سلطانة يوسف .. سلطانة الغناء العراقي الأصيل
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
سلطانة يوسف.. سلطانة الغناء العراقي الأصيل
سلطانة يوسف جاد مغنية عراقية مولودة لأسرة عراقية يهودية في محلة الططران في مدينة الموصل سنة 1910. ترعرعت في بيئة شعبية وبيت فقير، وعاشت طفولتها وشبابها المُبكر وهي تساعد والديها في معمل شعبي لصناعة الحلوى.
ظلَّت سلطانة يوسف في العراق بالرغم من تهجير اليهود وإسقاط الجنسية العراقية عنهم، ورفضت مغادرة البلد الذي تربت فيه شأنها شأن عدد قليل من اليهود، وقد توفيت في حي الجزائر في الموصل في العام 1995 عن عمر يناهز 85 عاماً.
بداية الطريق:
كانت سلطانة يوسف تستمع إلى والديها وهما يغنيان خلال انهماكهما في معمل الحلوى وتغني معهما، وتردد كلمات الأغاني وراءهما بوجل وتردد. ثم أخذ صوتها يرتفع رويداً رويدا، ليلفت أنظار سكان المنزل. ولأن مثل هذه العوائل كان محكوم عليها بالفقر والجوع والضياع، فقد استولى الفقر على سلطانة، وحاصرها الجوع، فضلَّت طريقها وضاعت، وبقيت طوال حياتها أمية لا تجيد القراءة ولا الكتابة.
تعرفت سلطانة يوسف على الأغنية الموصلية والمقام الذي يؤدى على طريقتهم، خاصة تلك التي كان يؤديها تلميذ الملا عثمان (بلبل العراق) سيد أحمد الموصلي (1877-1941)، حيث شاعت حفلاته وتسجيلاته في تلك الفترة.
عاشت سلطانة يوسف في البيت الفقير حتى سن الثالثة عشرة من عمرها، وكان لابد من أن يأخذ بيدها من له ذوق وحس فني، فاستمع إليها عازف القانون إبراهيم قانونجي، وكان مشهورا في تلك الأيام، فأخذ يلقنها أصول الغناء ويُعرِّفها بأنواع المقامات. وبعد فترة من التمرين والمران الجاد أصبحت سلطانة يوسف مطربة تتحكم بصوتها وتجيد بعض المقامات.
الانتقال إلى بغداد:
وبعد أن تبلورت شخصية سلطانة يوسف الفنية ونضج صوتها شدَّت الرحال إلى بغداد، واستقربها المقام في منطقة الحيدر خانه حيث كانت عوالم الغناء والطرب تعج على مسارحها وفي فنادقها. وقد قُدر لها في تلك الفترة أن تصعد خشبة مسرح (نزهة البدور) بالقرب من سوق الهرج عام 1927.
لقد عُرفت سلطانة يوسف بقوة صوتها، فتهافت عليها الشعراء والملحنون، خاصة الشاعر عبد الكريم العلاف والملحن صالح الكويتي الذي لحن لها أغنية (يا طيور الروض غني) وأغنية (آه يا قلبي الحزين) وأغنية (وين المروة).
واتصلت سلطانة يوسف في بغداد بالأستاذ محمد القبانجي الذي استمع لصوتها وأعجب بها وصار يُنورها بفنون معرفته المقامية، مما جعلها مطربة المسارح في ذلك الوقت ودفع شركات التسجيل في طلب دعوتها لتسجيل أغانيها. فسجلت 14 اسطوانة ودفعوا لها 400 دينار وكان مبلغا كبيرا في ذلك الوقت.
ودخلت سلطانة يوسف دار الإذاعة وقدّمت حفلاتها بمصاحبة الموسيقار صالح الكويتي ويوسف بتو وعزوري العواد، كما تعرَّفت على خبير المقام رشيد القندرجي ومنه أخذت مقام الأرواح وبعض البستات البغدادية القديمة وكان نجاحها واضحاً.
يقول عنها المرحوم عبد الكريم العلاف: "إنها سبيكة من ذهب الفن، كلما وضعها الصقال على المحك زاد جوهرها توهجاً ولمعاناً". ويضـــيف أيضاً: "سلطانة قينة استكملت فيها كل مذاهب القيان حلاوة ورقّه، هذا ما كانت تفاخر به سلطانة .. ولو أنصف الناس لقالوا إنها سلطانة الطرب".
لقد كانت سلطانة يوسف تمتلك صوتا قويا ورخيما ميزها عن بنات جيلها، وهي بحق سبيكة من ذهب الفن استكملت كل مواهب القيان حلاوة ورِقة، وهي فعلا سلطانة الغناء العراقي الأصيل.
لقد عُرف عن سلطانة يوسف إجادة الغناء على كافة المقامات الموسيقية وعلى رأسها مقام البهيرزاوي الذي اشتهرت ببراعتها الشديدة في غنائه بفضل امتلاكها لصوت جهير يستطيع أداء الجوابات العالية. وحاولت سلطانة الوصول بفن المقامات لدرجة عالية من الحِرفية الفنية، وكانت تشغل نفسها بإعداد الأبوذيات والعتابات والمقامات التي قامت بأدائها، وكان صوتها يتمتع بالجوابات العالية مما جعلها في مقدمة مطربي المقام العراقي في ذلك الوقت.
من أشهر أغنيات سلطانة يوسف:
من الأغاني الخالدة التي غنتها سلطانة يوسف من سُلّم مقام البيات أغنية (وين المروة)، وقد غنتها أنوار عبد الوهاب فيما بعد. كما اشتهرت أغنية (يالمنحدر) وأغنية (چان گلبك لوعوه) وأغنية (وشلون اصبر الروح) وأغنية (لابجي وبجي الناس) وبستة (يا نجمة إلي بالليل). https://www.youtube.com/watch?v=Svv-r8GT9ws العودة الى الموصل:
في العام 1941 عادت سلطانة يوسف مجدداً إلى مدينة الموصل وواصلت مسيرتها الموسيقية من هناك، خاصة في المقاهي والمسارح. ثم شاركت في بطولة الفيلم المصري (نهر الحب)، وهو فيلم رومانسي مصري من إنتاج عام 1960 بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف وزكي رستم، وكان هذا الفيلم آخر لقاء بين النجمين الزوجين عمر الشريف وفاتن حمامة.
بعد ذلك بأشهر قليلة اعتزلت سلطانة يوسف الفن وخسر الناس واحداً من أقوى وأجمل الاصوات التي يندر وجودها. وقد أشهرت سلطانة يوسف إسلامها وتحجبت في آخر عمرها وسكنت شقة متواضعة في (حي الجزائر) الشعبي في الموصل واعتكفت بعيدا عن الأنظار وبرعاية جيرانها حتى وفاتها في الموصل سنة 1995.
لقاء صحفي:
في لقاء صحفي أجرته معها إذاعة وتلفزيون بغداد سنة 1978 في منزلها المتواضع في الموصل قالت سلطانة يوسف: "لقد كنا نتمتع بالشهرة والجمال والحظ السعيد، وقد امتلكنا كل شيء، ثم ذهب كل شيء، فهل يعود الشباب يوما!. أنا قانعة بهذه الحياة، فالقناعة كنز لا يفنى، ولا أريد أن أتثبت بالماضي حتى من خلال أغنياتي.. ولكنني أقول بصدق أنني نادمة كوني عملت في الفن.. لقد خرجتُ منه تماما كما دخلتُ في عالمه؛ معدمة وحيدة. لقد كنتُ مسالمة وأحب الوحدة، لذلك كان أصدقائي قليلين جدا، لكنني لم أكن أبخل في مساعدة من يقصدني في حاجة، ولعل هذا هو سبب ما أنا فيه من فقر الآن.. أنا أحب العزلة منذ طفولتي".
وتضيف سلطانة الغناء العراقي متحدثة عن نفسها وعن علاقتها بقرينتها سليمة باشا مراد قائلة: "أنا غنيت معظم أنواع المقامات وكنت أستلم راتبا شهريا قدره (90) دينارا وهو مبلغ كبير جدا في حينه، ولا أدري لماذا كانت سليمة مراد تحاول عرقلة أعمالي، لا سيما عندما أتفق على تسجيل اسطوانات، فقد كانت تعمل على عرقلة هذا الاتفاق!. لقد تبددت أغنياتي وضاعت مع ما ضاع مني وتبدد، لكنها كانت كلها أغاني معروفة ومشهورة، وكنتُ المطربة الوحيدة التي تغني المقام وأنا أعتبر الأستاذ محمد القبانجي أبا روحيا واستاذا رائدا لي".
وتضيف سلطانة يوسف "لقد سجلتُ أول مرة على اسطوانات شركة (بيضان فون)؛ إذ أخذوني إلى حلب؛ وتلك كانت سفرتي الوحيدة خارج العراق. فسجلت هناك (14) اسطوانة ودفعوا لي (400) دينار خلاف أجور السفر والإقامة والفرقة الموسيقية. أما بالنسبة للإذاعة فاني لم أسجل لها أغاني، ولكنني قدمت من خلالها حفلات غنائية، كانت تذاع على الهواء مباشرة، وتستغرق نصف ساعة أو ساعة كاملة. وقد كانت الإذاعة عندما غنيتُ فيها تتكون من ثلاث غرف، ومجموعة من الخيم يسكنها الجنود الذين يحرسون الإذاعة، كان هذا أواخر الثلاثينات".
وتضيف سلطانة يوسف قائلة: "زرتُ أم كلثوم عندما جاءت إلى العراق، وقد طلبتْ مني أن أغني قليلا، فغنيت، فقالت لي: (أنتِ مطربة صوتك قوي وسليم وكان يجب أن تكوني في مصر لتنالي ما تستحقينه..) .. وفي ذلك الحين لم أكن أفكر مطلقا في ترك العراق والاغتراب عنه حتى ولو كان هذا في سبيل المجد".