توعّد الرئيس الأمريكي جو بايدن السعودية بعواقب وخيمة، بعد قرار أوبك بلس خفض حصص الإنتاج من النفط. وجاءت تصريحات بايدن بعد أن قال جون كيربي المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، إن بايدن سيتحدث مع كبار النواب الديمقراطيين في الكونغرس، الذين كانوا يطالبون الولايات المتحدة بتقليص تعاونها مع السعودية، في ضوء ما يعتبرونه انحيازا إلى جانب المصالح الروسية. كما تصاعدت لهجة داخل الكونغرس ضد الرياض بشكل عنيف، بعد قرار أوبك بلس، وبدت بشكل بارز تهديدات السيناتور بوب مينينديز رئيس لجنة العلاقات الخارجية، الذي قال (يجب على الولايات المتحدة أن تُجمّد على الفور جميع جوانب تعاونها مع المملكة العربية السعودية). فهل عادت واشنطن لتطبيق شعارها السابق، من لم يكن معنا فهو ضدنا، على السعودية الحليف التاريخي لها؟ يبدو واضحا أن حالة من الشك رانت على العلاقات السعودية الأمريكية مؤخرا. وعندما يسود الشك في العلاقات الدولية، تصبح قراءة المواقف التي تتخذها الدول خاضعة لفكرة الإيذاء المُتعمّد، حتى إن كانت في حقيقتها غير ذلك. ومن هنا يأتي الجدل القائم حاليا بين الرياض وواشنطن، ففي الوقت الذي تقول فيه الأولى بأن قرار أوبك كان استباقيا تحسبا لتضخم حجم الإنتاج في السوق، الذي يؤثر سلبا في الأسعار وفي الدول المنتجة، وأن أوبك بلس تجتمع دوريا وتراقب السوق النفطية بما يحقق مصالح المنتج والمستهلك من قبل فريق فني محترف، وأن دول هذه المنظمة بما فيها السعودية لا تنظر إلى النفط كعامل سياسي، بل تنظر إليه من منظور اقتصادي بحت وسلعة استراتيجية.
اقتباس :
صانع القرار السياسي في البيت الأبيض، ما زال يعتقد أن بمقدوره بمكالمة هاتفية أن يفرض ما يريد كما كان الوضع سابقا
في المقابل ترى واشنطن الموضوع عكس ذلك، فهي تعتقد أن هذه الخطوة امتداد لما حصل في قمة جدة التي عقدت في يوليو/ تموز الماضي، حيث عاد الرئيس الأمريكي بايدن خالي الوفاض، ولم يحظ سوى بزيادة طفيفة في إنتاج النفط، رغم أنه تخلى عن وعوده بجعل المملكة دولة منبوذة، وعدم مصافحة ولي العهد السعودي، وعليه فإن استنتاج واشنطن لقرار خفض الإنتاج من النفط يقول، بأن السعودية، اصطفت بشكل كامل إلى جانب روسيا، وهذا الاصطفاف آذى الولايات المتحدة في الناحيتين الدبلوماسية والاستراتيجية، حيث كانت واشنطن تراهن على الحد من عائدات النفط الروسي ووضع سقف لسعره، بالتالي خفض الإنتاج يُفشل هذين المسعيين، ويجعل القارة الأوروبية تعاني أكثر من جراء ارتفاع الأسعار. أما على الصعيد الداخلي الأمريكي فيُقرأ قرار خفض إنتاج النفط من قبل أوبك بلس، على أنه مؤذ أيضا لأنه يأتي قبل بضعة أسابيع من الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي، حيث يسعى الحزب الديمقراطي للحفاظ على أغلبيته فيه، وأن خفض الإنتاج يرفع أسعار البنزين في الولايات المتحدة، ما يؤثر في الناخب ويدفعه للتصويت ضد الديمقراطيين، إذ سوف يعتبرهم المسؤولين عن هذا الارتفاع. كما أن الجمهوريين سوف يستثمرون في هذا الوضع لجذب الناخب للتصويت لهم، كما فعل السناتور تيد كروز ووزير الخارجية السابق بومبيو، اللذان أطلقا تصريحات تحمّل الإدارة الديمقراطية مسؤولية الوضع الحالي. وسواء كان خفض إنتاج أوبك بلس دوافعه سياسية، كما تقول الولايات المتحدة، أو اقتصادية كما تقول السعودية، فيبدو واضحا أن واشنطن ورد فعلها، يصب في نطاق أنها لم تفهم بعد أن هنالك دولا جديدة في الخليج، غير تلك التي كانت تتعامل معها سابقا، كما يشير إلى أن موازين القوى الدولية الجديدة لم تدخل بعد في الذهنية السياسية الأمريكية. هم ما زالوا يفترضون أن قواعد العلاقة بين واشنطن ودول الخليج على حالها كما كانت تاريخيا، في حين أن العامين الاخيرين شهدا تبدلا في قواعد اللعبة. لقد باتت هذه الدول تنوّع علاقاتها مع أقطاب دولية وقوى ناشئة عالميا، وبدأت ترى أن لديها خيارات واسعة، ومن يعمل معها بشكل متوازن ومتكافئ فيمكن السير معه، أما عكس ذلك فإن لديها بوصلتها الخاصة التي تتحرك بها في كل الاتجاهات، كما تريد أن تكون علاقتها بالولايات المتحدة ذات طابع شراكة وليس طابع تبعية، فمجتمعات هذه الدول زاد وعيها، ولم تعد تقبل أن تكون حكوماتها تابعة. في حين أن صانع القرار السياسي في البيت الأبيض، ما زال يعتقد أن بمقدوره بمكالمة هاتفية أن يفرض ما يريد كما كان الوضع سابقا، لذلك نجد الحملة المسعورة للنواب الديمقراطيين، تشي بأنهم يريدون إعادة العلاقة بين واشنطن ودول الخليج إلى نمط التابع والمتبوع. مع ذلك ما زال الوقت مبكرا للحديث عن أن واشنطن وهذه الدول يمكن أن يذهبوا بعيدا عن بعضهم بعضا. لقد ظنت الإدارة الأمريكية أنها قادرة على التأثير في سوق النفط، وأن تقرر الأسعار التي تريد، وفقا لحسابات حملتها الانتخابية من جهة، والحرب في أوكرانيا من جهة أخرى. ومن الجدير بالإشارة إليه، أن واشنطن تاريخيا لم تكن في يوم من الأيام تكن الود لمنظمة أوبك، لأنها تريد أن تفرض منهجها في الأسعار. ومع الزمن تراجعت أوبك كثيرا ولم تعد تملك سوى 40 في المئة من السوق، لكن مع أوبك بلس زادت هذه الحصة، وأصبحت مؤثرة في تحديد الأسعار وكمية الإنتاج. وعندما لم تعد واشنطن قادرة على التحكم بها أبدت انزعاجها منها، وراحت تفسر كل ما يصدر عن هذه المنظمة تفسيرا سياسيا، مع أن التفسير الاقتصادي في ظل هبوط الأسعار إلى 80 دولارا، ووضع الصين الاقتصادي الصعب، والتنافس الروسي الإيراني على بيع النفط الرخيص إلى الهند والصين، كل هذا خلق تراجعا كبيرا في السوق النفطية، لكن كل هذه الاعتبارات لا تأخذها واشنطن بنظر الاعتبار، فهل خرجت العلاقات السعودية الأمريكية عن المعادلة التي حكمتها لثمانية عقود؟ من الصعب جدا الحديث عن الخروج من هذه المعادلة، كما أن العقوبات مثل منع بيع أسلحة وغيرها، يراه صانع القرار الأمريكي أنه سيكون دافعا للرياض باتجاه روسيا والصين، لذا فالمعادلة ليست بهذه السهولة، رغم امتلاك واشنطن أدوات كثيرة وأوراقا عديدة، يمكن أن تستخدمها ضد الرياض إن أرادت ذلك، فعمق العلاقة الممتدة نحو ثمانية عقود تتخطى الشخصيات والأحزاب، بما يجعل الإدارة الامريكية الحالية ليست حرة وطليقة اليدين لتفعل ما تشاء. هنالك جماعات ضغط داخل الولايات المتحدة لها علاقات وارتباطات بالسعودية وبقية دول الخليج، وهؤلاء حلفاء يمكن المراهنة عليهم. كما أن العلاقة بين الرياض وواشنطن لم تكن دائما على ما يرام، حيث مرت بأزمات كبرى في الفترة الماضية، لكن بقيت العلاقة متماسكة وثابتة واستطاع الطرفان تجاوز ذلك، وحتى لو اتخذت إدارة بايدن قرارا بمعاقبة السعودية، فإن ذلك سيواجه برفض داخلي أمريكي لأسباب منها، قوة ارتباط الاقتصاد السعودي بنظيره الأمريكي، والمصالح التاريخية المشتركة، كما أن اقتصاد المملكة لم يعد اقتصادا ناشئا، إذ بات واحدا من الاقتصادات العالمية القوية. يبدو أن دول الخليج بصدد اختبار نظام عالمي جديد لم يعد يرتكز على نظام القطب الواحد، وهذه الدول لا تسعى إلى تفضيل روسيا، لكن في الوقت نفسه لا تسعى لإلحاق الضرر بها، فيما لا تزال الولايات المتحدة تعتقد أن التعاون الأمني يعني دعم أهدافها الاقتصادية، وهي علاقة من المرجح أن تتدهور. كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية
واشنطن للرياض: من لم يكن معنا فهو ضدنا منذ ساعتين مثنى عبد الله