تعليم البطريرك 5 – بابل وبُرجُها ليسا للبلبلة، بل للتسامح والتنوع
تعليم البطريرك 5 – بابل وبُرجُها ليسا للبلبلة، بل للتسامح والتنوعEkhlass 19 ساعة مضت اخبار البطريركية, المقالات اضف تعليق 250 زيارةتعليم البطريرك 5
بابل وبُرجُها ليسا للبلبلة، بل للتسامح والتنوع
الكاردينال لويس روفائيل ساكو
هذه النصوص من الكتاب المقدس نصوصٌ تعليمية تحمل رسائل بليغة، موجهة الينا لكي نتأمل فيها ونتعلم منها العِبَر ونتغيَّر ونغيِّر مجتمعاتنا. انها بصراحة تساوي مال الدنيا.
اليهود أسرى في بابل
سقطت الإمبراطورية الآشورية عام 612 ق.ب. على يدِ الملك نبوخذنصر الذي اسس الامبراطورية الكلدانية وعاصمتها بابل. وفي عام 586 ق.ب. غزا نبوخذنصر اورشليم، وهدم هيكلَها، وقاد اليهود أسرى إلى بابل حيث بقوا فيها عقوداً. وقد عانوا كثيراً الى ان سمح لهم الملك أحشويروش (سنة 538 ق.ب) بالعودة الى بلادهم. حينها عادت مجموعة مع زَرُبابل وعزرا، اما الباقون كانوا قد تأقلموا مع محيطهم، فاستقروا فيه لوجود المياه والزراعة والحضارة العريقة التي مكَّنتهم من القيام بقراءة جديدة ومعمقة لهويتهم، وايمانهم، وجذورهم وآبائهم المؤسسين: ابر اهيم واسحق ويعقوب. أما بابل التي يتكلم عنها سفر الرؤيا فلا علاقة لها مع بابل ما بين النهرين، انما هي اشارة رمزية الى روما التي اضطهدت المسيحيين الاوائل.
برج بابل – الزقورة
اهتم سكان ما بين النهرين القدامى باقامة معابد لهم تعلو بمدرجاتها منازل الناس بعدة طوابق. هذه الزقورات ترمز الى الارتفاع والسمو والتقرب الى الله، يتسلقها الانسان للصلاة لكي ينزل الله اليه ويباركه. زقورة بابل العظيمة ذات السبعة طوابق وبارتفاع 9 أمتار1 شبيهة بأهرام مصر.
تتكلم الرواية عن اللغة الواحدة: “وكانَتِ الأَرضُ كُلُّها لُغَةً واحِدة وكَلامًا واحدًا. وكانَ أَنَّهم لَمَّا رَحَلوا مِنَ المَشرِق وَجَدوا سَهْلاً في أَرضِ شِنْعار فأَقاموا هُناك… وقالوا: تَعالَوا نَبْنِ لَنا مَدينةً وبُرْجاً رَأسُه في السَّماء، ونُقِمْ لنا اسْماً كَي لا نَتَفَرَّقَ على وَجهِ الأَرضِ كُلِّها… فنزل الله وبلبل لُغَتَهم، حتَّى لا يَفهَمَ بَعضُهم لُغَةَ بَعض… ولِذلِكَ سُمِّيَت بابِل” (تكوين 11/ 1-2، 4، 7، 9). هنا ايضاً يستعمل الكتاب المقدس لغة بشرية في وصف أعمال الله: رأى، نزل، بلبل كما شاهدنا في رواية الخلق.
كان للعبرانيين المسبيين تقاليدهم ولغتهم الخاصة بهم، وكان المجتمع البابلي مجتمعاً متحضراً، حاول حكامُهُ فرض لغتهم وثقافتهم على العبرانيين مما خلق انزعاجاً وتوتراً وخوفاً لديهم من الانصهار والضياع. فقاموا بتفسير اسم بابل: “باب ايلانو”3، اي باب الآلهة، بـ”البلبلة” وعدّوه عقاباً من الله. إنه تعبير عن الصورة القاسية التي حملها اليهود في ذاكرتهم عن بابل2 كما جاء في المزمور 137.
1 على أَنهارِ بابِلَ هُناكَ جَلَسْنا فبَكَينا عِندَما صِهْيونَ تَذَكَّرْنا
2 على الصَّفْصافِ في وَسَطِها عَلَّقْنا كِنَّاراتِنا.
3 هُناكَ سأَلَنا الَّذينَ أَسَرونا نَشيداً والَّذينَ عَذَّبونا طَرَباً: أَنشِدوا لَنا مِن صِهْيونَ نَشيداً
4 كَيفَ نُنشِدُ نشيدَ الرَّبّ ونَحنُ في أَرضِ الغُربَة؟
…
8 يا اْبنَةَ بابِلَ الصائِرَةَ إِلى الدَّمار طوبى لِمَن يُجازيكِ على ما جازَيتنا بِه.
9 طوبى لِمَن يُمسِكُ أَطْفالَكِ ويَضرِبُ بِهمِ الصَّخرَة!
الدرس: لا “لسوبر” التعصب، نعم للتسامح والتنوع!
قصة برج بابل بالغة الاهميّة. تعبّر عن حالة من التشتت والانقسام تعيشه اليوم مجتمعاتنا بسبب السعي لازالة التنوع والتعددية بفرض لغة واحدة3، ولون واحد وثقافة واحدة، وطائفة واحدة، بدل قبول لغات مختلفة وثقافات متنوعة. انها تؤكد على ان المستقبل مبني على الانفتاح والتضامن وليس على الانغلاق والانفصال.
يرى مفسرو الكتاب المقدس ان تدخل الله هو من أجل الحفاظ على ثراء التنوع والاختلاف، ونبذ التعصّب بكل اشكاله، لان التعصُّب ايدولوجية عنصرية، فالمُتزمت الذي يعُدّ نفسه “سوبر” يهودي أو كلداني أو اشوري هو أسير فكره ورغباته. إنه يتحدث عن فكر واحد، ولونٍ واحد، ولغة واحدة وطقس واحد جامد، وتقليد واحد، وهدفٍ واحد، يفرضه على الآخر. الخطورة ان يتحول المُتعصّب الى شخص عدواني، “يشيطن الاخر” ويبثّ الكراهية والعداء. السوبر الحقيقي هو من يعمل الخير ويخدم الناس من دون استثناء.
يؤكد الكتاب المقدس من البداية والى النهاية ان البشر عائلة واحدة بفضل الطبيعة والارض والإيمان، عليهم ان ينفتحوا على بعضهم البعض ويُحِبّوا بعضهم بعضاً ويتضامنوا ليعيشوا بسلام ووئام. والى هذه الإخوة يدعو يسوع ” كلّكم إخوة” (متى 23/ 8)، والبابا فرنسيس في رسالته العامة “كلّنا إخوة- tutti fratelli”6.
لتكن بابل رمزاً حضارياً للعيش معاً في وطن فريد بتنوّع قومياته، ولغاته، ودياناته، وتراثه. هذه المعيّة ليست العيش جنباً الى جنب، بل ارتكازاً على احترام الآخر وحقه بالإختلاف، ورغبته في مشاركته الحياة بتبادل الوجدان والمصير في حضارة نهرينية فريدة وجميلة نفتخر بها.
العلّية “العنصرة” رمز الوحدة والانسجام
في يوم العنصرة، كان التلاميذ مجتمعين في العلّية (وهي مكان مرتفع)، حين حلّ عليهم الروح القدس على هيئة السنة نارية (أعمال الرسل 2/ 1-3). هذه اشارة الى خروج الكنيسة الى العالم، وانفتاحها على كلِّ الشعوب واللغات، فلا يوجد بعدُ شعبٌ واحدٌ مختارٌ، ولا لغة واحدة مقدسة مهما كانت. الكل مدعو الى القداسة.
نزول الروح القدس يوم العنصرة، اي اليوم الخمسين، على التلاميذ في العلية هو في عقيدة المسيحيين رمز الى الوحدة والانسجام: “فان كلَّ واحدٍ يسمعُهم يتكلمون بلغته الخاصة (اعمال الرسل 2/ 6). هذا الانسجام والتواصل والتنوع يحصل في شخص يسوع المسيح الذي يجمع المؤمنين المختلفين في عائلة واحدة (الكنيسة). وهذه الوحدة وتنوعها يصونها الروح القدس بمواهِبه.
_________________
1 . د. بهنام أبو الصوف، التاريخ من باطن الارض، عمان 2009 ص 27-28.
2 مقال للمطران روبرت: لمحات عن “بابل في الكتاب المُقدس، على الموقع البطريركي آب 2021.
3شنعار تشير الى منطقة بابل بين نهري الدجلة والفرات.
4 سفر التكوين، الأب آلان مرشدور، تعريب الأب بيوس عفاص، دار بيبليا للترجمة والنشر، 2021 ص 125.
5 تذكرنا هذه المحاولة بمحاولة البروفيسور زامنهوفZamenhof من بولندا الذي استنبط سنة 1903 لغة اسبيرانتو Esperanto لتغدو لغة الكلام المشتركة بين جميع البشر، لكنه لم يتوفق !
6 الباب فرنسيس الرسالة العامة الاجتماعية، القاتيكان 5/10/2020
شاركها