انسان الى الآخرين تلقائيا، ولا يعد نفسه جزيرة مغلقة كما قال احد فلاسفة العشرينيات. وعليه يجب ان نفهم بأننا مع هذه الظاهرة التي تجعل المجتمع كله منفتحا على بعضه يحدث التقابس بكل حرية من جانب المعطي ومن جانب المستفيد من العطاء، مما يسبب تقدم المجتمع الانساني المطرد. اما القاعدة الأخرى فهي ان المتلقي لا يشعر بأي ضغط، لآن ما يقبله انما يَقبله بحريته مدفوعا بمشاعره ومعززا بقوة البشرى الداخلية الحضارية الايمانية و مطلقيتها، التي تصير بمثابة خدمة تحمل قوتها بذاتها وليست مفروضة على الانسان بقوة اية سلطة بشرية او الهية، كما يحدث مع السلفية المتعسفة الى يومنا هذا مع كثير من الرؤساء، الذين يفرضون فراغهم الروحي واساطيرهم على الآخرين باسم الايمان، مع العلم ان الايمان براء مما يدعون من امور تخص حكم العقل الموضوعي وحده وتخص الحواس الموضوعية. كما تخص قدرة السلفية على قراءة كتبهم المقدسة، هذه السلفية التي لا تعرف ان تقرأ الا في كتبها وبحسب ما ينسجم مع مصالحها وامتيازاتها الكثيرة. علما ان السلفية لا تملك اي برهان على ما تدعيه ويمكن افحامها بسرعة، اذ ما يقال بدون برهان يرفض بدون برهان، هذا البرهان الذي يقع على المدعي اولا. كما اننا نلاحظ عند السلفية تشبيه الله بالإنسان Anthropomorphisme ونلاحظ وقوع السلفية فيما يسمى الدائرة المفرغة. يعني استخدام ما هو مطلوب اثباته كبرهان، كما درسنا في علم الهندسة المستوية. علاقتنا مع يسوع: ان التطبيق الأخير يعود الى كل معتقدات القرن الرابع الميلادي التي سميت بالعقائد Dogmes التي تقول الكنيسة عنها انها ملزِمة ايمانيا، حيث من لا يلتزم بها يعد محروما Anathema sit، هكذا بكل سهولة، بلا احم ولا دستور. فالكنيسة تقول: انا البابا فلان – البطريرك فلان – المجمع الفلاني – لي سلطة التصرف بكل ما يتعلق بايمان المؤمنين، فمن لا يقول مثلما اقول انا فليكن محروما. شخصيا اقول: انت بابا نعم. انت بطريرك نعم – انت مجمع فلاني نعم، ولكن ان تضع كل حياة الناس تحت تصرفك فلا والف لا. فالبابا او البطريرك او الأسقف يتوجب عليهم ان يجمعوا المؤمنين تحت خيمة الايمان ببساطته التحريرية من الاستلاب الثيوقراطي اولا ثم من استلابات كثيرة حدثت في الكنيسة لكن هؤلاء المذكورين ليس لهم الحق على الحكم على لاهوت الآخرين وعلى علمهم وثوابتهم الانسانية، كما ليست لهم اية سلطة على نوع الحياة الانسانية التي يعيشها البشر، ولا سلطة لهم على فرض قومية معينة باية حجة كانت، لأن القومية هي ما هي ويمكن معرفتها بشكل علمي وليس عن طريق فرضها كما حدث مع ذلك الأرنب الذي ذكرنا قصته والذي كان المطلوب منه تحت التهديد ان يقول انا غزال مع انه كان ارنبا ولم يكن غزالا. فالرئاسات الكنسية يمكن ان تساعد انسانا معينا في اخذ حقوقه الحقيقية المهضومة وليس المزعومة، كما في حالة القومية الكلدانية والنسطورية مثلا، لكنها لا تستطيع ان تفرض على المؤمنين افكارها الخاصة وميولها ومصالحها وثوابتها الوهمية واساليب حياة اسلافها تحت بند الايمان والتراث والعقيدة الأسطورية غير المعقولة. كما لا يمكنها ان تفرض على المؤمنين سلفيتها وجهلها ونقص قدرتها على التغيير، واذا سمحت لي الرئاسة اقول لا يمكنها ان تفرض جبنها واحترامها المطلق لمن هو اعلى منها او لمن تحسبه كذلك: مثل روما او السفارات البابوية المتنفذة التي تفرض ارادتها على الكنيسة وعلى ابنائها بشكل جائر ومتعسف، تحت العباءة طبعا وليس جهارا. تماما كما فرضت السفارة البابوية ارادتها ضد اي تقدم حضاري وايماني حقيقي في العراق. واذن فنحن نقبل ان يُحرض المؤمنون على الأصالة الحقيقية المبرهن عليها علميا وكذلك على الوحدة الحقيقية وعلى جامعية الكنيسة الحقيقية وغير المزورة بالأساطير، لكننا نرفض ونستنكر اية سيطرة تعسفية من خلال لاهوت اسطوري على عقول المؤمنين بما يتناقض مع عقل اي انسان عاقل غير مخدر بمخدرات ملكوت السماء وجهنم، فهذا في رأي العقلاء تصرف غير عقلاني وغير مقبول بعقول الناس وحياتهم. فمطلبنا اذن، من رؤساء كنائسنا كبارا وصغارا ان لا يكرروا معنا نكتة الأرنب الذي طُلب منه تحت تهديد العصا ان يقول انا غزال، في حين ان الأرنب المسكين كان ارنبا ولم يكن غزالا. فنحن الأحرار سنبقى نكرر بوجه رؤسائنا بأننا نعترف بيسوع كشخص مقدس لكوننا نحتاج اليه حتى يومنا هذا لكي نتحرر على مثاله من كل استعباد، ومنه استعباد السلفيين من الرؤساء الكنسيين في الغرب وفي بلاد المشرق، في حين نعرف ايضا ان السلفية الدينية عندنا في بلاد المشرق اكثر عنفا وتعسفا من بلاد الغرب في العصور الحديثة، بعد ان كان الغرب في اقسى انواع السوء والوحشية في زمن كوبرنيكوس وغاليلو. علما ان خلاص يسوع لنا اليوم هو مماثل للخلاص الذي حققه يسوع من استلاب امة العهد القديم الدينية. هذا الخلاص الذي حققه بتضحيته الكبرى على الصليب، ليس لإنقاذ البشر من خطيئة ادم وحواء، ولكن فقط لأن يسوع كان انسانا ابن ابيه وامه، وكان عميقا في نظرته الى احوال امته وشفافا فيما كان يصبو اليه من تغيير في امته الدينية، دون ان يكون مسخا، كما كانت كنيسة القرن الرابع تريده ان يكون، في حين انه كان مخلصا من استبداد الشريعة الموسوية وجبروتها وعبثها. اما اليوم فلعلنا يحق لنا ان نتحرر من سطوة افكار يوحنا بولس الثاني الذي اراد ان يعود بنا الى عقائد القرن الرابع الميلادي. فنحن نقول ليوحنا بولس بأننا لن نبقى تحت سيطرة تعليمك الفولاذي الذي كان يقسم الحقيقة الى قسمين، او بالأحرى كان يؤمن بحقيقتين احداهما كانت حقيقة الأرض والثانية كانت حقيقة السماء، وكان يؤمن بوجود معرفتين احداهما هي المعرفة الانسانية الأرضية والأخرى هي المعرفة السماوية المسلمة بيد البابا وسلاطين الكنائس، ولاسيما الكنيسة الكاثوليكية التي لا زالت في قسم كبير منها تعد نفسها وريثة الثيوقراطية المسيحية القسطنطينية، هذه الثيوقراطية التي نخرتها الانقسامات المسيحية في بداية شيخوختها، ثم دخلت فوهة المطحنة التي تطحن كل الحضارات، هذه المطحنة التي اسميها الثورة الفرنسية التي خرجت منها الكنيسة بعد آلام كثيرة وقد صارت كنيسة اخرى جديدة، كما ان الحنطة تدخل فوهة المطحنة وتخرج منها شيئا جديدا هو القمح. غيران الكنيسة سوف تحتاج الى الدخول في فوهة مطاحن عديدة وقاسية ايضا حتى تخرج اكثر قربا من الحقيقة الانسانية الواحدة الخالية من العقائد الأسطورية. على سبيل المثال نذكر مطحنة الأحزاب الشيوعية ثم مطحنة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، ومطحنة البابا البولوني يوحنا بولس الثاني وغيرهم الكثير دون ان ننسى اليوم مطحنة العولمة او النظام العالمي الجديد وتوحشه، ودون ان نهمل كذلك مطحنة السلفية العراقية التي خرج الانسان منها مشوها تماما. فنحن المسيحيين، في العراق والشرق الأوسط، وفي مقدمتهم المسيحيون الكاثوليك، نحن ايضا دخلنا اغلب المطاحن المذكورة ولاسيما دخلنا مطحنة السلفية المشرقية التي خرجنا منها مكسري الأجنحة، الا من رحم ربي. فالبابا فرنسيس يقول اننا متأخرون عن الحضارة الايمانية 200 سنة، وكان يقصد الكنيسة الكاثوليكية بشكل عام اما كنائس الشرق والمشرق الكاثوليكية فهي في الواقع متأخرة عن الحضارة الايمانية المطلوبة اكثر من 300 سنة. فنحن بالحقيقة قد ابتلينا بمطحنة قوامها جيش من خريجي كلية انتشار الايمان الحبرية، الذين كانوا يعدون انفسهم متفوقين على غيرهم في العلم والمعرفة ولاسيما في الأمور اللاهوتية والايمانية، مع انهم لم يكونوا اكثر من اناس عينهم الواحدة عمياء ولذلك كانوا قد رأوا انفسهم ملوكا في مملكة العورين ( اناس بعين واحدة ). اما خريجو معهد مار يوحنا الحبيب فكانوا عمليا مبعدين من اية وظيفة كنسية مهمة. ولكن عندما تمت اعادة حقوقهم اليهم، تصرفوا كمن سبقهم من خريجي كلية انتشار الايمان، وصاروا هم ايضا معادين للحياة المعاصرة، لأنهم حسبوا ان السلفية مطلوبة منهم، وان كانوا اكثر نشاطا في امور كثيرة من اخوانهم خريجي كلية انتشار الايمان التي اسميها كلية قمع الحريات التحررية. فطاحونة سلفية جماعة كلية انتشار الايمان والسفارة البابوية بجناحها العامل كالقصادة الرسولية كانت عيونا ساهرة على كل نشاطات البطاركة السلفيين والأساقفة وغيرهم، حيث كان البطريرك بولس شيخو ومن بعده البطريرك روفائيل بيداويذ ومعاونه المطران عمانوئيل دلي الذي كان قد اصبح بطريركا هو الآخر، هؤلاء جميعا كانوا كخاتم بأصبع السفير البابوي القائم بأعمال القصادة الرسولية، حيث كان الجميع وكأنهم كانوا قد حلفوا اليمين على منع اي تقدم وتطور واية مواكبة كانت تتناسب مع حضارة الانسان الراهنة. فهؤلاء جميعا، وعلى التوالي شنوا حملات شعواء على المجددين في الكنيسة اينما كانوا، ولاسيما في ابرشية الموصل، للقضاء على نشاط القس لوسيان جميل بكل السبل المتاحة، ولاسيما بإبعاده عن اية خدمة كنسية داخل الأبرشية وخارجها. هذا، ومن المعلوم ان البطريرك روفائيل بيداويذ كان قد رسم القس كوركيس كرمو حامل الجنسية الأمريكية ومن اصل عراقي ومن خريجي كلية انتشار الايمان، لكي يبعد القس لوسيان بشكل عدائي بكل معنى الكلمة عن اية مهمة تبتكرها الأبرشية. هنا اقول فقط ان نعم لقد استطاع المطران كوركيس كرمو ان يبعد القس لوسيان من خدمات كثيرة، بمنعه من تدريس اللاهوت في الدورة اللاهوتية وسمح له بتدريس الفلسفة في تلك الدورة عينها. ثم حصل ان وبخه بشكل عابر عن بعض كتاباته في مجلة الفكر المسيحي بطريقة كان ينقصها الخبرة والذوق السليم، لأنه كان ملتزما بمحاربة نشاط القس لوسيان. ومرة اخرى اصر ان لا يكون المسؤول عن التثقيف المسيحي سوى شخص واحد يعينه او يقبل به المطران، في حين كنا في الأبرشية نطالب بأن يكون المسؤول عن التثقيف المسيحي لجنة من خبراء لاهوتيين وعلميين علمانيين، كما كان يتطلب منطق ذلك التنظيم. غير ان الذي حصل ان دخلت اللجنة في خبر كان، وان القسس كانوا قد قاطعوا كل اجتماعات المطران كرمو وحرموه من نعمة الكذب على روما التي كان يقول لها انه هو الذي يسير الأبرشية حسب رغبة روما التعسفية التقليدية المعادية لأي تغيير في الكنيسة. فالتغيير بالحقيقة قد حصل وبكثافة على الرغم من كل المعوقات التي كان قد قام بها المطران كوركيس كرمو والبطاركة السلفيون، لأن التغيير كان اقوى من السلفية وايمانها الوهمي وسلطتها الكاذبة. ولكن بؤرة السلفية المعادية للتغيير الحضاري الايماني كانت خاصة في بغداد حيث مركز البطريركية المهيمن على كل شيء هناك، فالبطريرك معتمدا على معاونه المطران عمانوئيل دلي الذي كان قد اصبح هو نفسه بطريركا بعمر الشيخوخة كان خير عامل على استقطاب جميع الكنسيين هناك صغارا وكبارا. وكان يغض النظر عن سلوك كثير من الخوارنة المعمرين في كنائسهم حتى كانت اية كنيسة تسمى عادة باسم القس راعيها، وهكذا كان الجميع وكأنهم سائرون على سكة واحدة لا يستطيعون الخروج عنها. يقدس- يعمذ - يبرخ – يدفن الموتى – يذهب الى التعازي – وغالبا بمصاحبة البطريرك بولس شيخو – ولم يكن احد يطلب منهم اكثر من ذلك. لذلك كانت السفارة البابوية راضية عن الجميع، طالما انهم لم يكونوا يخرجون عن الخط المرسوم: العقائدي والطقسي والكنسي. فكان العالم يسير في خطه الخاص والكنيسة تسير في خطها الخاص، كما كنا نسمع ان هم البطريرك عندما يحضر اكليل احد الأغنياء كانت الكرازة ( الوعظ الذي يلقيه ) على الجمع الحاضر يدور حول ملابس البنات والنساء. هكذا كانوا يرون المسيحية في حين كان ماء الالحاد والعلمانية الناقدة للكنيسة يجري من تحتهم وهم لا يدرون. فهم كانوا يتحسسون لأي تغيير يحري في الأبرشيات الأخرى، ولاسيما ابرشية الموصل التي كانت قد اخذت المجمع المسكوني محمل الجد. غير انهم لم يكونوا يشعرون بما يجري حولهم من ضعف ايمان وتحوله من ايمان الى مجرد انتماء. اما البطريك روفائيل بيداويذ فكان عدوا لدودا لأي تغيير يأتي من القاعدة ولا يمر به. لكن قصته مدونة في مقال مستقل. وكذلك قصة المطران عمانوئيل دلي: معاونا بطريركيا ثم بطريركا عاجزا عن اي تصرف معقول. هنا لا اتكلم عن مجالس المطارنة التي كانت ولا زالت حتى يومنا هذا وبالا على حالة الكنيسة الصحية. كنيسة كانت ولا زالت تعتقد ان الله قد اعطى لها كامل الامتيازات والمواهب. وكنيسة لا تعترف بالمؤمنين غير كرعية ومجموعة من خراف يقودها امراء الكنيسة ذوو التيجان والصولجانات الامبراطورية ( امبراطورية امة قسطنطين الملك الاقطاعية )، كما يقودون قطيعهم بعصا الطاعة والرعاية الالهية المزورة التي كان يمسكها المطران بيده دائما، كما كان يحدث في الأمة الدينية المسيحية القسطنطينية، وايضا كما كان يحدث عندنا في بلاد الشرق – المشرق عندما كنا طائفة دينية في دولة الفرس اولا يرأسها بطريركها في الشؤون الدينية وتعود في الشؤون الأخرى الى الدولة المدنية، ثم صرنا طائفة دينية في الدولة العربية الاسلامية، حتى سقطت هذه الدولة بسقوط الامبراطورية العثمانية وتفككت، وكان من المنطق ان يصير المسيحيون شعبا للعراق وحده ولا يكون له بطريركا يدير شؤونه الدينية وفق ضوابط معينة. غير ان البطريرك بقي بطريكا لأسباب لا نتطرق اليها في هذا المقال، وهو امر غير طبيعي ومضر بالمسيحية. واذن كنا نحن ابناء الكنيسة الكلدانية قد دخلنا مطحنة السلفية الكنسية المتكونة من خريجي كلية انتشار الايمان الحبرية. كما كنا سابقا قد دخلنا مطحنة البابا يوحنا بولس الثاني وخرجنا اناسا رافضين لكل نتائج المجمع المسكوني اكثر مما حصل من رفضٍ في الغرب لذلك المجمع. علما ان مطحنة البابا يوحنا بولس الثاني كانت مطحنة مدروسة وتخرج طحينا متجانسا وصافيا لا شائبة فيه. في حين ان مطحنة السلفية الكنسية العراقية كانت مطحنة فيها خدوش كثيرة ونتوءات غير متجانسة كما فيها امكنة ملساء لا تصحن الطحين جيدا، لذلك كان الناتج غير متجانس وغير مرغوب لدى الكثير من الناس الذين ما عادوا يقبلون مثل هذا الناتج غير المتجانس وغير المفهوم، الأمر الذي سبب النقد من قبل الشعب الذي صار امام كنيسة لا يفهمها ولا تفهمه، في كثير من الأمور المدنية والدينية الكنسية. وصار نصيب رؤساء كنيستنا كجماعة الفريسيين والكتبة في العهد القديم هذه الجماعة التي قال فيها يسوع انهم لا يدخلون ملكوت الله ( ملكوت العهد الجديد ) ولا يتركون غيرهم يدخلونه، هذا ما حدث مع كثير من السلفيين المذكورين في هذا المقال مثل البطريرك بولس شيخو والبطريرك روفائيل بيداويذ والبطريرك عمانوئيل دلي، والمعاون البطريركي سابقا. فقد ادخلنا هؤلاء جميعا مطحنة مشوهة انتجت لنا طحينا غير متجانس وغير صالح للاستخدام من وجهات نظر عديدة. نعم لقد اصبحنا كنيسة وشعبا: مؤمنين ومنتمين، اناسا فاقدي الهوية، كما كان يقال عن القسس في فترة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني. اما الأن فاذا تساءلنا عن سبب هذه الحالة التي نحن فيها الآن وعن سبب حالة اساقفة وبطاركة سلكوا سبيل السلفية والطريق التقليدي المطروق وحاربوا اية تجربة اخرى غير تجربتهم فاني ارى شخصيا ونتيجة لدراساتي المعمقة في هذا المضمار ان سبب البلاوي التي حلت بنا هو غريزة السلفية التي تشبه غريزة القطيع grégaire Instinct كما ان السبب يعود الى التنشئة الخاطئة والتقليدية التي كانت ولا زالت كلية انتشار الايمان تعطيها لطلابها، وهي تنشئة فحواها ان المقدس الذي يوجه حياة البشر هو مقدس واحد وهو الاله السماوي، وليس غيره، هذا الاله الذي يقود العالم من مرحلة دنيا الى مرحلة اعلى وافضل منها بحسب مشيئته. فالكنيسة تقول ان هذا الاله اُعطي له اسم معين في زمن الوثنية ثم اعطي له، او هو ذاته اعطى لنفسه اسما خاصا وفريدا، في مرحلة الاله الواحد الذي يقود بمشيئته وعلمه وقدرته امته الدينية. فاذا انتكست الأمة الدينية لأسباب نحن نقول علميا انها كانت اسبابا بشرية يقولون ان الاله تخلى عن امته لأنها كانت امة خائنة لعهده معها. اما في المسيحية فتقول الأناجيل ان الله ارسل يسوع المسيح لينقذ امته من الخطيئة الأصلية بحسب وعده في سفر التكوين. كما تقول الكنيسة ان يسوع هو المسيح المنتظر الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس نزل من السماء مرسلا من ابيه السماوي وتجسد من الروح القدس وولد من مريم العذراء بقوة الروح القدس. وان يسوع هو بالتالي اله وانسان، ولكن كيف ؟ يقال لنا لا تسألوا آمنوا فقط. فماذا يعني كل هذا اللاهوت الغريب الأسطوري؟ انه يعني ببساطة ان الكنيسة، ولأسبابها الخاصة التي لسنا بصددها الآن، كانت قد قبلت تقليديا، ومنذ القرن الرابع الميلادي ان يكون للانسان عالمان: العالم البشري الانساني والعالم الالهي السماوي، وان هناك اتصالا بين العالمين بمشيئة الهية، عن طريق الأنبياء وعن طريق ما يسمى الوحي والالهام. كما تؤمن بالنتيجة ان يسوع كان ولا زال ينتمي الى عالمين: العالم البشري والعالم الالهي. كما توجد في عالمنا معرفتان: احداهما تأتي من البشر بالطرق الانسانية المعروفة والأخرى تأتي الى الانسان بالطريقة الالهية التي ذكرناها. ويعني ان الحقيقة عندنا نحن البشر ليست حقيقة واحدة بل حقيقتان: احداهما بشرية انسانية والأخرى الهية، الأمر الذي كان يسهل للكنيسة التلاعب بالمعطيات المسيحية وبالايمان المسيحي وبما ينتج من كل ذلك من احتفاظ رؤساء الكنيسة، ولاسيما الكبار منهم، بكل النظام الأسطوري الذي بنوه في القرون الوسطى: نظام البابوية المطلق، وكل النظام الشرائعي الذي كانوا يسمونه النظام الكاثوليكي والذي كان اقسى من شرائع العهد القديم المباد. وهكذا يصح في نظام الكثلكة الأسطوري المثل القائل: فتش عن المرأة، ونحن هنا نقول فتش عن ثنائية الالهي- الانساني لعالم الانسان ولمعرفته. هذا في حين انه لا احد يستطيع ان يتلاعب بالحقائق عندما سوف تؤمن الكنيسة بوحدة الحقيقة ووحدة المعرفة ووحدة العلم، لأن العلم يكون الحد الفاصل بين الحقيقة والكذب. القس لوسيان جميل 22 – 3 - 2020