الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 10384تاريخ التسجيل : 07/10/2009
موضوع: بابل... سيطول حِزنها والبُكاء! بقلم رشيد الخيون الخميس 14 أكتوبر 2010 - 9:26
بابل... سيطول حِزنها والبُكاء!
بقلم: رشيد الخيّون كيف تموت المدن الحيَّة ذات الشأن مثل بابل أو الحلة، وتندثر تحت الأتربة، ثم تفيق وتندثر مِنْ جديد، لكن تحت عتمة الظَّلام؟ قرار محافظة بابل بمنع الاحتفالات الفنية مؤشراً على مصادرة الدِّيمقراطية بالدِّيمقراطية نفسها. والضحية فن اليوم ومعه إخوان الصَّفا، الكندي، الفارابي وابن سينا. ميدل ايست اونلاين كتب الوجيه الموصلي محمد طاهر العمري، عام 1921، متأملاً ما نصه: "أكتب هذا لشُّبان العِراق، الذِّين سيؤلفون الأدمغة المقبلة، ليتشبعوا حالاً واستقبالاً ما قَدر الله على بلادهم مِنْ الحادثات السِّياسية ليتعظوا منها، وينهضوا بهذه الأمة التَّعيسة الحظ" (العمري، مقدرات العِراق السِّياسية، الموصل: 1924). بعد تسعة وثمانين عاماً، مِنْ تاريخ تلك الوصية، يقف شاب، ذو ملامح جنوبية مكتوية بشمسه، علاه غبار حزن واكتئاب مما حوله، رافعاً لافتةً يعلن فيها تنازله عن العِراق، فهو مِنْ ولادات الحروب ونشأة الحصار، انتظر كغيره الزلزال الأكبر (9 أبريل 2003)، لكنه خُذل مرة أخرى، فاستمر يرى الأمس أفضل مِنْ اليوم. كتب: "هذا حدي يا عِراق. أطالب الحكومة العِراقية بإسقاط جنسيتي العِراقية. لكوني متنازلاً عن العِراق أرضاً وشعباً وحكومةً"! أين ذهبت التَّسعة والثَّمانون عاماً مِنْ عمر العِراق! ليصل الحال بشاب يتنازل عن وطن ضاق به. لم يكن الشَّاب موسوساً ولا خائناً، لكن للتحمل حدود، وها هي إدارة البلاد تخلق فجوة بينها وبين مواطنيها، حتى غدت الغربة وطناً! كيف تبخرت آمال العمري بعد تحقق الكثير منها: فنون وعلوم وسمعة دولية هائلة. فالبعثات إلى الخارج كانت تعود ولا يطلب الدارسون اللجوء. عاد ابن بابل عالماً في الآثار طه باقر (ت 1984) ليتسلم إدارة آثار العِراق، فأرضه مكتنزة بها. عاد ابنها علي جواد الطَّاهر (ت 1996) وها نحن نضاهي به في محافل الأدب. عرف العالم المتحضر ابن بابل، صاحب العِمامة البيضاء، عبد الكريم الماشطة (ت 1959) رائداً مِنْ رواد السَّلام العالمي. أحسبه أول فقيه يعلن موقفاً ضد السِّلاح النَّووي، هو وزميله الشَّيخ عبد الجبار الأعظمي (قتل 1971) قبل ستين عاماً. تلك بابل في ما سبق وهذه بابل التي حرم مجلس محافظتها، قبل أيام، سماع الموسيقى والغناء، فتأمل حجم الخسارة. لريادة بابل، في كلِّ شيء، وريادة فقيهها في مطلب السَّلام العالمي، كتبت قبل أعوام: "كانت عمامة الشَّيخ عبد الكريم الماشطة، عالم الدِّين الحلي، في المقدمة. وقع الشَّيخ نداء استكهولم (19 مارس 1950) لتحريم استخدام القنبلة الذَّرية جنباً إلى جنب مع الشَّاعر محمد مهدي الجواهري (ت1997)، وفردريك كوري، والرَّسام بابلو بيكاسو (ت 1973)". كيف تموت المدن الحيَّة ذات الشأن مثل بابل أو الحلة، وتندثر تحت الأتربة، ثم تفيق وتندثر مِنْ جديد، لكن تحت عتمة الظَّلام! فمِنْ فجيعة أن يجري الاندثار الحاصل تحت غطاء الدِّيمقراطية! فلو كانت الدِّيمقراطية لا تسير لصالح السِّياسات السَّائدة لصرحوا بالشِّعار: "لا إلى الدِّيمقراطية الكافرة"! وعادوا حاملين "معالم في الطَّريق"، فمهما أرادوا إغراء النَّاس باسم المذهب يفضحهم نتاج ذلك الكتاب. كان قرار محافظة بابل، في أوائل الشَّهر الحالي، بمنع الاحتفالات الفنية مؤشراً على مصادرة الدِّيمقراطية بالدِّيمقراطية نفسها. لقد غطى المشهد السِّياسي العِراقي السَّاخن على هذا القرار، ومرَّ بلا اعتراض وإدانة. عللَّت محافظة بابل اتخاذه بالعذر: "المدينة لها طابعها الإسلامي". ولا تفسير للطَّابع الإسلامي سوى ما في نفس مانعي الموسيقى. فأية مدينة عراقية خالية مِنْ هذا الطَّابع! ألهم تكفير آبائنا لأنهم كانوا يسمعون الموسيقى ويصلون ويصومون! هل ارتبطت الحضارة الإسلامية بتحريم الموسيقى! هل غدا الفلاسفة: إخوان الصَّفا، الكندي، الفارابي وابن سينا خارج الإسلام، وهم أصحاب الرَّسائل الشَّهيرة في الموسيقى! أمِنْ ثوابت الطَّابع الإسلامي استخدام الآلات الموسيقية في الحزن لا للفن! انظروا ماذا يحصل وسط الحلة، مِنْ مهازل يندى لها الجبين باسم الدِّين، وسلطتها تعتبرها شعائر! كيف تؤتمن مثل هذه السُّلطة على الموروث البابلي، والآثار ليست ذات طابع إسلامي! مع علمنا أن الفرق الموسيقية العالمية، التي قدمت للاحتفال ببابل كانت مهووسة بسمعة بابل وآلاتها الموسيقية. فليس أشهر مِنْ القيثارة السُّومرية، التي استمرت وتطورت ببابل، والأخيرة أبدعت غيرها مِنْ الآلات، وما ظهر منها مِنْ تحت التَّراب، مما كان يسمى بخرائب بابل، سيندثر بالظَّلام. مَنْ يريد الوقوف على عظمة بابل في الموسيقى عليه قراءة كتاب الأثاري صبحي أنور رشيد "تاريخ الآلات الموسيقية في العراق القديم" -لا ندري تحت أية نجمة يعيش هذا الخبير الجليل- وسيجد أن العالم لا ينسى للعِراق تلك الرِّيادة في هذا الفن، لكن ليس في عهد مثل عهد مجلس محافظة بابل. عدَّ رشيد ببابل القديمة ثمانية أنواع مِنْ الآلات الموسيقية: الحنك، القيثارة، العود، الدَّف، الصُّنوج، النَّقارة، القرن، المزمار. أقول: هل سمعتم بشعب مِنْ الشُّعوب، أو زمن مَنْ الأزمان، عاش بلا موسيقى وغناء! ما هي حضارة العِراق إذا حُرمت وكُسرت القيثارة، وألغيت الفرق الموسيقية؟! لكن مِنْ حق سلطة بابل التَّعامل مع الموسيقى بهذه الحساسية المفرطة لينعموا بطابعهم الإسلامي، إذا كانت ثقافتهم قائمة على تحويل الفنون إلى مآتم. يغلب على الظَّن أنهم راجعوا قبل اتخاذ القرار كتاب "الغناء في الإسلام"، وما على شاكلته، فكاتبه العاملي عدد للموسيقى والغناء ستة مضار: ضغط الدَّم، مرض الأعصاب، الصِّداع، فقدان الإرادة النفسية، السَّكتة القلبية، إزعاج الجنين! هذه هي الثَّقافة السِّلبية التي تجيز العويل وضرب الطُّبول وتعطيل البلاد لأيام، وتأتي بأضرار الموسيقى، لا تعترف بأن العلاج بالموسيقى، والأصوات الجميلة، غدا مستشفيات ومعارفَ. فأي طبيب أثبت مضار لسماع بتهوفن، موزارت، الفرقة السِّمفونية العراقية (تأسست 1947)، محمد القبانجي، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، عزف الشَّريف محيى الدِّين ومنير بشير، صوت داخل حسن وحضيري أبو عزيز، حسين نعمة، وما لحنه الحلي كوكب حمزة. أقول إذا نويتم على قطع أوتار آلات هؤلاء وخلعتم حناجرهم عليكم تحشيد حملة لقتل الطُّيور التي تمر بأجواء إمارتكم، لأنها تعزف الألحان أيضاً. لا أجد تشبيهاً لما حصل ببابل، إلا التَّذكير بـ"طالبان" اليوم، ومحتسبة القرون الخوالي، أصحاب البَربهاري (ت 329 هـ). حاول هذا الرَّجل وأصحابه إخلاء بغداد مِما يُخالف عقائدهم، ويقتحم المنازل لتكسير المعازف. لكن الخليفة الرَّاضي بدين الله (ت 329 هـ) أوقفهم عند حدهم بالقرار الآتي: "أمير المؤمنين يقسم الله قسماً جهد إليه، يلزمه الوفاء به لئن لم تنصرفوا عن مذموم مذهبكم، ومعوج طريقتكم، ليوسعنكم ضرباً وتشريداً ..." (مسكويه، تجارب الأمم). لكن المصيبة، في هذا الزَّمان، أن المحتسب أبا محمد البربهاري حلَّ محل الخليفة الرَّاضي بالله، فإلى مَنْ المشتكى!