الزيارة كانت عابرة للمنيا، فى زمن حلت فيه الأوقات وطابت. لم يكن يشغل البال شئ، ولم يكن يعطل الشعور بعمق الأشياء أحد. بعد لقاءات وزيارات سيطر عليها إحساس التحرك بحرية دون تقاطعات مع ما يفسد الحياة أو ينزع عنها بهجتها، وجدت نفسى وجها لوجه أمام العذراء مريم فى كنيستها بجبل الطير. الصعود إلى الكنيسة كان له معناه الخاص، فالروح ترتقى، وكأننى أدركت أنه بغير هذا الارتقاء لا تستحق أن تدخل ساحة السيدة الطاهرة. هل يمكننا أن نعتبر الصعود أحد قوانين السيدة العذراء؟ يمكن أن تعتبر الأمر كذلك بالطبع. المفاجأة أن حالة الصعود الروحى التى سبقت الوقوف على بابها، انتهت بصدمة كبيرة، سببها هؤلاء الذين يحتلون الطريق إليها، فقد حولوا الساحة إلى سوق. المدخل إلى الكنيسة كان عاديا جدا. هل يمكن أن يغضبها قولى أنه كان مدخلا لا يليق أبدا بجلالها وقداستها؟ من حقها أن تغضب بالطبع. لم يكن حول كنيستها أى مظهر من المظاهر الروحية التى يرتبط بها اسمها، مواطنون يجمع بينهم البؤس فى رحلة البحث عن لقمة عيش ولا أكثر من ذلك. ومواطنون أكثر بؤسا جاءوا فى الغالب بحثا عن فاصل يركنون إليه من حياتهم المتعبة. أخلاق الموالد فى مصر ليس راقية بأى شكل من الأشكال، كل من يدخلونها لا يعرف بعضهم البعض، ولذلك تكون القاعدة الكبرى أن كل منهم يريد أن ينتفع بأى شئ وكل شئ من الآخرين الذين يمثلون بالنسبة له مجهولا تماما، والمجهول مستباح كله، يشق العابرون جيبه حتى يحصلوا منه على ما يريدون. فى الموالد لا صلة ولا رحم، ثم أن الوجوه جميعها تتشابه، لا ميزة لأحد ولا فضل. سألت نفسى عن زوار السيدة العذراء، هؤلاء الذين يقصدون وجهها ليس فى مولدها بجبل الطير فقط، ولكن فى موالدها الكثيرة والممتدة على طول مصر وعرضها، هل تثنى لأحد منهم أن يعرفها كما ينبغى، وزاد منى السؤال شططا، وهل يعرفونها من الأساس. المعرفة فى حقيقتها نوعان. الأول أن يعرفك أحدهم كما أنت. والثانى أن يعرفك أحدهم كما يريد هو أن يعرفك. فى النوع الأول صعوبة كبيرة، فأن يعرفك أحدهم كما أنت لابد له أن يبحث عن حقيقتك، ولأن الحقيقة محجوبة حتى عن أصحابها، فالجميع يركنون إلى معرفة حقيقتك كما يريدون، لأنهم لا يتحملون وقتها أى عناء، فأن يرسموا صورتك كما يتخيلون أو ما يريدون أمر هين تماما. كل من يرحلون للوقوف على باب العذراء فى الغالب يحملون معهم صورتها التى رسموها لهم، بصرف النظر عن حقيقتها التى نسجتها الأحزان والآلآم والتضحيات. ولو وضعت هؤلاء جميعا جانبا، فستجد حشدا ما خرج أصحابه إلا من أجل مكاسبهم حتى لو كانت زهيدة، هؤلاء يتعاملون مع الموالد جميعا حتى تلك التى تقام فى محيط كنائس العذراء على أنها مجرد سبوبة، وعليه فليس مهما أن يعرفوا شيئا عن السيدة التى أصبحت ضمن أشياء كثيرة فى حياتنا مجرد سبوبة نتكسب منها، دون أن نلتفت لأهميتها أو قدرها أو ما تمثله فى حياتنا. السيدة العذراء فى موالدها وعند الغالبية العظمى ليست أكثر من باب رزق. حقيقة لا يمكن تجاهلها أو التهوين منها، وهو الأمر الذى يتكرر مع موالد السيدة زينب والسيدة نفيسة ومولانا الحسين. تنظر فى وجوه من يقصدونهم فلن تجد فى ملامحهم إلا محاولة الحصول على أكبر قدر من المكاسب. لا يشغلهم أمر أصحاب العتبات المقدسة ولا ما يمثلونه فى وجدان الناس. هل أشفقت على رواد مولد العذراء مريم بجبل الطير وقتها؟ أعتقد أننى لم أفعل ذلك، ولن أفعله أبدا، لسبب بسيط أننا جميعا مجرد أوراق فى لعبة كبيرة، وكل منا يؤدى دوره دون زيادة أو نقصان، ولذلك لا يشغلنى ما يفعله البشر كثيرا، لأنهم فى الغالب ليسوا مسئولين عما يفعلونه. إنهم ينتظرون منها المدد لأن هناك من قال لهم أنها قادرة عليه. التفوا حول كنائسها لأنهم رأوا أنها مصدر كبير من مصادر رزقهم. أما كيف حدث هذا ولماذا، فهذا أمر فى الغالب لا يخصهم، لأنه لن يؤثر فى قليل أو كثير فيما يتعلق بمكاسبهم. وضعت كل ذلك خلف ظهرى ودخلت إلى الكنيسة، كانت السنوات آمنة، ولم يكن أحد يسألك قبل أن تدخل إلى الكنائس من أنت وما دينك ولماذا أتيت إلى هنا، ولم يكن يعترض طريقك أحدهم لينظر هل على يدك صليب ليتعرف على هويتك. كان الجميع فى حب العذراء مصريون، يقصدونها دون أن يحول بينهم وبين ذلك شئ أو أحد. الآن تبدلت الأحوال كثيرا، لم تعد الطرق آمنة ولا قلوب الناس أيضا، ولذلك أصبح مطلوبا منك أن تفصح عن هويتك ونيتك وما فى عقلك وقلبك قبل أن تدخل أى كنيسة، وقاتل الله الإرهاب الذى جعل الخوف رفيقنا لا يفارقنا حتى ونحن فى بيوت الله التى من المفروض أنها فى حمايته ورعايته، يدخلها عياله قاصدين وجهه دون أن يحول بينهم وبينه أحد ولا شئ، لكنها الأقدار التى جعلتنا جميها أسرى نلهث خلف إشارة تؤمننا أو كلمة تطمئننا. تجولت فى الكنيسة، لفت انتباهى من يقفون ويرفعون أيديهم ويهمهمون بأشياء غير مفهومة لكن لها دلالتها التى لا تخفى على أحد. أصواتهم لم تكن واضحة، وفى لحظة اكتشفت أننى المسلم الوحيد فيمن يرفعون أيديهم، كل واحد منهم يعرف ما يقول، هذا مؤكد، أما أنا فماذا أقول؟ هل أتوجه إلى الله بالدعاء ليرحم السيدة مريم العذراء؟ إنها فى النهاية إنسانة عاشت فى زمن ما، وماتت، أيا انت الطريقة التى صعدت بها إلى السماء، ولأنها كذلك فالرحمة تجوز عليها. لكن هل يليق أن أطلب الرحمة لمن هى عند المسيحيين أم الرب وعند المسلمين سيدة نساء العالمين التى اصطفاها الله وطهرها على نساء العالمين؟ ما الذى يمكننى أن أضيفه لها؟ وهل هى فى حاجة لمن يطلب الرحمة، وكل من حولى مؤكد أنهم يرفعون أيديهم فى رحابهم لتتشفع لهم عند الله طالبة هى الرحمة لهم مما يعانون ويقاسون فى حياتهم التى أرهقتهم بأكثر مما يتحملون؟ هل أتوجه لها هى بالدعاء طالبا وراجيا وخاشعا ومتبتلا مثلما يفعل من يقفون بجوارى وبعضهم يبكى؟ لم أتعود على ذلك، فالعذراء بالنسبة لى بشر، لها مكانها ومكانتها ليس عند الناس فقط ولكن عند الله أيضا. قلت لنفسى وأنا أقف فى محرابها وجها لوجه أمام كل ما تمثله: لو كانت السيدة مريم العذراء قادرة على فعل شئ لأحد