الالتباس في كلمة الايمان - الجزء الأول
القس لوسيان جميل
الالتباس في كلمة الايمان - الجزء الأول
عزيزي القارئ! لو لم يكن هناك التباس خطير في كلمة الايمان ما كنت اكلف نفسي بكتابة هذا المقال. فبعد ان كتبت مقالا بعنوان الحقيقة واحدة، واكت في ذلك المقال ان الحقيقة واحدة وان عالم الانسان واحد وان معرفة الانسان من طبيعة واحدة، وارسلت ذلك المقال الى من كان يحتاجه، ثم احتفظت به ايضا ليكون من بين المقالات التي اكتبها في هذا الوقت عن الكنيسة وعن شؤونها المتعددة وعن الالتباسات الموجودة في فكر رؤسائها وفي فكر غالب اكليروسها، رأيت ان انتقل الى موضوع اليوم الذي هو بعنوان: الالتباس في كلمة الايمان. فما هو المعنى الحقيقي للايمان، ولماذا يحدث الالتباس في معنى الايمان وفي استخداماته، وما هي خطورة التباس الايمان على الحقائق، وكيف نكشف الالتباس في معاني الايمان، وما هي ضرورة الوصول الى حقيقة الايمان وجوهره الانساني الأنثروبولوجي؟
مواقف مختلفة من كتاباتي المعاصرة: منذ ان باشرت بالكتابة في الشؤون الكنسية اللاهوتية بشكل علمي ومعاصر، لاحظت وجود مواقف متباينة من كتاباتي تتفاوت بين موقف الرفض السلفي العدواني السلطوي غير المبرر، وبين موقف التجاهل يقول: لقد قرأت بعضا من كتابك، لكني سأكمل القراءة فيما بعد. فمثل هذا الكلام هو كلام دبلوماسي لشخص لا يستطيع قبول كتاباتي او مقالاتي، او لا يقبلها اصلا، لكنه يعرف انه ليس باستطاعته تقديم برهان مقنع على رفض ما اكتب فقرر التجاهل حسب.
هذا ويذكر ان المرحوم البطريرك عمانوئيل دلي قال لي بحضور قسس ابرشية الموصل بأنه قرأ كتابي كله ( كتاب وجه الله ) لكنه لم يفهم منه شيئا. احد القسس اجابه على الفور: هذه مشكلتك يا سيدنا. ثم اردف البطريرك بقوله: سأقرأه مرة ثانية. غير اني متأكد انه لن يقرأ كتابي مرة ثانية ولا قرأ جزءا منه من قبل. هنا فقط لي ملاحظة ارجو ان ينتبه القارئ اليها تقول: هل يعقل ان يصل شخص الى مرتبة اسقف ثم معاون بطريركي ثم يُرقى الى مرتبة بطريرك والى مرتبة كردينال ثم يصرح بأنه قرأ كتابي كله فلم يفهم منه شيئا؟ واذن كيف يستطيع ذلك البطريرك ان يقرأ نتاجات قسسه الأخرين ويعطي حكما صحيحا ومنصفا على ما يكتبون، وكيف يستطيع ان يقرأ كتابات لاهوتيين غربيين اكثر صعوبة من لاهوتي؟ !
اما الأن فاحكي لكم كلاما دار بيني وبين المرحوم اكرم خطاب عمر الذي كان صديقا للمرحوم المطران كوركيس كرمو وللقس لويس ساكو (غبطة سيدنا البطريرك حاليا )، وللمرحوم الأب يوسف حبي وغيرهم. ثم مؤخرا كان قد صار صديقي ايضا، وكنت ازوره في بيته من وقت لآخر ونتكلم دائما بالشؤون الفكرية اللاهوتية وغيرها. كما كان اداة فعالة جدا في جمع عدد من اخواننا المسلمين مع لفيف من المثقفين المسيحيين، فيما كنا نسميه" المنتدى اللاهوتي". وعليه، وبسبب علاقتي الشخصية الفكرية اللاهوتية مع المومأ اليه كنت قد اهديت له اول كتاب طبع لي بعنوان وجه الله- منهجية لاهوتية معاصرة خارج الأسوار، اما بعد ذلك فقد كنت قد اهديت له كتابي الرئيسي الذي كان يضم 548 ص وكان بعنوان : كيف نتكلم عن الله اليوم، منهجية معاصرة وتطبيق خارج الأسوار. بعد مدة كنت قد خابرت صديقي ابو ايمن،( رحمه الله ) واثناء الحديث كنت قد قلت له هل ارسل لك نسخة اخرى من كتاب" كيف نتكلم عن الله اليوم" ، فأجابني كلا، لا زال هذا الكتاب موجودا عندي، غير ان كتاب" وجه الله " كان قد استعاره مني احد الأصدقاء، فلما طلبت منه ان يعيده لي قال: هذا الكتاب لن اعيده اليك، لأنه كتاب لا يوجد مثله. فقلت له لا تهتم سوف ارسل لك هذا الكتاب ثانية. اعزائي: ان هذا الكتاب الذي وصفه صديق ابو ايمن، المسلم ايضا، وقال عنه انه كتاب لا يوجد مثله، كان عين الكتاب الذي كان المرحوم البطريرك الكردينال عمانوئيل دلي قد قرأه ولم يفهم منه شيئا، فيا لعجب العجاب من هكذا كنيسة وهكذا رؤساء!!!!
مع البطريرك بيداويذ: اما البطريرك روفائيل بيداويذ الذي كان يقال عنه انه بطريرك علامة فذ، فلم يكلمني عن كتابة معينة من كتاباتي، لكنه كان قد انهى الكلام معي بجملة بسيطة، في حقيقتها لم تكن تزن اكثر من حفنة تراب، لكن في الحالة والطريقة التي قيلت فيها كانت تزن اطنانا من حجارة الجبال الساقطة من اعلى قمم جبل الى القعر. فهذه العبارة كانت في الحقيقة عبارة لا ينطق بها الا جاهل وانسان منفوخ بمنصبه الكنسي وانسان تقليدي ومتعسف، لأننا اليوم نعرف ان الثياب ( يعني الوظيفة ) لا تعمل الراهب، كما يقول مثل شائع. فالانسان الجاهل وخريج كلية انتشار الايمان الحبرية المشهورة بأنها تستلب طلابها ولا تعطي لهم سوى ما تقبله التقاليد السلفية الأسطورية لا يفهم ان وظيفته وحدها لا تستطيع ان تعمل منه انسانا عالما وفيلسوف انسان، ولاهوتيا مواكبا للعلوم وللحضارة وللإيمان المعاصر. ان ما عمله هذا الانسان السلفي المتعسف يمكن فيما بعد ان يقرأه من يحب في مقال مستقل). اما الجملة التي كان قد قالها ذلك البطريرك المتعسف فقد كانت: نحنا لاهوتك ما نقبلو، اي نحن لا نقبل لاهوتك! لماذا تقول هكذا يا سيدنا؟ فهل تعتقد انك الحكم المسؤول عن علوم الدنيا كلها؟ وهل تعتقد ان علوم البشر كلها تخضع لجنابك؟ ان اينشتاين نفسه لم يكن يستطيع بدون برهان ان يقول لأحد العلماء انا لا اقبل علمك وكذلك الأب تيار ده شاردن، وانما كانا يناقشان من يحاورونه بكل احترام. لكن بما ان هذا البطريرك واغلب البطاركة الأخرين وأساقفة الكنائس وحتى كثير من قسس كنائسنا وشمامستنا لا يجابهون المنهجيات العلمية الا بكلمات من مثل: نحن لا نقبل لاهوتك، يبدو ان المسألة كانت قد صارت شيئا عاديا لا يتشكك منها اغلب الناس. ومع ذلك اقول الآن: واذن، اذا كنت يا سيدنا تزعم انك تعرف ان تميز بين لاهوت ولاهوت وانك عالم كبير كما قيل عنك، فلماذا يا سيدنا لم تكلف نفسك وتناقشني في لاهوتي الذي ادعي انه يستند الى علوم الانسان ولا يستند الى اساطير مجامع القرن الرابع، هذه الأساطير التي انت وامثالك حولوها الى عقائد ايمانية لا يمكن مناقشتها؟ نحمد الله ان بطريركنا لويس ساكو ليس كما كان هؤلاء، بل اكثر تفهما واعتدالا وقدرة مناقشة واحترام افكار الاخرين العلمية. مع اننا كنا نتمنى ان يكون اكثر جرأة.
النوع الثاني من الرفض: اما النوع الثاني من الرفض فهو اهون واخف من النوع الأول المجاهد المعادي لأي تغيير لاهوتي وحضاري وايماني. فالنوع الثاني لا يستطيع ان يجابه القس لوسيان جميل لأسباب عديدة، لذلك يعمد الى تجاهل كتاباتي بكل بساطة ولا يقرأها ولا يحب ان يناقش الكاتب بما فيها. انه يحاول ان يتجاهلها تماما، لأنها ضد مصالحه وامتيازاته.
رفض آخر من الدرجة الثالثة: ثم ياتي صنف آخر من الدرجة الثالثة في تجاهل الأمور العلمية التي يكتبها القس لوسيان وغيره حيث يقول المنتمون الى هذا الصنف: ان هذه الأفكار هي افكار القس لوسيان جميل. مما يعني عمليا ان هذه الأفكار لا تناسبهم ولا يمكنهم قبولها ووضعها في العمل، وان كانت افكارا علمية. في العهد القديم كانت السلفية قد قالت عن يسوع: انه يخرج الشياطين ببعل زبوب وليس بقدرة الله. اما يسوع فكان قد قال لهم: اذا كنت اخرج الشياطين ببعل زبوب فأولادكم بأية قدرة سوف يخرجونه؟ اما اقترابا من مثل اخراج يسوع الشياطين بقدرة بعل زبوب، فأقول لجميع الذين يرفضون المنهج العلمي في التبشير: اذا كنتم ترفضون منهج القس لوسيان جميل العلمي في التبشير والرسالة المسيحية الخلاصية الحياتية فانتم بأي منهج تصلون الى نجاح مهمتكم المسيحية، التي قد تختلف عن النجاح في مهمتكم الشخصية والتي قد تجلب لكم مديح الناس الفارغ، كما يقول يسوع للفريسيين الذين كان يقول لهم: انكم تعملون اعمالكم لكي يراكم الناس. وهنا اسألكم: اذا كانت كل هذه الأساطير ليست اساطير وانما هي عقائد ايمانية بحكم السلفية الدينية، فكيف تكون الأساطير اذن؟ نعم ان جميع الذين ذكرتهم يعيشون على التباس فج ومفضوح ويسهل تفكيكه. وهم بالعموم يكتفون بوضع الرعية في حضيرة مغلقة لا تستطيع بسهولة الخروج منها. اي انهم جميعا يكتفون بجعل الناس " منتمين " وليس مؤمنين، ولكن باسم الايمان.
هذا مع العلم ان القس لوسيان لم يبق في يوم من الأيام انسانا نظريا فقط وانما حاول قدر المستطاع ان يضع علمه ودراساته موضع التنفيذ والعمل، في تلكيف وفي كل بلدات ما يسمى سهل نينوى، من باب الانتهازية القومية الفارغة التي ليست سوى خضوع لارادة المحتلين الغاشمة في ان يجعلوا من المسيحية قومية عرقية. علما ان القس لوسيان، وان كان الراس المفكر لهذا المنهج العلمي وتطبيقاته، على الأقل عندنا في الشرق، لكنه كان يعمل معه قسس آخرون محترمون وغيورون من امثال الأب مانوئيل بوجي وكل من كان قد اشتغل في تلكيف معه مثل الأب ميخائيل بزي والقس التارك للقسسية حبيب ممو، الله يذكرهم بالخير جميعا، طبعا كان لكل منهم منهجه الخاص به، وهذا لا جدال عليه. اما ابرشية الموصل فلم تُعدم من قسس كانوا قد تبنوا النظرة التصحيحية والتجديدية. لكنني لا اذكر اسماءهم هنا.
بيت القصيد: وهنا اريد ان انتقل الى بيت القصيد واقول: ترى هل تكفي كلمة الايمان والمقصود بها الايمان بترهات عقائد الكنيسة واساطيرها لردع المجددين والمتنورين عن توجهاتهم الخلاصية؟ اطروحتي العلمية تقول ان كلمة الايمان كما تستعملها السلفية هي كلمة ملتبسة تحمل اكثر من معنى، ولذلك فهي تقود الى الضلال والتضليل والى تكفير الناس من دون وجه حق، كما حصل مع كوبرنيكوس ومع غاليلو ومع الأب تيار ده شاردن العظيم والأب لاكرانج الدومنيكي ومع غيرهم الكثيرين، وكما حصل للقس لوسيان جميل مع اقطاب الكنيسة السلفية الملقبة بالكنيسة الكلدانية. وعليه فقد عزمت على فضح هذا الالتباس وتبيان خطره على حقوق العلم والعلماء وعلى حقوق الناس المحتاجين الى الحقيقة، خلال اجيال عديدة، هذا الالتباس الذي لا زال قائما الى حد هذا اليوم. ولذلك ابدأ عملي في تفكيك هذا الالتباس، بناء على علوم الانسان، وليس بناء على ارادة ومشيئة السلفية الدينية واستخدام السلطة بشكل غير مشروع وغير عادل ايضا، او استنادا الى قوة اية سلطة سياسية او دينية. كما سأقسم عملي هذا الى قسمين لطول المادة.
ماذا يقول علم الانسان: ان علم الانسان يقول ان الانسان كائن حي عاقل واحد وموحد ( كينونة واحدة مستقلة بذاتها ) وان علمه واحد ومعرفته واحدة، وهي معرفة انسانية، وانه ليست له غيرها من معرفة، ولا علم له بوجود عالم آخر او امكانية وجود ومعرفة ذلك العالم الآخر ومشيئته. غير اني هنا ودرئا للالتباس عند بعض القراء الكرام، اود ان اقول باختصار شديد ان الاله، يجب فلسفيا، وليس علميا، ان يكون موجودا بسبب وجود العلة الثانية اي الكون وارضنا، لاسيما واننا نحن البشر في ايامنا العلمية نعرف ان العلة الثانية في حركة دائمة، مما يتطلب ان تكون هناك علة اولى ثابتة لا تتحرك. اما من حيث تدخل الاله او عدم تدخله في عالمنا فلا يعني الجزم بعدم وجود الله من الأصل، لكنه يعني فقط اننا نحن البشر ليست لنا قدرة على معرفة طبيعة هذا الاله، وماذا يقول لنا هذا الاله، كما يمكن ان يعني ايضا ان الله قد لا يستطيع او لا يريد ان يظهر مشيئته وكلامه للانسان، ليس فقط بسبب عدم استطاعة الانسان على التقاط تلك المشيئة، ولكن ايضا بسبب ان الاله- الباري، اذا كان موجودا، فهو قد " برا " او خلق من العدم كوننا وعالمنا كاملا ولا يحتاج تدخل الاله من جديد، بحذف او بإضافة قانون جديد. هذا، ويبدو ان عالمنا ليس فقط متحركا وسائرا نحو الأمام، لكنه كائن حي Animé ايضا، يعالج نفسه بنفسه، وفق نظرة لا تنطبق دائما مع ما يريده الانسان.
الانسان كائن بنيوي: هذا، ومن جهة اخرى فان الانسان كائن بنيوي بامتياز، في طبيعته الأنثروبولوجية. ولكن ما معنى ان يكون الانسان كائنا بنيويا، وماذا تعني البنيوية، او الفلسفة البنيوية التي هي احدى علوم الانسان ايضا؟ اعتقد ان ابسط حالة للبنيوية هي حالة الكلمة، فالكلمة فيها ظاهرها، وفيها معناها الباطني. ففي ظاهرها ليست الكلمة سوى بعض الحروف او بعض الأصوات، حيث ان اي حرف من هذه الحروف او هذه الأصوات منعزلا عن الحروف الأخرى، او عن الأصوات الأخرى، لا يعني شيئا كثيرا. اما اذا جمعنا الحروف او الأصوات بتنسيق معين حينئذ يصير لتلك الحروف او لتلك الأصوات معنى محددا واضحا وان كان عقليا وخفيا، مثل معنى شجرة او تفاحة او غزال او انسان الخ. غير اننا يمكننا ان نجد البنيوية في العبارة وفي المثل وفي النص المكتوب وفي قصص الكتب المقدسة والقصص الأدبية ايضا. فالكلمة والنص المكتوب واي سفر من الأسفار كلها، تسمى بنيويا " البنى التحتية المادية "، التي يمكن ان تحتوي على بنى اخرى كثيرة تخضع لقاعدة البنيوية المذكورة. اما المعاني فتسمى " البنى الفوقية " والتي هي كلها في منطقة عقل الانسان وفي منطقة مشاعره الفوقية الباطنية التي لا تقع تحت الحواس الموضوعية.
والآن لنأتي الى الانسان: بعد هذا التوضيح الطويل نسبيا نأتي الى الانسان. فالانسان، ككل الأشياء الأخرى، ولاسيما ككل الأحياء، كائن بنيوي، فيه البنية الجسدية المادية التحتية Infra structure التي تشمل كل جسم الانسان، وفيه البنية العليا او الفوقية Supra structure اي معاني الأشياء التي تقع في هذه البنى الفوقية، غير ان البنية التحتية والبنية العليا لهما فروع وتشعبات خاصة بهما ومن طبيعتهما، تعمل هي الأخرى بحسب قوانينها العامة وحسب قوانينها الخاصة الفرعية، علما بأني اضع دماغ الانسان كجهاز معرفي يعود الى الجملة العصبية، وهو يقع بين البنى التحتية وبين البنى الفوقية، كما انه يعتبر جهاز معرفة بامتياز. ففي الدماغ يوجد العقل المفكر Raison résonnante، مما يجعلننا نقر بان يكون عقل الانسان مختصا فقط بالأمور التي تقع تحت الحواس، اي بالأمور المادية او الأشياء الموضوعية الواقعية حسب. فالعقل يعمل كل العمليات الوصفية المختلفة بأحجامها ومساحاتها واشكالها وارقامها الخ... ولهذا، فان العقل ليس مسؤولا عن معرفة الأشياء الغيبية التي لا تقع تحت الحواس، والتي يسميها البعض الهية، هذا البعض الذي يتكلم عن الأمور الغيبية وكأنها امور بشر مثلنا مما يسمى المشابهة Anthropomorphisme. اما اذا اُقحم العقل في مجال الغيبيات فيكون العقل قد ارتكب خطأ معرفيا يسمى الالتباس، عندما لا يفرق العقل بين الأمور التي تقع تحت حواسه وبين الأمور الغيبية التي لا تقع تحت حواسه. غير اننا هنا نضيف التباسا آخر يقع فيه العقل عندما يحكم على امور وقيم ومعارف وشرائع قديمة جدا، وربما كانت مناسبة لزمانها ونافعة، ويُعرّف تلك القيم والشرائع والرموز، كما لو كانت تحدث في ايامنا في القرن الحادي والعشرين مثلا، الأمر الذي يسمى مخالفة زمنية Anachronisme. علما بأن لهذا الالتباس خطورة مساوية للالتباس الذي ذكرناه اعلاه. ولهذا نميز هنا بين الايمان والمعتقد، او المعتقدات.
اسس الالتباسات اعلاه: ان اول اساس للالتباس يكمن في جهل الناس ان العالم والحياة في تحرك مستمر، ولا شيء يبقى على حالته حتى ولا دقيقة واحدة. فبنى الانسان التحتية في تطور مستمر وهي ايضا تخضع لتأثير متبادل ودائم بينها وبين البنى العليا او الفوقية. كما يقول لنا الأب تيار ده شاردن Teilhard de Chardinعالم الاحاثة الكبير Paléontologie، لكنني هنا لا ادخل في التفاصيل، فقط يمكنني ان اذكر بفلسفة هيروقليطس الذي قال: علينا ان نُعرف الأشياء وهي تتحرك ولا نجمد او نثبت الأشياء في سبيل معرفتها. علما بأن هيروقليطس معروف خاصة من خلال مقولته الشهيرة التي تؤكد بأن: لا يسبح الانسان في عين ماء النهر مرتين. ماذا يعني هذا الكلام يا ترى وماذا تعني قواعد الأب تيار ده شاردن؟ انها تعني ان اي حدث كان قد حصل في التاريخ لم يعد اليوم كما كان في ذلك الوقت، وذلك بسبب التغيير المادي والحضاري والروحي الذي يطرأ على كل شيء في حياة عالمنا.
هنا احب ان الجأ الى مًثل المطحنة التقليدية الذي خطر على بالي مؤخرا. ففي المطحنة يمكن ان نجد " قايش " او مجرى معدني او خشبي، يؤدي الى فوهة المطحنة. فاذا وضعنا كمية من الحنطة على القايش فان هذه الحنطة تسير كمية بعد كمية على القايش او في المجرى بالتدريج، ويعني هذا انها تتحرك وتسير نحو فوهة المطحنة بسرعة ام ببطء، حتى تقع في فوهة المطحنة، ثم تخرج من الطرف الأخر وقد صارت دقيقا ( طحينا )، مختلفا عن الأصل تماما. كما يتحول السمسم الى راشي او الطحينية ويتحول الزيتون الى زيت الزيتون وهكذا.
ماذا يعني لنا التشبيه اعلاه؟ انه يعني اولا ان عالمنا كله، ولاسيما عالمنا الحياتي وعالمنا الاجتماعي وعالمنا الانساني وعالمنا الروحي وعالمنا الحضاري، وعالمنا السياسي وعالمنا الطبقي، في مسيرة طبيعية نحو حتفه في التغيير. اقول نحو حتفه واعني نحو تغيير لا مفر منه: ولادة وحياة وازدهار، بكل مراحلها او ببعضها، ثم الكهولة والشيخوخة والموت المحتم. اما هذا الموت فلا يعني الفناء الكامل، ولكنه يعني تغيير المادة والحضارة والفكر والتنظيمات بكل اشكالها من حالة الى حالة اخرى جديدة، لا يشترط فيها ان تكون احسن من الحالة الأولى، لكنها على اي حال تختلف اختلافا كبيرا عن حالتها الأولى. فالتغيير امر محتوم يجعلنا امام مجتمع جديد ومختلف عن المجتمع الذي سبقه حياتيا وحضاريا بشكل كامل، الأمر الذي يشكل لنا مادة تاريخية، ومادة للحكم الصحيح على كل القضايا التي يحدث فيها التغيير. هذا مع العلم ان هذا النوع من التغيير، يعني الحتمية بكل معانيها، كما اسلفنا، لكنه يعني التماثل خاصة، حيث يمكننا ان نجد العنصر الدائم الثابت في كل هذه التغييرات، يكون القاعدة التي ترتكز عليها التغييرات. اما حدوث فراغ كامل بين الحالة الأولى والحالة التي تليها فانه لو كان يحصل لكان كل شيء يؤول الى العدم، سواء كان ذلك في المادة البيولوجية او في المادة الاجتماعية او الحضارية وفي الطقوس وفي الرموز وحتى في المقدسات. اما في الحالة الطبيعية مع بقاء مادة اساسية تسند الوجود فان اي تغيير يكون تغييرا تماثليا، اي يكون تغييرا للأشياء من حالة قديمة الى حالة جديد، مع بقاء الأسس المادية ثابتة على حالها. لذلك نقول هنا ان التماثل يعني تشابه في وجه من الأوجه واختلاف في الأوجه الأخرى. اما الالتباس فيحصل عندما نحسب ان الأشياء متطابقة في كل شيء على اساس انها تحمل اسما واحدا. مثلا اسم الأمة الدينية او اسم الشريعة او اسم الاله او اسم الحضارة، فهنا يصح المثل الذي يقول: ما كل مدعبل جوز وما كل ما يلمع ذهب وما كل سلطة كنسية سلطة كنسية حقيقية الخ... اما اذا قال احدهم: ان الانسان هو الانسان وله قدرات انسانية ثابتة لا تتغير، نقول له نعم ان الانسان هو الانسان وله خصائص ثابتة تجعل منها انسانا، ولكن هل يمكننا ان نتعامل مع الانسان الطفل كتعاملنا مع الانسان الكهل، وهل نتعامل مع الانسان الشاب كتعاملنا مع الانسان الشيخ العجوز من نواحي عديدة جسمية وعقلية ومشاعرية. وهل نتعامل مع الأجيال الجديدة كتعاملنا مع الأجيال التي كانت قبلها في مسائل عديدة ايجابية ام سلبية؟ فاذا حسبنا مثلا ان الأجيال الجديدة تخضع لعين معايير الأجيال الأقدم منها نكون قد ارتكبنا ما يسمى الالتباس Ambiguïté، حيث يمكننا احيانا ان نسمي هذا الالتباس مخالفة زمنية Anachronisme اذا كان التباسنا يقع ضمن تجاهل الفرق الزمني بين حالة وحالة اخرى.
الالتباسات في قضايا الموت والشيخوخة: نعم هناك التباسات كثيرة في قضايا الموت والشيخوخة قد يقع فيها الكثيرون، الأمر الذي يجعلهم غائصين في ضحالتهم الفكرية الانسانية والروحية. كما تسد هذه الالتباسات امامهم طريق التقدم الانساني الروحي، فيبقى مثل هؤلاء البشر معتمدين على قوة زمانهم الراهن وشهاداتهم مثلا او المناصب التي يتولونها، ولا يستطيعون ان يفكروا بوجود حياة اعلى واعمق من الحياة التافهة التي يحيونها، والتي غالبا ما لا تتجاوز واجباتهم النفعية المهنية التي يبنون عليها كيانهم كله. اما هؤلاء فغالبا ما لا يفرقون بين الموت البيولوجي والشيخوخة البيولوجية من جهة وبين الحياة الانسانية المليئة بالحاجات العظيمة للبشرية ومنها حاجة الانسان الذي في واقعه الحقيقي يتحول باستمرار من حالة انسانية قديمة الى حالة انسانية جديدة، ومن حاجة مقدسة قديمة الى حاجة مقدسة مواكبة للتغيير الحضاري والانساني الجديدة، يلهمها للانسان مقدسه الواقع في بناه العليا المرتبطة ببناه السفلى ارتباطا لا يمكن فك عراه، حيث يحصل بينهما تأثير متبادل مستمر. لذلك نرى البشر يقعون باستمرار في مطب الالتباس بين انسان يموت موتا بيولوجيا وانسانا آخر يموت وقد خلف وراءه صورته وصورة اعماله المشرقة التي كانت حاجة اهل زمانه عندما كان في الحياة، ثم تستمر وتكون حاجة انسانية مهمة بعد موته. اما في حالة يسوع فانه، كما كان حاجة مقدسة في حياته الأرضية كذلك صار حاجة مطلقة مقدسة بعد موته. ولذلك تكلم الرسل بلغة قيامته من بين الأموات، وكان معناها خلود يسوع بسبب اعماله المقدسة بعد موته شهيدا على الصليب. وكان معناها ايضا انتصار يسوع على سلفية العهد القديم التي اوصلته الى الموت بالصليب والذي صار رمزا لنصر يسوع في كفاحه من اجل تغيير العالم من عالم قديم ثيوقراطي الى عالم جديد ديمقراطي يُقيًم فيه الانسان من خلال انسانيته وليس من خلال اي سبب آخر. لقد كان موت يسوع انتصارا للإنسانية ايضا، على الرغم من ان البشر لا يفهمون هذه المعاني عن الموت بسهولة.
اما على مستوى الفلسفة الشخصانية وعلى مستوى علوم الانسان ايضا، فنقول ان يسوع، مثل كل انسان، مات بيولوجيا موتا كاملا، وبكل معنى الكلمة البيولوجية، ولم يقم من بين الأموات قيامة بيولوجية. غير ان الشيء الوحيد الذي لم يمت فيه، وكما يحصل لجميع البشر، كان صورته كرجل بذل حياته من اجل قضية مقدسة ومهمة للبشر، هي قضية نقل البشرية من عهدها الثيوقراطي الى عهدها الديموقراطي، الذي نوهنا عنه اعلاه. وبما ان هذه الصورة كانت تعكس اهم الأعمال والتضحيات والاتعاب التي عملها يسوع وتحملها من اجل قضيته المقدسة، فان هذه الصورة الفريدة الخاصة بيسوع وحده، سميت " شخص " يسوع " التي لا تعني صورة الفرد الاجتماعية البسيطة. علما ان مريم ام يسوع وسائر الرسل وكثيرا من القديسين والشهداء اصبحوا هم ايضا اشخاصا مقدسين بقداسة تقل قليلا او كثيرا عن قدسية يسوع، وان كان اللاهوتيون يقولون عنهم لاهوتيا انهم اشتركوا في قدسية يسوع، الأمر الذي يجعلنا نقول ان قدسية الأصل شيء والذي حصل على القدسية بالمشاركة بقدسية يسوع شيء آخر. اما نحن الذين لا نحب ان نتكلم عن المشاركة مع الأصل كثيرا، فيمكننا ان نقيم قدسية مريم ام يسوع من خلال قدسية اعمالها عندما كانت عائشة على ارضنا، كما نقيم كلا من الرسل والشهداء والقديسين بحسب اهمية العطاء الذي اعطوه للناس عندما كانوا احياء بيننا. هذا مع العلم ان هذه القاعدة تسري على كل البشر، لأنها قاعدة انسانية انثروبولوجية. الفارق الوحيد والكبير هو فارق الزمن بين كل المذكورين، وفارق عمق الحاجة الأنثروبولوجية والحضارية التي قدمها المومأ اليهم، هذا الفارق المذكور الذي يخصنا جميعا، نحن البشر سواء كنا علمانيين عاديين او كنا من رجال الدين. فالكل يبقى خالدا وخدمة في نفوس الآخرين بمدى وعمق عطائه عندما كان في الحياة بعيدا عن اية اسطورة تخص يسوع وامه ورسله، سواء كان مصدرها كتابا مقدسا او عقيدة من عقائد القرن الرابع الميلادي.
من جهة ثانية: غير اننا وبعد كل ما قلنا عن نماذجنا المقدسين، نرى من جهة ثانية وجود اناس، باباوات وبطاركة وأساقفة وقسس يتميزون بجهلهم للانسان ولا يرقون الى حقيقة الانسان الكاملة كما لا يرقون الى حقيقة يسوع الذي استطاع اللاهوت المعاصر العلمي ان يفك اسره ممن كانوا قد وضعوه في اسر السلفية الفارغة من الروح والمتعجرفة بمناصبها والمتقوية بمن هو اكبر مرتبة منها، هذا اذا لم يكونوا معتمدين على قوة اسيادهم السياسيين، او قوة البؤر الاكليريكية السلفية، مثل سلفية السفارات البابوية في العراق وغير العراق، وقوة السلفيين الذي سبق وتربوا في كلية انتشار الايمان التي بدأنا نسميها كلية قمع الايمان، بعد ان اختبرنا بشكل شخصي جميع خريجي الكلية المذكورة من القدماء والجدد. حيث كان القدماء قد تبوؤوا جميع المناصب العليا في الكنيسة، لأنهم كانوا، وكما يقال: مثل الأعور في مملكة العميان.
فالرؤساء وغالبيتهم كانوا خريجي كلية انتشار الايمان السلفية كانوا باستمرار يعيشون التباسا فضيعا يقول: انهم امراء الكنيسة الذين جاءوا بأوامر كنسية شرعية والهية، الأمر الذي جعلهم لا يميزون بين المسألة اللاهوتية والمسألة العلمية من جهة، وبين المسألة الايمانية من جهة اخرى، وحسبوا ان اساطيرهم ايمان مسيحي حقيقي مصدره الله نفسه، وظنوا بجهالة منقطعة النظير ان كل قراراتهم الهية ومعصومة من الخطأ، حتى لو كانت تلك القرارات بمنتهى الخبث والتآمر وعدم الشعور بالمسؤولية وكانت ضد المحبة والعدل، او كانت في بعض الأحيان جريمة لا تغتفر، كما حصل مع البطريرك روفائيل بيداويذ الذي الغى بقرار تعسفي وغير معقول Absurde مؤتمره البطريركي والذي تعب عليه قسس كنيستنا الكلدانية لمدة سنتين في تحضيره وتعب الجميع لمدة ثلاثة ايام المؤتمر الأخيرة تعبا شديدا وكان المؤتمر قد وصل مرحلته الأخيرة، حيث كان الأب المرحوم، والذي كان لولب المؤتمر كله، مكلفا بجمع جميع مقترحات اللجان كلها في ورقة واحدة ترفع للجنة خاصة او ما شابه ذلك ( لا اتذكر )، واذا بفرمان بطريركي يهبط على الجميع كالصاعقة، لأن هذا الفرمان الدكتاتوري ال لا اخلاقي كان يقول، ان الأب يوسف حبي، لم يعد مسؤولا عن جمع محصلة اوراق اللجان، وان البطريركية سترسل لكم المقررات لاحقا. وهكذا كان قد صح تهديد المطران عمانوئيل دلي المعاون البطريركي الذي كان قد اسر الى جماعته بقوله: خليهم يعملون ما يشاؤون ونحن سنعمل ما نشاء.
فنعم عمل المطران المذكور وبطريركه وربما معهم السفارة البابوية ما شاءوا حين ارسلوا الى الكنائس مقررات منقولة - نسخ لصق – من كراسة قديمة غير مطبوعة كانت من تأليف المطران دلي، ثم كذبوا كذبتهم الأخيرة بقولهم: نرسل اليكم مقررات المؤتمر البطريركي، هذه الكذبة التي لم يصدقها احد ولم تنل غير الاحتقار والرفض. اما " الهيصة " او الضجة الفارغة التي عملها البطريرك المذكور بإعلانه عن مشروع الوحدة بين الكنيسة الكلدانية والكنائس النسطورية، فلم يكن هذا المشروع الذي كلف الكنيسة الكلدانية مجهودا ومالا كثيرين فقط، كمشروع المؤتمر البطريركي، لكنه لم يكن اقل تعسفا وتضليلا من مشروع المؤتمر البطريركي. ولم يكن اقل فشلا منه، لأن ذلك المشروع لم يكن مبنيا على نيات مسيحية صافية من قبل الطرفين.
هذا، وعلى الرغم من كل الأمور التعسفية غير المقبولة التي حدثت من قبل رؤساء الكنيسة الكبار والصغار، وحتى من الأتباع من بعض القسس والخوارنة التافهين، استمر رؤساء الكنيسة في حماقاتهم ومحاربتهم الأفكار العلمية النيرة عند بعض القسس، بكل الوسائل، حتى لو كانت غير اخلاقية وغير مسيحية، لأنهم كانوا يعتقدون واهمين، او كاذبين، ان اساطيرهم هي من صلب الايمان المسيحي، وانه من حقهم ان يحاربوا من يتجاسر وينفي معتقداتهم الأسطورية الخرافية، كما حصل خاصة مع القس لوسيان جميل الذي تمت محاربته بوحشية وضراوة بوسائل غير مسيحية وغير نظيفة، بخلاف المنطق العلمي وبخلاف شريعة المحبة والعدل، هذا، مع العلم ان جميع اللذين كانوا يستخدمون سلطتهم الكاذبة ويحاربونني كانوا خريجي كلية انتشار الايمان المشبوهة، وكانوا جميعهم يتباهون بشهاداتهم التي كانوا يحصلون عليها من تلك الكلية او من اشباهها، اللهم الا من واصل دراساته بشكل شخصي، كالأب المرحوم يوسف حبي.
التباسات في مسألة الشيخوخة والموت: اعزائي! ان هذين الالتباسين هما اخطر الالتباسات، فمن المعلوم ان الانسان يصل مرحلة الكهولة ثم الشيخوخة الحياتية الجسدية Biologique، لأن الشيخوخة، مثل الموت هي سنة الحياة. هذا، وعادة ما يحدث للانسان ان ينعزل عن العالم وعن كثير من الفعاليات التي كان يعملها سابقا، مع تأكيدنا ان شيخوخة البشر العمرية متفاوتة من حيث الزمن الذي يصبح فيه الشيخ انسانا عاطلا. علما بأن هذه الشيخوخة امر طبيعي لا مثلبة فيه. ولذلك يقال للرجل المسن غالبا انتبه الى نفسك لأنك لم تعد تستطيع ان تتصرف جسديا كما كنت تفعل في ايام زمان، كما ان اجيال الكهول والشباب يمكن ان يقولوا للرجل المسن: انك يا جدو لم تعد تستطيع ان تفكر مثلنا وتنتج مثلنا لأنك اصبحت عاطلا من حيث ذاكرتك وصحة جسدك ايضا. فاين يقع الالتباس في هذه الحالة؟ ان الالتباس يمكن ان يقع عندما يأتي مغرض خبيث ويخلط ولا يميز بين شيخوخة وشيخوخة ولا يميز بين شيخ وشيخ.
اما هذا الالتباس فلا اكتب عنه لأسباب نظرية، ولا اكتبه انتقاما من احد، لكني اكتبه كعمل تنويري وتلافيا لهرطقة سوداء تقودها اياد خفية بالرموت كونترول، بغاية شيطنة انسان لم يستطيعوا ان ينالوا منه بكل الوسائل السياسية. فهذا العميل، خريج كلية قمع الايمان، وفي احدى المناسبات التي كان يحضرها جمع غفير في فناء كنيسة مارايث آلاها، وبينما كنت صاعدا على المنصة لأسلم الجوائز لبعض الخريجين، انتهزتُ الفرصة لأقول باننا نحن ايضا كانت عندنا دورة لاهوتية في ابرشية الموصل وكنا نعطي فيها دروسا منتظمة في الفلسفة واللاهوت وفي علوم اخرى كثيرة، واذا بصوت نشاز يقول: انتم فات زمانكم! قال ذلك وهرب فورا من المكان الذي كان جالسا فيه، ربما بعد ان رد عليه احد الآباء بقوله: وانتم ماذا عملتم حتى الآن، يعني في زمانكم الراهن الذي تتباهى به؟ اما في الحقيقة فانه واغلب اصحابه لم يعملوا شيئا غير السياسة والثرثرة والسعي نحو المنافع السياسية.
فالالتباس اذن يقع في هذه الحالة عندما يقال لرجل مسن كحالاتي وحالة غيري الصحية المتردية، بأن زمانكم قد فات. فنعم انا لم اعد استطيع ان اصعد الى دير ربان هرمز مثلا او الى دير شيخ متي، كما كنت اعمل سابقا عندما كنت ارافق اخوية من الأخويات او ندوة من الندوات الكنسية، ولا استطع بعد ان اسير مع اصدقائي ومع اخوتي من القسس والعلمانيين لأية مسافة كانت كما كنت اعمل سابقا، غير اني اعرف ان الحياة ليست كلها في قوة الجسد، لكنها في قوة الروح ايضا ومتطلبات اعماله. فانا، مثل كثيرين غيري من اجيالنا التي يقول عنها العميل المذكور ان زماننا قد انتهى، لا زلنا ننتج اعمالا قيمة وغير مطروقة لا يستطيع ان يأتي جيل التفاهة هذا ان ينتج ورقة واحدة مثلها، لأن ما نعمله من اعمال فكرية حياتية يشهد بعمقها ومنطقها ودقتها الغريب والصديق. اما مثل هذه الأعمال المذكورة فلا يستطيع ان يعملها الا من تمرس طويلا بالعمل الفكري وممارسة الكتابات الجريئة، ومن واكب المستجدات العالمية. هذا، وبما ان البادي اظلم دائما، اقول بملء، فمي: اتحداك ايها العميل واتحدى كل امثالك من خريجي كلية قمع الايمان، لا بل من اية كلية اخرى، ان تكتب مقالة واحدة كالمقالات التي يكتبها القس لوسيان جميل، الذي قلت عنه ان زمانه قد انتهى. غير ان هذا العميل الوقح لم ينتبه الى قوله الذي يعني ان الزمن اليوم هو زمن العملاء والتافهين والكلاوجية والانتهازيين ومن يستبيحون لأنفسهم اية وسيلة كانت من اجل غايات اكثر دناءة من الوسيلة السيئة، ومن يعد الخيانة عملا وطنيا ويعد الربح الحرام شطارة ويعد الممتنع عن الربح والمعتمد على المبادئ النبيلة غباء ولا واقعية.
فهل تعرف جنابك ايها العميل ان القس لوسيان، وهو في دهوك مع المهجرين قسرا، قد اكمل كتابين: الأول هو بعنوان: كيف نتكلم عن الانسان اليوم- منهجية وتطبيق خارج الأسوار. وكتاب آخر بعنوان قواعد انثروبولوجية لظهور الروح وحركته وارتقائه، فضلا عن نصف كتاب او اكثر بعنوان: اوراق فكرية وفلسفية ولاهوتية منثورة، هذا الكتاب الذي اجلت تكميله بعد ان ظهر امامي واجب آخر مهم جدا وهو كتابة مقالات علمية حول جميع اوضاع كنيستنا الكلداني وكنيسة المشرق ومشاكلها مع السلفية الكنسية بأشكالها ومع القومجية المعتدين على كنيستنا تسندهم القوى الأجنبية، ولاسيما قوى الاحتلال. اما مجمل هذه المقالات الكنسية فقد يبلغ الثلاثين مقالة. اما قبل الهجرة فقد كنت قد الفت كتابين الواحد كان عنوانه منهجية لاهوتية انثروبولوجية خارج الأسوار 192 ص والكتاب الآخر كان عنوانه: كيف نتكلم عن الله اليوم وكان كتابا ضخما بلغ عدد صفحاته 548 ص، هذا فضلا عن حوالي 80 مقالا كتبتها على موقع كتاب عراقيون من اجل الحرية. فهل تجاسر يوما معلموكم في كلية تحريف وقمع الايمان ان ينتقدوا مثلا اساطير القرن الرابع الميلادي؟ ولكن القس لوسيان عملها... ولن يستطيع احد ايقاف او دحر فكره اليوم، مثلما لم يستطع بالأمس اربعة بطاركة وعدة اساقفة ان يوقفوا عمله التنويري، لآن القس لوسيان كان على حق، والحق يعلو ولا يعلى عليه سواء كان ذلك في زمن الشباب او كان ذلك في زمن الشيخوخة الحياتية Biologique، التي تحولت عند القس لوسيان الى شيخوخة روحية مشبعة بتجارب اكثر من خمسين سنة من العمل الدؤوب. فهلا كففتهم ايها المنافقون العملاء عن لغة الالتباس والتضليل وعدم التمييز المتعمد بين شيخوخة وشيخوخة؟ من اجل خدمة اسيادكم؟!
ثم نسأل هل فات زمننا، نحن القدماء حقا، كما قال هذا التافه؟ نحن نقول: وكيف يفوت او يمضي زمننا ونحن في داخله لم نغادره بعد، اما اذا تجاوزناه فلن يكون تجاوزنا رجوعا الى الوراء كما حدث للعملاء بل ممكن ان يكون محاولة للتقدم خطوة او خطوات الى الأمام في مجالات الحضارة الانسانية ومتطلباتها الايمانية. فالخط الزمني الحضاري التاريخي بالحقيقة يسير الى الأمام باستمرار ولا يعود الى الخلف الا في زمن النكسات غير الطبيعية الاجرامية، كما حدث في العراق وفي غير العراق. وفي الحقيقة يمكننا ان نسأل ونقول: ترى ما هو الزمن ( الزمان )؟ ونجيب الزمن الذي نتكلم عنه الان غير موجود، ان الزمن هو نحن، ونحن هم الزمن، سواء قلنا نحن كجماعة متماثلة في زمنها، او حتى كأفراد، لأن علوم الانسان تقول بأنه لكل انسان زمنه، لأن كل انسان كائن فريد لا يضاهيه كائن آخر في العالم كله، الأمر الذي يجعلنا نؤمن بالخطوط الزمنية المتوازية التي تقول: لكل انسان زمنه، ولكل انسان حضارته، كما لكل انسان رموزه ومقدساته ايضا. فمثل هذه الأمور " الشخصانية " التي تقع في مجال بنى الانسان العليا، تبقى خاصة بأصحابها، لكن هناك قاعدة انسانية اخرى تقول: ليس الانسان جزيرة معزولة، وانما هو آنية مستطرقة منفتحة بعضها على بعض، حيث يبقى السائل الذي في تلك الآنية كلها على مستوى واحد. وتبقى سعة كل اناء خاصة بذلك الاناء, اما هذه القاعدة فهي التي تعمل جسرا ممكن ان يربط انسانا بإنسان آخر وحضارة بحضارة اخرى ومقدسا مع مقدسات اخرى، ومجتمعا مع مجتمعات اخرى وجيلا مع اجيال اخرى. لكي يصير ما عند الواحد تراثا مشتركا بين كل البشر، او على الأقل البشر التواقين الى الحقيقة والخير والجمال.
هذا، وكما ان الطيور تقع على اشكالها، كما يقول المثل، فان الناس ايضا تقد على اشكالها، اي ان الناس تلتقي مع من يماثلها، ويكونون معا شبه قواعد عامة يمكن ان تصلح لأناس كثيرين. على الرغم من ان الرواد يبقون روادا والآخرون يبقون مشاركين فيما اكتشفه وعاشه الرواد. ولا احد يستطيع ان يثنيهم عن خياراتهم المقدسة.
ولكن بمقابل ذلك نجد السلفيين التقليديين الذين يسبحون في المياه الراكدة الضحلة والفاسدة يبقون عاصين على التغيير متشبثين بذرائع كثيرة. لا بل يبقون اناسا يجاهدون في سبيل سلفيتهم البغيضة ضد الحق باسم اسطورة يسمونها الايمان، في حين انهم لا يستميتون الا في سبيل امتيازاتهم ومصالهم، كما ان البعض لا يبكي على الحسين ( رضي الله عنه ) بل يبكي على الهريسة، كما يقول مثل شائع.
اما في الحقيقة فان سلفيونا بكل فئاتهم، ونتكلم هنا عن السلفيين المسيحيين خاصة، لا يبكون على الايمان الأسطوري الذي اتاهم من مجامع القرن الرابع الميلادي، ولا على ايمان وطقوس كنيستنا المشرقية، ولا حتى على قومياتهم التي انقرضت بعامل طاحونة الزمن، التي سبق ان تكلمنا عنها، لكنهم يبكون ويذرفون دموع التماسيح من اجل مكافأة اكبر كان قد وعدهم بها المعتدون على العراق، عندما طلب من احزابهم المختلفة بأن يتخذوا لهم اسما قوميا من القوميات البائدة ولا يبقون على الاسم المسيحي لكي يقبلهم المحتل في ملكوته، حتى قبل الاحتلال بزمن قصير، ولكي يساعدهم في طموحاتهم القومية والشخصية تلك، كما تفعل المافيات مع انصارها. ترى اليس من الغريب جدا ان نرى اكواما من العشب الرديء ينمو في زمن قصير جدا في عراقنا من دون احم ولا دستور، ومن دون وجود نزعات قومية عند اغلب العملاء المسيحيين الذين تعرفنا عليهم بسهولة لكثرة صخبهم؟ احد المراهقين كان قد جاء لكي يبشرني بما سيحدث. قلت له: ولكن الا تخافون ان يحدث لكم ما حدث للآشوريين الكذابين في قرية سميل؟ قال لي هذه المرة ليست مثل تلك. ولكن الم يحدث للمسيحيين اسوا مما حدث فيما سمي مجزرة سميل؟ ولكن مع الأسف هذه المرة ذهب الأخضر بسعر اليابس!! طبعا العملاء لا يريدون ان يصدقوا ان السيد اوباما والسيد المالكي هم الذين ادخلوا داعش الى الموصل.
ولنعد الى مسألة الزمن وفي آذاننا صوت منكر يقول لنا: انتم لقد فات زمنكم او انقضى زمنكم. ثم اجبنا ان زمننا معنا وهو خاصتنا، ولذلك لا يمكنه ان يتخلى عنا او نتخلى عنه. اما زمن العملاء المصطنع وفي حالتنا الراهنة في العراق، ولاسيما منذ ما بعد 2003 يكون الالتحاق بالتغييرات الحضارية الشاذة والمتعسفة التحاقا في منتهى الاسفاف والنذالة والخسة، وليس شيئا ايجابيا كما يريد الشخص الضحل الذي تكلمت عنه والذي قال عنا ان زماننا قد فات او مضى. فما حصل جراء الاحتلال لم يكن شيئا حضاريا تاريخيا ايجابيا لكي نقول بأننا فات زمننا وجاء زمن غيرنا. لكن زمن العملاء الذي تبجح به ذلك الغبي كان بالضد من التاريخ تماما، مما اخرج العملاء خارج التاريخ ايضا. وماذا نقول؟ !" خفاشي تضحك عل لكلك !! ( يعني خفاشا تضحك على اللقلق ). واذن فان من يعيرنا بأننا مضى زماننا او فات زمننا، انما يكذب على نفسه ويستغل التباس كلمة الزمن ليقول ما يقوله. اما الصحيح فما اعْتبره خريج كلية تحريف الايمان مثلبة على من بقي ثابتا في زمانه الحقيقي الطبيعي، هو الذي سيمضي زمنه، وهو بعد في ريعان الشباب ربما. فمثل هؤلاء سيجدون زمنهم، وبعد ان كانوا يظنون انهم اطبقوا عليه من كل جانب في زمن العهر، سيجدون زمانهم وقد تبخر من يدهم بيوم واحد او بعد ساعات قليلة من التغيير الحقيقي القادم، او من بداياته. وسيحدث لهم كما حدث لعظماء العالم والمعتدين عليه بعد ان تفشى في بلدانهم، كما في اغلب البلدان وباء كورونا. هذا، وان ادعياء الحضارة الجديدة والزمن الجديد والعراق الجديد سيرون: اذا انجلى الغبار افرس تحتهم ام حمار. فهؤلاء جميعا كانوا بالحقيقة قد دخلوا بالوهم الى زمن " كاذب " وحضارة كاذبة وانظمة كاذبة ومتعسفة. وسيحدث لهم ما حدث لسلاطين العالم بعد مهاجمة الكورونا معاقل سطوتهم. هذا في حين ان القس لوسيان جميل، وسائر من يماثلونه، قد بقوا صامدين في زمانهم الممتلئ من المبادئ الانسانية والمسيحية على حد سواء، حيث لا يستطيع كورونا ان يتسيد على زمانهم ولا اساطين هذا الزمان ولا عملاؤهم الذين اعتقدوا واوهموا الاخرين بــأن هذا الزمان هو حليف الانسان الذي يعرف ان يكذب ويغش ويتملق ويفرش الاكتاف ويعرف كيف يستفيد من زمانه، في حين يقولون عن الآخرين المثاليين بأن زمانهم المستقيم والمبدئي قد ولى، واصبحوا متخلفين عن زمانهم. اما القس لوسيان، فلا زال يطلب من الكنيسة ان تقود العالم ولا تقبل ان تتحول الى عربة خلفية يجرها العالم الشرير وراءه، هذا في حين ان القس لوسيان جميل ليس سوى ابن زمانه الحقيقي غير المزور، هذا الزمان الذي يمكن ان يتطور ويسير الى الأمام من حيث الحضارة والمقدسات والرموز ولن يعود مع زمن التافهين الى الوراء.
القس لوسيان ورفاقه والموت: اما الموت فيحمل التباسا آخر، حيث يحدث الالتباس بين الموت الجسدي البيولوجي والموت الروحي، اذ بين الموت الجسدي والموت الروحي هناك مجال لالتباس فضيع ينم عن ضحالة فكرية وروحية. ففي الحقيقة لا يوجد تفاوت بيولوجي بين موت وموت، ولا يوجد اختلاف. اما النظرة الأنثروبولوجية الى الموت فتقول: هناك فرق كبير بين الموت الطبيعي البيولوجي وبين الموت بمعنى الانتهاء الكامل والمطلق للانسان، لأن الانسان عندما يموت فان كل شيء فيه يموت موتا طبيعيا عاديا ولا عودة بيولوجية له الى الحياة البيولوجية، كائنا من كان، كما يقول الواقع البديهي، لكن ما لا يعرفه اغلب الناس هو ان كل انسان تتكون له صورة جوهرية واساسية وغير تفصيلية، وهو بعد على قيد الحياة الطبيعية، فيقال مثلا ان فلان هو انسان طيب او عادل او محب او مضحي او شجاع عند اخذ قراراته، وغير ذلك من الصفات. او ان فلان يجمع كثيرا من الصفات المذكورة. علما ان هذه الصورة تسمى " الشخص " في الفلسفة الشخصانية حيث تعبر الصورة بوضوح عن فلان. وكلمة شخص تأتي من ثنائية " خص " ويضاف حرف " ش " لتعني بالنهاية شَخصَ فلان بصورته امام نفسه وامام الآخرين، اي عرف فلان حقيقة نفسه تماما وعرفه الأخرون تماما. اما بعد الموت البيولوجي فان هذه الصورة " الشخصية " التعريفية تبقى لزمن محدد ملتصقة بالمتوفى، بحسب عطائه وميزاته الجوهرية وقوتها وعمقها، وحاجة الناس اليها. واذن بالموت البيولوجي لا ينتهي الانسان بشكل كامل ومطلق. فالانسان، وهو في حياته البيولوجية وظيفة وخدمة في حياة الآخرين، لآن الانسان ليس جزيرة معزولة وانما هو " اواني مستطرقة " منفتحة واحدة على الأخرى ويتبادلان التأثير. غير ان حالة التأثير وحالة الوظيفة او الخدمة تبقى قائمة ومستمرة بنوع جديد بعد الموت البيولوجي. لذلك نجد كل انسان له عمق معين يسعى لأن يصل الى هذه الدعوة الانسانية، حيث يريد كل انسان ان تبقى صورته الطيبة بعد وفاته البيولوجية بين احبائه واكثر ما يمكن من الناس الآخرين، وربما، لهذا السبب ايضا، وفضلا عن الكتابة والتأليف بأشكاله المختلفة الذي يأتي بشكل عفوي وغير مقصود غالبا، نرى آخرين يلجؤون الى تدوين سيرهم الذاتية كما حدث مع القديسة ترازيا الصغيرة، على طلب اختها ورئيستها الراهبة الكرملية. هذا، مع العلم ان الخدمة الأنثروبولوجية لا تحدث خوفا من جهنم ولا طمعا في الملكوت، وانما خضوعا لطبيعة انسانية انثروبولوجية شبه غريزية، وليس من اجل تفاخر العائلة بصورة الشخص المستقبلية بعد وفاته، علما ان هذه النزعة الأنثروبولوجية شبه الغريزية تقع في البنى الفوقية Supers structures لكل انسان، لكن هذه الغريزة ليست بعين القوة عند جميع البشر. وعليه نقول: اذا كانت هذه طبيعة الانسان الانسانية، فهل يحق للناس الضحلين والتافهين ان يقولوا لمن يعرفون حقيقة انفسهم وحقيقة طبيعتهم ويسيروا بحسب اعلى قواعد هذه الطبيعة، هل يحق لهم ان يقولوا لهم: لقد مضى انتم زمنكم، لمجرد انهم لا يريدون ان يشاركوا حياة هؤلاء التافهين الذين يجهلون طبيعة الانسان ويخلطوا حتى درجة الالتباس والتقزز بين موت التافهين وموت المؤمنين بالإنسان وبطبيعته التي تجعل من كل انسان حلقة وصل بينه وبين الجيل الذي يأتي بعده ويكمل المشوار الانساني، ولا يقضي حياته بالانتهازية والغش والحياة البراغماتية والميكيافلية وبخيانة المبادئ الانسانية من اجل مصلحة تافهة؟
القس لوسيان جميل
29 – 4 - 2