من ياسين الهاشمي إلى طارق عزيزالتأريخ يعيد نفسه
بقلم: صفوة فاهم كامل
من ياسين الهاشمي إلى طارق عزيز التأريخ يعيد نفسه
في مثل هذه الأيام تمرُّ الذكرى الثامنة لوفاة نائب رئيس الوزراء العراقي ووزير الخارجية الأسبق طارق عزيز. ففي يوم 5/6/2015 لفظ عزيز، أنفاسه الأخيرة وأغمض عينيه للأبد وغادر الدنيا بلا عودة بعد أن دنا عمره من الثمانين عامًا، وكانت المحكمة الجنائية قد حكمت عليه عام 2010 بالإعدام شنقًا، فأثار ذلك الحكم إدانة إقليمية ودولية من أساقفة عراقيين ومن دولة الفاتيكان والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فغيّر إلى السجن المؤبّد.
رحل ذلك الإنسان المثابر والدبلوماسي الحاذق، وهو في صراع مرير مع زنازين أعدائه وشرور غرمائه، لمدّة اثني عشر عامًا، لم تتحرّك ضمائرهم أو تستنهَض إنسانيتهم تجاه رجل مُسن خدم العراق بكل جوارحه، وأبدع في صنعه، وأفنى عمره من أجل وطنه، وهذا هو حال أغلب السياسيين في العراق على مدى قرن من الزمن.
طارق عزيز المولود عام 1936 كان وزيرًا للإعلام في عهد الرئيس أحمد حسن البكر، ووزيرًا للخارجية ونائب رئيس الوزراء خلال حقبة حكم الرئيس صدام حسين. ظلَّ عفّ اللسان لآخر يوم من حياته حتى هصرَ الموت غصنه هصرًا في معتقله بسجن الناصرية أو ما يسمى بـ (سجن الحوت)، بعيدًا عن عائلته المغتربة في الأردن وأهله الآفلين في العراق وبيته المغتصب على نهر دجلة الخالد في عاصمة الرشيد بغداد.
مات طارق عزيز، ذلك الرجل الذي لم تُفزعه قنابل الخسّة في الجامعة المستنصرية عام 1980، ووقف وقفة شموخ وكبرياء بوجه الفرس الطامعين في القادسية الثانية، وضد وزير خارجية أمريكا الماكر جيمس بيكر في جنيف، والقاضي السمج في المحكمة؛ فأخمد بسيجاره المُخمّر أصوات هؤلاء وناوءهم بعقله النيّر.
إذا ارتقى مِنبـراً يُملي بديهتهُ أتى من الكلمِ الباقي بمختارِ
المغفور له -بإذن الله- أوصى عائلته بدفنه في الأردن خشيةً من نبش قبره على يد الأوباش، على أنْ يُعاد رفاته إلى بلده ليدفن فيه عندما تصبح الظروف مواتية وحال البلد أفضل.
وصيةٌ ويا لها من وصية ...!
وبُعيد وفاته، صرّح السفير العراقي في الأردن د. جواد هادي عباس من خلال وسائل الإعلام بأن رئيس وزرائه حيدر العبادي وافقَ (متفضِّلًا ورحومًا) على نقل جثمان طارق عزيز من بغداد إلى عمّان لدفنه هناك، لكن هذه الموافقة كانت مشروطة بشرط غريب وغير مسبوق هو: (أن تتعهد عائلته بعدم إقامة مراسم جنائزية له، وأن يتم نقله فورًا من المطار إلى المقبرة، ومنع أي هتافات أو تجمعات لأنصار حزب البعث في مراسم الدفن) ...!
وهكذا طار جثمان (عزيز) ليرحل بعيدًا عن تراب بلده!
فمتى أصبحت الجثث تُخيف؟
ومتى أصبح الأنسان مرغمًا على أن يكون بعيدًا عن وطنه وهو ميّت؟
فلا غرابة لأفعال شائنة ومستهجنة كهذه، لأنها لا تصدر إلَّا من دول حُكامها أو حكوماتها لا تجلّ مواطنيها في حياتهم ولا تعتبرهم في مماتهم، وتهاب ردّة فعل شعوبها، وتطعن في آخر حق من حقوق المواطن في وطنه!
هذا الشرط العاسف واللاإنساني من رئيس وزراء دولة تجاه نائب رئيس وزراء الدولة ذاتها يُعيدنا إلى تاريخ سابق ويذكّرنا بحادثة مشابهة وقعت قبل أكثر من سبعة عقود لرئيس وزراء العراق الراحل ياسين باشا الهاشمي، العروبي الشامخ الملقب بالرجل ذي الدماغين.
كان ياسين الهاشمي ضابطًا محنّكًا في الجيش العثماني، شارك في حرب البلقان وقاد معارك كبيرة إبَّان الحرب العالمية الأولى في الأردن وفلسطين ثم التحق بالملك فيصل في سورية حيث ولّاه رئاسة ديوان الشورى الحربي قبل أن يعود إلى وطنه الأم ويؤسس حزب الإخاء الوطني عام 1922 ويصبح وزيرًا للأشغال والمواصلات. وفي عام 1924 تقلّد رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع، وبعدها أصبح وزيرًا للمالية في وزارتين، ثمَّ عضوًا في مجلس النواب. وفي عام 1935 شكّلَ وزارته الثانية لغاية عام 1936 عندما وقع ضدّه وضد وزارته انقلاب عسكري كان الأول في تاريخ المنطقة العربية، فغادر مُرغمًا مع من غادر من زملائه إلى بيروت من غير مجابهة غريمه أو التصدي لهذه الحركة، حقنًا لدماء أبناء بلده.
وبعد ثلاثة أشهر من خروجه مُجبرًا توفاه الله في غربته ومنفاه الاختياري، وعلى إثر هذه الوفاة المفاجئة أبرق شقيقه طه الهاشمي الى الملك غازي يخبره بالوفاة ويرجوه الموافقة على نقل الجثمان إلى بغداد ليدفن فيها، لكن الأخبار تسرّبت له ووصلت في حينها أن الحكومة الانقلابية لن تستقبل الجثمان ولن تدفنه بمراسيم تليق برجل عظيم مثل ياسين الهاشمي، بل ستجري مراسم الدفن سرًا وفي غسق الليل. وإنَّ الحكومة الانقلابية منعت أيضًا الفريق طه الهاشمي -رئيس أركان الجيش قبل الانقلاب- من مرافقه جثمان أخيه إلى بغداد.
وكرد فعل سريع لهذا التوجُّه عرضت الحكومة السورية على العائلة دفنه في دمشق، فخرج النعش من داره في بيروت يحمله طلاب الجامعة الأمريكية وقد لُفَّ بالعلم العربي وسارت بالنعش فرقتان من البوليس اللبناني
وإذا رأيت جنازة فاحمِل بها وأعلم بأنَّك بعدها محمول
وفرقة الكشافة الإسلامية والطلبة العراقيون والعرب وكبار المسؤولين والوزراء والسياسيين والأدباء، فيما أطلَّت النسوة من الدار ينادين (مع السلام ياسين... يا رفيق فيصل الملك).
أمّا الجماهير العربية فقد أبت إلا أن تَنقل جثمانه الطاهر بسيارة مكشوفة وبموكب مهيب من بيروت إلى دمشق، وخلفه سار عدد هائل من المشيّعين لا يدخل في نطاق الحصر أو العدّ.
وعندما وصل النعش إلى دمشق لُفَّ بالعلم العراقي وكانت الجماهير العربية في سورية أبيّة معه والمسؤولون فيها حريصين على تكريم هذا الرجل الذي جاءها مُبعدًا وهي الدولة التي شاركَ في إنشائها وأحبّها، وحرصت الجماهير العربية في سورية، عندما هزّها نبأ وفاة ضيفها العظيم على أن تبدي كل ما تملك من شعور وإخلاص للعروبة، فاستقبلته أعظم استقبال، كان في مقدمتهم أعضاء الحكومة السورية والشباب الوطني من ذوي القمصان الحديدية. وكان يوم وفاته يوم حداد وطني عام في سورية.
ونُقلَ الجثمان إلى المسجد الأموي للصلاة عليه، وبعد الصلاة نقل إلى مشهد سيدنا الحسين u لينقل فيما بعد إلى بغداد. بقي النعش في مرقد الحسين لمدة ستة أيام في انتظار رد الحكومة العراقية، إلا أن حكومة بغداد منعت شقيق الفقيد في آخر ساعة من مرافقة النعش، فقررت العائلة دفنه، وبموافقة الأوقاف الإسلامية، في الجامع الأموي وودّعت الجماهير جثمانه الطاهر أروع وداع ليوارى الثرى تحت مئذنة الجامع الأموي في دمشق بجانب ضريح الناصر صلاح الدين الأيوبي. ونُقشت على شاخص قبره العبارة المعبّرة:
﴿ هنا يرقد زعيم العراق والعروبة ياسين باشا الهاشمي ﴾
وألقى جميل مرْدم بيك، رئيس وزراء سورية آنذاك والسياسي والمناضل الوطني، كلمه طويلة ومؤثّرة أمام نعشه ختمها بعبارة: (نمْ في مستقرّك كما ينام البطل الشجاع الذي عقد النصر بلوائه وضفر المجد له).
وبعد خمس وسبعين سنة من ذلك الحدث الجلل، فإنَّ مدينة عمّان وجماهيرها الغفيرة كانت عازمة على أن تستقبل جثمان (عزيز) باللوعة والأسى الذي استقبلت به دمشق سلفه الهاشمي.
فأين سيدفن وماذا سيُكتَب على شاخص قبره؟
طارق عزيز أثار انبهار كل عربي واكتسب احترام الجميع وإعجاب غرمائه الغربيين قبل أصدقائه العرب لإخلاصه ووفائه تجاه مَن عمل معهم من زعمائه حتى في أحلك الظروف وفي آخر اللحظات، ولكفاءته النادرة وكريم فعاله الخافية والظاهرة تجاه بلده العراق والأمة العربية وقضاياه المصيرية، وبخاصة قضية فلسطين، وعدَّه الكثير من المتابعين المحليين والأجانب والسفراء من أكفأ الشخصيات التي حملت حقيبة وزارة خارجية العراق ومن الطراز الأول، على مدى تاريخه الحديث، إلى جانب وزراء آخرين لا يقلُّون كفاءة عنه، فقالت له مدينة عمّان: إلزامًا يا أبا زياد، ستستوي في مرقدك الأخير عسى أن تكون من الشّهداء المقرَّبين في أعلى علّيّين، تحملُ آمال أمّة مفجوعة وأماني شعب مرزوء.
سيذكره العراقيون والعرب كلما تلفّتوا بقلوبهم وعيونهم إلى ماضي هذا الرجل وهم على ضفاف نهر دجلة الأزلي. سترثيه قلوب الذين عرفوا عربيته الصميمة وهي تجفل من المستقبل إذا ما ظل حال البلاد العربية كما هو الآن، فكما كانت دمشق الأموية في قبره أرحبَ صدراً من القلوب الغليظة الحاكمة في بغداد العباسية وعانقت ياسين
وضمَّته إليها وقبّلته بعد ألف سنة، فإنَّ مملكة عمّون ستضم جثمان طارق بين ثراها الطاهر بعد ثلاثة وثلاثين قرنًا. فالأرض التي أكرمتك هي وطنْ، وكل أرض أهانتك هي غُربة وإذا ما رفضت الأرض استقباله، فحتماً ستضمه الصدور في قلوبها.
وبالفعل وبعد تأخر مقصود وضبابية غريبة في نقل جسد طارق عزيز من بغداد إلى عمّان استمرَّ أكثر من أسبوع، وقيل في حينها إنَّ الجثمان قد خُطف من جهات ضاغنة معروفة الاتجاه والانتماء، طار الجثمان على متن طائرة الخطوط الملكية الأردنية ووصل عمَّان مساءً، وكان في استقباله عند باب الطائرة ابنه البكر زياد. أما خارج المطار فكان بانتظاره عدد محدود من العراقيين وأضعاف مضاعفة من الأردنيين رافقوا نقل الجثمان بسيارة إسعاف ترافقها سيارات شرطة إلى مستشفى المركز العربي الطبي حيث رقد ليلته الأولى بسلام في إحدى ثلاجاتها.
وعلى ما يبدو فإنَّ الرياح هبّت بما لا تشتهيه سُفن رئيس الوزراء العراقي ولا المناوئين من الحكومة وأحزاب السلطة ضد طارق عزيز، بل جاءت قرارتهم بنتائج سلبية ضدّهم وإيجابية على الصعيد الشعبي، كما هي الرياح عندما هبّت ضد رغبة حكومة بكر صدقي - حكمت سليمان الانقلابية في جنازة ياسين باشا الهاشمي، وجرى ما جرى في حينها.
وكان مرافقو الجثمان من المواطنين الأردنيين وعلى طول الطريق الواصل بين المطار والمستشفى يرفعون صور الفقيد وصور الرئيس صدام حسين وعلم العراق قبل الاحتلال وهم يرددون هتافات حماسية تُمجّد له ولرئيسه ونظامه السابق.
وكان أهالي مدينة الكرك ومدينة الفحيص ومدينة مأدبا الأصلاء قد طالبوا بإلحاح بدفن طارق عزيز في مقابر مدينتهم إلا أنَّ الأمر تُرك لعائلة الفقيد وموافقة السلطات الأردنية، فاستقرّ الرأي على دفنه في محافظة مأدبا الواقعة على بعد 33 كم جنوب عمّان.
وبعد انتهاء الترتيبات النهائية حول مراسم التشييع وتوقيتاتها بين الجهات الرسمية وعائلة الفقيد، نُقل الجثمان في اليوم التالي إلى كنيسة الناصرة في ضاحية الصويفية، وهي واحدة من أكبر كنائس عمّان وأهمّها، وأغلقت جميع الشوارع المؤدية إليها. وجرى له قُدَّاس كبير جدًا، امتلأت قاعة الكنيسة الرئيسة وباحتها الخارجية بحضور غفير من المصلّين المعزّين فيما تجمّع خارج الكنيسة وفي الشارع جمهور من المشيِّعين قدّر بالمئات.
أقيمت مراسم العزاء واستقبال المعزّين في قاعة النبر بعمّان -أكبر قاعات العاصمة للمناسبات- لمدة ثلاثة أيام توافد خلالها المئات من البعثيين ورفاق الأمس من الأردنيين وكبار مسؤولي الدولة ونخب واسعة من المكونات الاجتماعية الأردنية، وشباب من جبهة التحرير الفلسطينية، والعشائر الأردنية النبيلة، وبخاصة عشائر بني عِباد التي أقامت وقدّمت واجب الولائم على روح الفقيد لثلاثة أيام. كما حضر بيت العزاء أيضًا جمهور غفير من العراقيين المقيمين من بينهم أعضاء وقيادات في الحكومة العراقية السابقة.
أما على الصعيد شبه الرسمي فقد قرأ أعضاء البرلمان الأردني تحت قُبّتهم سورة الفاتحة على روح طارق عزيز تفاعلًا مع توصية تقدم بها النائب البارز خليل عطيّة. فيما عبَّرت الحكومة العراقية عن انزعاجها من المظاهر الشعبية
والحفاوة الكبيرة التي رافقت تشييع الجثمان والعزاء في الأردن، وغابت -بطبيعة الحال- السفارة العراقية وأعضاؤها عن كل هذه الإجراءات والمراسيم.
وبانتهاء هذه المراسم الجنائزية المهيبة انطوت صفحة طارق عزيز في الحياة كما انطوت صفحة ياسين الهاشمي من قبل، وآن الأوان أن يستريح ويهدأ بعد أن تعب من الكَدّ وشبع من الظفر، أما جثمانه وضريحه فانضمَّا إلى آخر القائمة الطويلة من الرموز والأعلام العراقية التي تُدفن بعيدة عن وطنها، لتبقى تحت ثرى أوطان الغربة تَحنُّ إلى تربة العراق ولو من بعيد.
مرحى لسورية العروبة... وعزّةً للهاشميين في الأردن وفي كنفهما الهاشمي وعزيز ... وكأن تاريخ ياسين أعاده طارق... والتاريخ أعاد نفسه...!
وصدق لسان الشاعر حين قال:
لئـن حُرمتَ ثرى بغداد تنـزِلُهُ وما كمثل ثراها طيبُ أبشارِ
لقد نزلت ثرى أهلٍ ذوي رحمٍ
كرفرفِ الُخلدِ لم يُدنس بأوضارِ
مستل من كتابي: من ذاكرة الأيام والأزمان