مرضى السرطان العراقيون ... ضحايا نهب الأدوية من المشافي الحكومية
بغداد/ العربي الجديد - محمد نصرالله:ينهب سماسرة أدوية مرضى السرطان من المشافي الحكومية في العراق، بالتعاون مع صيادلة وأطباء متواطئين، ويجري بيعها في الصيدليات الخاصة، كما يوثق التحقيق، بينما فقد المرضى آمالهم في الشفاء أو حلّ يحميهم من الموت في صمت.
- لا تجد العشرينية العراقية زينة الجابري، دواء Palbociclib (بالبوسيكليب) الذي تحتاجه لعلاج مرض سرطان الثدي، في مركز ذي قار التخصصي للأورام، ما يضطرها إلى شراء علبة من صيدلية خاصة لا تكفيها غير شهر واحد، بينما يفترض أن تحصل عليه مجاناً.
وبينما يمكن للجابري شراء الدواء، إلا أن نعيم البدري، الذي يرافق والدته المصابة بسرطان الرئة في رحلة علاجها بمستشفى الأمل الوطني لعلاج الأورام في بغداد، لم يجد خياراً لتوفير دوائها سوى عرض سيارته للبيع، موضحاً أن الأطباء طلبوا منه مباشرةً تأمين علاج والدته طوال بقائها في المشفى، ولكن عبر الصيدليات الخاصة لعدم توافره بها، مثل نوع (Avastin) أفاستين الذي يُعَدّ أحد مضادات الأورام، ويباع بـــ 250 دولاراً، ودواء Keytruda المستخدم كعلاج مناعي للسرطان وسعره 370 دولاراً.
ولا تنتظر الجابري وكذلك البدري إجابة عن سؤال أين تذهب أدوية السرطان المدعومة حكومياً، إذ سبق أن تظاهر المرضى وذووهم أمام المنطقة الخضراء الحكومية في بغداد، أكثر من مرة منذ مايو/أيار 2018 للمطالبة بتوفير العلاج، والالتفات إلى حالة الموت البطيء التي يقاسونها، غير أن معاناتهم لم تتوقف، إذ يتتبع التحقيق كيف تُهرَّب الأدوية دون حل ناجع، بينما يجري من حين لآخر توقيف مسؤول أو محاكمته، ومن ذلك حكم قضائي صادر عن محكمة الرصافة في بغداد العام الماضي بالحبس 7 أعوام لمسؤول صيدلية في مركز لعلاج السرطان بمدينة الطب في العاصمة (حكومية)، بعد ثبوت تورطه في تهريب أدوية سرطانية مستوردة خصيصاً لوزارة الصحة وبيعها للصيدليات الأهلية في ضاحية السعدون وسط بغداد، إذ اكتشفت إدارة المركز الأمر في مارس/آذار 2019، خلال قيامها بجرد مفاجئ للأدوية، كما يروي محمد العيداني، الموظف في مكتب التفتيش والمتابعة بوزارة الصحة العراقية.
اعتقال 27 متهماً بتسريب الأدوية للصيدليات الأهلية خلال عامين
ومن بين 27 شخصاً اعتقلتهم الأجهزة الأمنية خلال عامي 2019 و2020 بتهمة تهريب الأدوية المخصصة لمشافي ومراكز وزارة الصحة، كان هناك 5 صيادلة يعملون في المراكز المتخصصة بعلاج أمراض السرطان، بحسب المقدم في المديرية العامة لمكافحة الجريمة المنظمة في وزارة الداخلية علي البيضاني.
كيف تُهرَّب الأدوية إلى الصيدليات الخاصة؟
جال معد التحقيق برفقة المريض صالح المياحي، الذي يعاني من سرطان البنكرياس على 7 صيدليات مختلفة، مدعياً حاجته لشراء العلاج، وعُرض عليهما شراء أدوية ممهورة بختم وزارة الصحة العراقية، التي يمنع تداولها في الصيدليات الأهلية، إذ يعتبر القانون رقم 39 لعام 1994، إخراج الأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية وغيرها من المواد والأدوات الاحتياطية بصورة غير مشروعة من المؤسسات الصحية الرسمية والجمعيات ذات النفع العام، جريمة من جرائم الاقتصاد الوطني، "يعاقب مرتكبها وكل من ساهم أو سهل أو اشترك في ارتكابها بالإعدام أو السجن المؤبد وبغرامة لا تزيد على مئة ألف دينار ولا تقل عن عشرة آلاف دينار ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة".
من بين هذه الأدوية Decitabine (ديسيتابين) للعلاج الكيميائي ويباع بسعر 300 دولار للعلبة في الصيدليات الأهلية، بينما يحصل عليه الصيادلة مهرباً مقابل 200 دولار، كما يقول محمد نعيم صاحب صيدلية الفراتين الخاصة في بغداد، مضيفاً أن دواء Fluorouracil (فلورويوراسيل) المضاد للاستقلاب ويستخدم خلال وقت العلاج الكيميائي يباع بسعر 200 دولار، بينما يباع المهرب من المراكز الحكومية بسعر يراوح بين 80 إلى 100 دولار، وحُقن العلاج الكيميائي (Gemcitabine) (جيمسيتابين) التي يبلغ سعرها في الصيدليات الأهلية 250 دولاراً للعلبة الواحدة، فيما يبيعها المهربون بــ 150 دولاراً. أما Palbociclib، فسعره في الصيدليات بين 2300 إلى 2500 دولار، فيما يوفره المهربون مقابل سعر يراوح بين 1500 إلى 1800 دولار للعلبة الواحدة.
ويخفي أصحاب الصيدليات المتورطون في شراء الأدوية المهربة من المشافي الحكومية تلك العلاجات، عن أعين الأجهزة الرقابية في مخازن سرية بداخلها، بعدما تصل إليهم عبر التلاعب في طلبية الاحتياج الفعلي للمرضى المسجلين على قائمة العلاج في المراكز المتخصصة، وحتى المتوفين منهم، إذ يتواطأ صيادلة وأطباء لزيادة العلاجات المصروفة لكل مريض بإضافة أنواع من الأدوية على وصفة المريض التي يوقعها الطبيب ويصرفها الصيدلي، ويمنح المريض أدويته، بينما يُحتفَظ بالأدوية المضافة لبيعها للصيدليات، بحسب ما يكشفه الطبيب المختص بالأورام السرطانية عمار الفتلاوي، الذي يعمل في مركز ذي قار التخصصي للأورام جنوبي العاصمة بغداد، موضحاً أن أبرز الأدوية التي "تهرّب من المراكز السرطانية هي أدوية العلاج الكيميائي والأدوية الحيوية النادرة التي يكون تجهيزها قليلاً بسبب ارتفاع أسعارها، مثل (Nivolumab) (نيفولوماب) و(إندوكسان) (Endoxan) المضادين للسرطان وسعر كل نوع 250 دولاراً، بالإضافة إلى العلاج الكيميائي (Xeloda) كسيلودا، ويبلغ سعره 110 دولارات.
ويُعاقب الأطباء والمسؤولون المتورطون في تسريب الأدوية وفقا للفقرة أ من المادة الثانية من القانون رقم 39 "بالحبس وبغرامة لا تزيد على عشرة آلاف دينار ولا تقل عن خمسة آلاف دينار كل من أ - الطبيب الذي حرّر وصفة طبية وهمية أو مبالغاً في كميات الأدوية الموصوفة فيها وثبت كل ذلك بتقرير من لجنة طبية رسمية بقصد صرف أدوية لحاجة غير حقيقية لغرض الاستفادة غير المشروعة. ب - المسؤول عن المؤسسة الصحية الرسمية عند عدم قيامه باتخاذ الإجراءات اللازمة أو عدم إخباره السلطات المختصة عند حصول تلاعب بالأدوية والمستلزمات والأجهزة الطبية وغيرها من المواد والأدوات الاحتياطية في مؤسسته".
الشحّ والتهريب يفاقمان آلام المرضى
يصف نقيب الصيادلة السابق، مرتضى الشريفي، تسريب الأدوية إلى الصيدليات بـ "الجريمة البشعة التي لا يمكن نكرانها"، وتستمر في ظل وجود صيدليات أهلية تسعى للحصول على هذه الأدوية من المشافي الحكومية بسعر قليل. وتكشف سجلات نقابة صيادلة العراق أن 500 صيدلية غير قانونية أغلقت عام 2020، ويوضح الشريفي أن إغلاق تلك الصيدليات جاء بسبب عدم حصول أصحابها على إجازات ممارسة المهنة، وارتكاب أفعال مخالفة، كبيع أدوية منتهية الصلاحية وغير مرخصة، وهي متورطة أيضاً في بيع أدوية مسربة من مشافي الصحة.
وبلغ عدد مرضى السرطان في العراق 39 ألفاً خلال عام 2020، بحسب عضو الفريق الطبي الإعلامي الساند لوزارة الصحة الدكتور علي أبو الطحين، ويتصدر سرطانا الرئة والثدي معدلات الإصابة.
ويعاني هؤلاء المرضى من عدم توافر علاجاتهم بشكل دائم في المشافي الحكومية، وهناك أنواع من الأدوية شحيحة جداً، بحسب مصادر التحقيق، ما يضيف عليهم وعلى ذويهم أعباء مادية ونفسية.
وتعكس معاناة المرضى هذه الصورة المأساوية لواقع المراكز الحكومية المتخصصة التي تشهد في الغالب نقصاً حاداً في العلاجات والمستلزمات الطبية، غير أن تهريبها يفاقم شحّها، بحسب عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية، داليا حاجي آغا سليفاني التي توضح أن وزارة الصحة لا تستورد الأدوية السرطانية وفق أعداد المراجعين، إنما تشتري الأدوية التي يحتاجها المصابون بالأنواع السرطانية الأكثر انتشاراً، ويكون استيرادها مرة واحدة بالسنة، عن طريق الشركة العامة لتسويق الأدوية والمستلزمات الطبية "كيماديا" التي تتبع وزارة الصحة، وتؤمن الأدوية والمستلزمات الطبية عبر طرح مناقصات لتقدم مكاتب استيراد الأدوية عروضها، وعددها 650 بالعراق، بحسب سجلات نقابة صيادلة العراق، وتستورد هذه المكاتب الأدوية والمستلزمات الطبية للمذاخر والصيدليات الخاصة أيضاً، لكن الأخيرة تسعى لشراء الأدوية المسربة من المشافي والمراكز الحكومية، لكونها تحصل عليها بسعر أقل.
ويؤكد عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية عبد عون العبادي دور تهريب الأدوية وبيعها خارج المشافي الحكومية في حرمان المرضى منها، قائلاً لـ"العربي الجديد": "يمكن شراء أي نوع من الأدوية المستوردة للوزارة من الصيدليات، أو حتى الحصول عليها عبر التنسيق مع الصيادلة داخل المشافي الحكومية، وبعض الكوادر الطبية الفاسدة تسهل تهريبها"، بينما يرفض المتحدث باسم وزارة الصحة والبيئة الدكتور سيف البدر الإقرار بوجود تسريب للأدوية، قائلاً إن جميع المراكز الحكومية التي تقدم الخدمات العلاجية للمصابين بمرض السرطان تمنحهم الأدوية مجاناً إن توافرت، مشيراً إلى أن عدد الوحدات والمراكز الحكومية بلغ 11 مركزاً تتوزع في عدة محافظات، وحصلت الوزارة على الموافقات الأصولية لإنشاء 9 مراكز تخصصية جديدة، فضلاً عن افتتاحها مركز الأورام الوطني في العاصمة بغداد.
توزيع محدود لأدوية السرطان
خصصت الحكومة العراقية للأدوية ضمن الموازنة الاتحادية العامة عام 2019 ملياراً و500 مليون دينار عراقي (مليون و31 ألف دولار)، كما تظهر جداول الموازنة المنشورة في صحيفة الوقائع العراقية عدد 4529. "وبذلك عجزت الوزارة عن تأمين غالبية الأدوية المنقذة للحياة ومنها الأدوية السرطانية" حسبما يقول المدير السابق لشركة كيماديا مظفر عباس، مؤكداً أن الشركة استوردت 9 أنواع فقط من أصل 59 دواءً ضرورياً لمعالجة السرطان، وفي عام 2020 بلغت مخصصات الأدوية ملياراً و302 مليون دينار (895.204 ألف دولار)، وفي عام 2021 بلغت ملياراً و349 مليون دينار (927.519 ألف دولار).
وتُوزَّع الأدوية السرطانية على المراكز المتخصصة وفق الحاجة التي يقررها قسما الأمور الفنية وتقدير الحاجة التابعان لوزارة الصحة، والمعنيان بتقديم قوائم وجداول بالاحتياج التفصيلي السنوي لكل مركز متخصص بعلاج الأورام، موضحاً أن توزيعها على المراكز يقترن بوجود التخصصات الطبية الدقيقة. لذلك، إن النقص في عدد الأطباء وامتناعهم عن الخدمة في المحافظات البعيدة والفقيرة، مثل المثنى وميسان والديوانية، أجبر شركة كيماديا على حصر توزيع الأدوية السرطانية على مراكز معينة في نينوى وأربيل وبغداد والبصرة، وفق عباس، وتحويل حصص تلك المحافظات إلى مراكز أخرى، ما يجبر المرضى على الانتقال بحثاً عن الدواء. وهو ما يبيّنه الدكتور عبد القادر الشمري الذي يعمل في مركز نينوى للأورام، قائلاً إن دائرة الصحة في المحافظة أحالت 200 مريض بالسرطان خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2021 من نينوى إلى مستشفيات أخرى في بغداد وإقليم كردستان، بسبب عدم توفر الأدوية وأجهزة الإشعاع، والعلاج باليود المشعّ.