" المتحف البغدادي " لمحات وضاءة من عبق الماضي وحنين الذكريات
[size=32] " المتحف البغدادي " لمحات وضاءة من عبق الماضي وحنين الذكريات[/size]
تحقيق وتصوير : احمد الحاج
افتتح المتحف البغدادي وهو نسخة عراقية مصغرة عن متحف الشمع - مدام توسو - في لندن ، بادئ الأمر بـ 45 مشهدا في سبعينات القرن الماضي ، ضمت بمجموعها 197 مجسما ، ومن ثم وفي عام 1985 ضم المتحف بين حناياه 77 مشهدا بـ 347 مجسما لتتوالى المجسمات والمشاهد المصنوعة من الجبس تارة ، ومن الشمع تارة اخرى تباعا ، مجسدة بمجموعها لمحات وضاءة من عبق الماضي وحنين الذكريات وملامح شتى عن الحياة الاجتماعية والتراثية البغدادية بأدق تفاصيلها ولعل من أبرزها اضافة الى قاعة الصور التراثية ، والشناشيل البغدادية، وقاعة الساعات القديمة ، مشهد بائعات اللبن ، والقصة خون (الحكواتي)، والخياط ، والحداد، و بائع السبح ، والبقال، والرواف ،وزفة العريس، وجراخ السكاكين ، والمكوجي ، والنجار ، والجالغي البغدادي، وخياط الفرفوري، والخباز ، والقصاب ، والنداف ، والمصور الشمسي ، والعرضحالجي ، وبائع الباجة ، وبائعة الباقلاء بالدهن ، وغيرها الكثير .
مشهد الملا عبود الكرخي
لعل واحدا من أجمل المجسمات في المتحف البغدادي،مجسم الشاعر العراقي الشعبي الساخر الملا عبود الكرخي،ويبدو أن الكرخي قد تورط كما تورطنا نحن في مهنة الصحافة في بلدان شرق أوسطية أدمنت مصادرة الحريات وتكميم الافواه في كل الحقب والانظمة لا فرق في ذلك بين ملكية وجمهورية، وكان الكرخي يلقي الشعر هنا وهناك فلم ينل مراده ولم يحقق أمنياته من خلالهما برغم شهرته التي طبقت الأفاق من هاتين المهنتين "مهنة الشاعر، والصحفي الوطني" أما عن غير الوطني من مداحي الانظمة، ورداحي السلاطين فغير - شوووكل -حتى أنه أصدر صحيفتين الاولى (الكرخ) عام 1927م وتعرض للملاحقة والسجن بسببها، ومن ثم أصدر صحيفة (الملا والمزمار)، وظل يقرض الشعر وينظمه حتى وفاته ومن أشهر قصائده" المجرشة " و " قيم الركاع من ديرة عفج " ووصل به الحال الى هجاء المهنتين اللتين قضى عمره فيهما من دون جدوى قائلا :
صحافي يكرم الله وشاعر الجمهور
اسمي بالحصاد ومنجلي مكسور
تالي الخيط مني ضاع والعصفور
فَي (=ظل ) وشمس اذرع انطح احياطين !!
مجسم بائع الفرارات
من المهن الشعبية البغدادية القديمة "بائع الفرارات " وقد ظهرت هذه المهنة ايام القحط ،حيث اضطر الكثير من الجياع والمسحوقين الى صناعة هذه المراوح الورقية الجميلة الملونة المحمولة على أعواد خشبية تستهوي الاطفال لبيعها لهم مقابل الحصول على نقود قليلة أو على الخبز اليابس بنظام المقايضة ليتم بيع الخبز فيما بعد الى الرعاة واستخدامه كعلف للحيوانات مقابل النقود، ولذلك جاء في الامثال الشعبية " فلان يبيع فرارات بخبز يابس " الا أن سمعة سيئة أصابت هذه المهنة برغم براءتها مما لحق بها تمثلت بإنتحال الكولونيل "جيرار ايفلين ليتشمان " الشهير بلجمان عراقيا وهو ضابط مخابرات بريطاني جاب الكثير من الدول العربية وتخفى في بعضها بصفة "بائع فرارات" درويش يجوب أزقة البو كمال السورية نهارا ويبيت في مسجدها ليلا من دون أن يفطن اليه أحد ، وقيل انه عمل شحاذا وقارىء كف يحمل اسم " الفقير الى الله نجيمان " ساعده في ذلك ملامحه الشرق أوسطية الداكنة ومعرفته بالتقاليد واللهجات العربية ما جعله قادرا على التخفي والتجسس على أحوال الناس قبل الحرب العالمية الاولى واحتلال بغداد سنة 1917 ..وقد قتله الشيخ ضاري المحمود بعد أن تجاسر عليه الأول وأهانه ، وذلك في آب / 1920 أيام ثورة العشرين فهزج العراقيون يومها بـ "هز لندن ضاري وبجاها " .
مشهد الحائك
كان في بغداد قبل 120 عاما اكثر من 200 مشغل للحياكة اليدوية تنتج ما يقرب من 40 الف عباءة ومن مختلف الاحجام والالوان،اضافة الى 130 ورشة لصناعة الاحزمة القطنية – الحيص- و200 ورشة للاحزمة الحريرية ، واشتهر حاكة باب الشيخ بالأزر الحريرية ، وكان في بغداد نحو 4 آلاف آلة حياكة في كل من الاعظمية والكاظمية وبعض المناطق الاخرى .
مجسم الشقاوة
من الشخصيات التراثية الشعبية التي ظهرت في العقود الماضية ومن ثم إختفت بالتدريج وتلاشت، شخصية (الشقاوة ) كما يطلق عليها بغداديا ، او (الفتوة ) كما يطلق عليها قاهريا ، او (القبضاي) كما يطلق عليها دمشقيا وبيروتيا ، وتمثل امتدادا اجتماعيا لشريحة الزعار والشطار والعياريين التي ظهرت في حقب ما منذ ايام الدولة العباسية ونزولا ولعبت دورا مهما في مجمل الأحداث ، وقد شارك بعضهم في صد هجمات التتار والمغول ودافع عن حياض بلاده ، بينما تصدى بعضهم الاخر لكل من الاحتلال الفرنسي والبريطاني في حقب ما !
و للشقاوة أيام زمان ملابس وهيئات خاصة يعرفون بها وابرزها وضع " اليشماغ" على الكتف كذلك إعتمار الطاقية بطريقة لافتة كما يتميزون بطي كمي القميص الى الاعلى ولبس قطعة جلدية في اليد اليمنى ،ومن اشهر الشقاوات في بغداد إبراهيم عبدكه، وخليل أبو الهوب، وعبد المجيد كنه ، وجوامير النكه ، وعلي ماما ، وعلي شاهيه وغيرهم .
مشهد البوسطجي
" البوسطجي " أو ساعي البريد هو الرجل الذي كان محط أنظار وإنتظار الناس أيام زمان وكان البوسطجي وهي كلمة معربة عن الانجليزية مأخوذة من " بوست " تضاف إليها جي التركية للدلالة على صاحب المهنة أو القائم بالعمل بزيه الموحد الأزرق ، وقبعته المميزة ودراجته الهوائية و حقيبته الجلدية التي يضع فيها الرسائل الممهورة بالطوابع البريدية الجميلة والتي كان هواة جمع الطوابع يجمعونها في ألبوم خاص بالطوابع ، مشهدا مألوفا ولافتا للأنظار الى فترة التسعينات تقريبا ، إلا أن تلكم المهنة ما لبثت أن انحسرت ومن ثم انقرضت مع اختراع الهواتف النقالة وانطلاق الانترنت ومواقع ومنصات الاتصال والتواصل وقد قدمت السينما العربية فيلمين بعنوان واحد " البوسطجي " الاول انتج عام 1948 من بطولة سراج منير ...والثاني من بطولة شكري سرحان وقد انتج عام 1968 ، وبرغم براعة التمثيل وروعة الإخراج وحبكة السيناريو ، الا ان الفيلمين قد قدما صورة مشوشة بعض الشيء عن شخصية البوسطجي ، كما قدمت شخصية البوسطجي من خلال الاذاعة والمسرح والتلفزيون والغناء ولعل " طل البوسطجي " و "يا بوسطجي الحبايب "و" اسكتش البوسطجي" ، و" يا بوسطجي " و " البوسطجية اشتكوا من كثرة مراسيلي " من أشهرها .
مجلد الكتب
كانت صناعة الكتب والتجليد مهنة رائجة في بغداد العلم والحضارة في عصر التدوين أيام الدولة العباسية يوم ان كانت بغداد عاصمة للفكر والثقافة وتؤمها جموع المثقفين والفقهاء والعلماء من أصقاع العالم حتى قال فيها القارئ الشهير ابو عمرو بن العلاء: "من اقام في بغداد ومات فيها ، نقل من جنة الى الجنة " ، وقال فيها ابو القاسم الديلمي:" سافرت الى الافاق ودخلت البلدان من سمر قند الى القيروان ، ومن سندريب الى بلاد الروم، فما وجدت افضل من بغداد ولا اطيب منها " .
مشهد السقا
مشهد السقا يتحدث عن مهنة أخذت بالإنقراض تدريجيا منذ ثلاثينات القرن الماضي بعد دخول أول ماكنة لإسالة الماء تم نصبها في شريعة الميدان عام 1907، وبعد أقامة أول خزان كبير للماء في جانب الكرخ من بغداد عام 1931، حيث كانوا ينقلون المياه من دجلة، إلى المساجد، والأسواق، والحمامات، والمقاهي، والبيوت،وكانوا يحملون الماء بقرب خاصة مصنوعة من جلود الماعز والأغنام، و يرتدون زيا أنيقَا.
المقهى التراثي والثقافي البغدادي
من المشاهد الجميلة التي يضمها المتحف ، مشهد المقهى البغدادي، ولطالما شكل المقهى التراثي ركيزة أساسية في حياة البغادة ولا يكاد يخلو شارع أو محلة او زقاق او حي من أحيائها القديمة من مقهى تراثي له اسم رنان تحفظه الأجيال كابرا عن كابر ، ولاشك ان (مقهى حسن عجمي) يعد واحدا من أشهر المقاهي الادبية والثقافية البغدادية أيام زمان وفي هذا المقهى جلس معظم أدباء ومثقفي العراق ليس أولهم الجواهري ولا آخرهم رائد التفعيلة بدر شاكر السياب ، ومن المقاهي التراثية الشهيرة ايضا (مقهى الزهاوي ) وسمي بهذا الاسم نسبة الى الشاعر جميل صدقي الزهاوي وكان من رواده البارزين حتى توهم الناس بأن المقهى ملك له ( لقد تم غلق المقهى مؤقتا قبل أيام من قبل امانة بغداد لأن مديره الحالي وبدلا من إحياء التراث البغدادي فإنه يقدم على تشغيل الاغاني الهابطة وبصوت مرتفع ولن يفتح المقهى ثانيا الا بعد تقديم تعهد خطي بعدم تكرار المخالفة على حد وصف بيان امانة العاصمة بهذا الشأن ) اضافة الى الشاعر معروف الرصافي ، ومن هذا المقهى دارت المساجلات الشهيرة بين عباس العقاد في القاهرة ، والزهاوي في بغداد ،برغم اتفاق الرجلين على انتقاد امير الشعراء احمد شوقي ، وفي هذا المقهى تحديدا جلس شاعر الهند الكبير طاغور في ثلاثينات القرن الماضي بعد قدومه الى بغداد ونظم احدى قصائده فيه ..ومن عجائب هذا المقهى ان كبار العلماء فضلا عن المثقفين والشعراء وقراء المقام والمناقب النبوية كانوا يجلسون فيه جنبا الى جنب ربما لقربه من محلة جديد حسن باشا ، التي تزخر آنذاك بعلية القوم وكبرائهم ، أو لقربه من القشلة - مبنى الحكومة القديم -وعلى احدى طاولات هذا المقهى نظم بدر شاكر السياب، واحدة من اشهر قصائده " المومس العمياء " والتي يقول في بعض ابياتها :
جِيَفٌ تستر بالطلاء، يكاد ينكر من رآها
أن الطفولة فجَّرَتْها ذات يومٍ، بالضياء
ومن المقاهي الشهيرة مقهى عزاوي ، الشابندر او مقهى الشهداء ، مقهى البرلمان ، البيروتي ، التراث ،المدلل ، وغيرها الكثير بما لايتسع المقام لذكرها ولكل واحدة من مقاهي بغداد الثقافية والتراثية قصص وحكايا لاتخلو من الفكاهة والندارة والطرافة .
مشهد الحلاق
من المشاهد المعروضة في المتحف مشهد الحلاق الذي لعب دورا في الحياة البغدادية الإجتماعية، حيث كان الحلاقون ينتظمون في نقابة مهنية تطرقت اليها حكايات ألف ليلة وليلة وكان واحدهم يمارس مهناً عدة، إضافة إلى مهنته ومنها الحجامة وقلع الأسنان والختان ومن من اشهر محلات الحلاقة في بغداد أيام زمان حلاقة الجابي ،وشنب شيك، وحلاق الملوك والباشوات ،السيد حكمت محمد الحلي ،المعروف بأناقته وحسن هندامه على الطريقة الايطالية، وكان صالونه القديم يقع في شارع الرشيد مقابل شربت الحاج زبالة الشهير .
مشهد الصفار
مشهد النحاس أو الصفار الذي خصص له المتحف ركنا خاصا تعد أقدم مهنة عرفها البغداديون منذ القدم ،وما لبثت أن انحسرت في سوق خاص بها حاليا هو سوق الصفافير، حيث كانت صناعة الصفر تهيمن على أمتعة البيت كالقدور ودلال القهوة، والمباخر، والقناديل، ومن لوازمهم المبارد والكماشات والسنادين والكورة، وكانوا يزينون صناعاتهم بالكتابات والنقوش والزخارف.
مشهد "الزورخانة "
تعد رياضة الزورخانة الأب الروحي لكل رياضات القوة وكمال الاجسام حول العالم وتتألف من كلمتين (زور – خانة) وتعني القوة والبيت، وترجمتها (بيت القوة)، وهي رياضة كانت شائعة في القرون الماضية ولغاية النصف الأول من القرن العشرين حيث انحسرت أماكنها ولاعبيها واتجه الشباب لمزاولة العاب رياضية أخرى بدلا منها في القاعات الرياضية وصالات كمال الاجسام .
أطفأت كاميرتي ..تأبطت أوراقي ..لملمت شعثي ..خرجت من المتحف البغدادي مشدوها بمشاهده،ومأخوذا بمجسماته وقد عصفت بي خلال تجوالي مشاعر شتى تراوحت بين فرح غامر بما شاهدت، وبين حزن غائر على ما مضى منا وكان من أزمنة ومعالم جميلة لم يعد لأغلبها وجود، لأجد نفسي فوق أحد أعرق الجسور الـ 13 في بغداد - جسر الشهداء - وقد سمي بهذا الاسم بعد ثورة 14 تموز وكان اسمه قبلها جسر المأمون،وذلك لسقوط العديد من الشهداء والجرحى فوقه عام 1948 تنديدا بمعاهدة بورت سموث، وقفت وسط الجسر متأملا برقعة حافلة بالمعالم الأثرية والتراثية عن يمين وشمال ، فهناك تغفو المدرسة المستنصرية على ضفاف دجلة الخير وهي أقدم جامعة في التاريخ ، وهناك يتربع تمثال الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي، فضلا عن جامعي الوزير والآصفية العريقين ولكل منها قصص وحكايا لاتمل، هناك سوق السراي التراثي الشهير الى جانب سوق السراجين الأشهر، هناك على مرمى البصر ساعة القشلة التراثية، ولم أكد أفرغ من تأملاتي ومشاعري الجياشة تلك حتى مر من أمامي الباص الأحمر ذو الطابقيين فركبت لا اراديا والى لا وجهة محددة أريدها وانا أتمتم برائعة أمير الشعراء احمد شوقي ،عن بغداد قديما :
دع عنك روما واثينا وما حوتا ..كل اليواقيت في بغداد والتؤم
[size=32]أودعناكم اغاتي[/size]