ردّ على مؤلف كتاب “العهد الجديد، منشأه، تكوينه، تطوره” المسيء للانجيل
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
دكتوراه في آباء الكنيسة، دكتوراه في تاريخ العراق القديم، ماجستير في الفقه الاسلامي
من المؤسف أن يخرج بين الفينة والفينة أحد الاشخاص الذين يفتقرون الى المنهجية العلمية، بمقال أو كتابٍ او تصريحٍ، فيه إساءة واضحة للديانة المسيحية ورموزها، خصوصاً ان الكل يشعر في العراق بأهمية تعزيز العيش المشترك، واحترام خصوصيّة كل دين، والمحافظة على حُرمة أصحابه، وضمان حقّهم في التعبير المشروع عنه، تماماً كما أكد البابا فرنسيس خلال زيارته للعراق 5-8 آذار 2021: “أننا إخوة متنوعون ومتحدون، علينا ان نحترم بعضنا البعض بمحبة”.
من بين هذه المنشورات المثيرة كتاب لريبر محمد خليل بعنوان: العهد الجديد، منشأه، تكوينه، تطوره عن مكتبة التفسير للطباعة والنشر في مدينة اربيل.
السيد ريبر ليس متخصصاً في علم الاديان، ولا متعمقاً في علم الكتاب المقدس. يبدو أن قصده هو الاساءة الى الديانة المسيحية، لكن هيهات، فالمسيحية اكبر من تسقيطاته الرخيصة. أتمنى من وزارة الاوقاف الموقرة في الاقليم منع كذا كتابات عقيمة تفكك اللحمة المجتمعية.
الكتاب المقدس/ الاناجيل
الأناجيل التي يذكرها السيد ريبر موجودة قبل ظهور الاسلام بستمائة سنة. وهي متداولة في جميع الكنائس المسيحية. الكتاب المقدس واسع الانتشار وقد تُرجم الى اكثر من ألفي لغة ولهجة. يعدّه المسيحيون كتاباً مقدساً اذ يسلمون بأصله الالهي، ويؤمنون بان الله قد الهمه ويضمن سلامته من التحريف. جاء في الرسالة الثانية لبطرس: “ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على ان يتكلموا من قبل الله” (1/21)، كذلك الرسالة الثانية الى تيموثاوس: “فكُلُّ ما كُتِبَ هو مِن وَحيِ الله، يُفيدُ في التَّعليمِ والتَّفنْيدِ والتَّقْويمِ والتَّأديبِ في البِرّ” (3/16-17). وبكونه ملهَماً من الروح القدس، فله القوة في التعليم والتقويم والتنشئة، ويلعب دوراً أساسياً في حياة الكنيسة.
أنجيل بر نابا
كتاب منحولٌ (أي مُحَرَّف) لا تعترف به المسيحية وليس له ذكر في المخطوطات التي قبل الإسلام. فيه أخطاء تاريخية وعقائدية ظاهرة لا يقبلها المسيحيون ولا المسلمون. الّفه راهب اسباني من القرن الخامس عشر اسمه ماريو إعتنق الاسلام.
شواهد من القرآن الكريم على صحة الانجيل الطاهر
لقد وردت في القرآن كلمة الإنجيل عدة مرات، ويقرّه كتاباً مقدساً مع التوراة والزبور (المزامير) وهذه بعض آيات صريحة تثبت ذلك:
“وليحكم أهل الإنجيل بما انزل الله فيه ومن لم يحكم بما انزل الله فاؤلئك هم الفاسقون” (المائدة 47)؛ “قولوا آمنا بالذي انزل إلينا واليكم. وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون” (العنكبوت 45)؛ “انزل التوراة والإنجيل من قبلُ هدىً للناس” (آل عمران 2، 3)؛ “وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ” (المائدة 46)؛ “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” (الأنعام 20)؛ “وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُون” (النحل 43)؛ “فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ” (يونس 94).
فإذا ارتاب أحدٌ من صحة ما يذكر به ليسأل أهل الكتاب “لستم على شيء حتى تقيّموا التوراة والإنجيل وما انزل إليكم” (المائدة 68)؛ “والذين أتيناهم الكتاب يعلمون انه منزل من ربك بالحق” (الإنعام 114). فان كانت محرَّفة كيف يسألونهم؟
فالقول بان الإنجيل الذي في حوزتنا محرّف غير وارد أبداً. ففي زمن القرآن كما هي الحال اليوم، اننا نستعمل نفس الإنجيل، بدليل إن المخطوطات القديمة (ومنها ما يعود إلى القرن الثاني الميلادي إلى جانب مخطوطات كاملة من القرن الثالث والرابع) تطابق النص الحالي. ولا مجال للتشكيك في صحة الإنجيل وتاريخيته، وهو من أكثر الكتب التي انكبَّ عليها النقد العلمي بالتحليل والتمحيص والمقارنة. ثم لو أن الكتاب المقدس محرَّف حقاً فأين هي النسخة الأصلية التي يمكن مقارنتها بالنص الحالي لتبيان زيفه؟ انه إنجيل واحد بأربع روايات تدور حول حياة المسيح وأفعاله وتعليمه. ان جميع المسيحيين على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم لهم نفس الإنجيل وهو مترجم إلي مئات اللغات، فكيف يكون محرفاً؟ وإن كان التحريف قد امتد لهذا الكتاب فما يمنع تكرار الأمر مع كتاب آخر؟
لا نجد في هذه الأيات أية اشارة واضحة الى الانجيل، ولماذا لا تكون الاشارة الى تعدد قراءآت القرآن الكريم. يذكر صحيح البخاري: “أن الصحابة لما كتبوا المصاحف أرسل عثمان إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق”. ونجد المعلومة نفسها عند الطبراني.
من المفيد جداً إن يعلم القاريء إن بعض كبار المفكرين من المسلمين أمثال: أوردن الدرامي (798-869) والرسالة الاضحوية في العماد لابن سينا (980-1037) والرد الجميل لأبي حامد الغزالي (1059-1111) والمقدمة لابن خلدون (1332-1406) ومواقف محمد عبده (1849-1905)، يؤكدون استحالة “تحريف النص” بمقتنع التاريخ، فيكتفون بالقول إن أهل الكتاب أساءوا تفسير معنى كتبهم المقدسة وترجمة معانيها الحقيقية أي “تحريف المعنى لا المبنى”. يقول العلامة عباس محمود العقاد: “سواء رجعت هذه الأناجيل: متى ومرقس ولوقا ويوحنا إلى مصدر واحد أو أكثر من مصدر، فمن الواجب إن يدخل في الحسبان أنها العمدة التي اعتمد عليها قوم اقرب الناس إلى عصر المسيح، وليس لدينا نحن قرابة ألفي سنة عمدة أحق منها بالاعتماد” (حياة المسيح، سلسة كتاب الهلال، العدد 202، مصر 1968 ص 210).
في الختام، ينبغي ان نميز بين النص المقدس الذي له حصانة الهية والتفسير الذي هو اجتهاد بشري نسبي وخاضعٌ للخطأ
ردّ على مؤلف كتاب “العهد الجديد، منشأه، تكوينه، تطوره” المسيء للانجيل