كان في ستينات القرن الماضي يعيش في مدينة السليمانية - إقليم كردستان العراق - رجل ذو شهرة شعبية يدعى (ملا إسماعيل ) ، عندما يسمع من الجالسين في مقهى (حمه رَق !) - مقهى شعبي في مركز المدينة - يتحدثون عن ظهور المظاهر الحياتية الجديدة من الأفكار والتقاليد والتأثيرات على تطور المجتمع وحرية الفرد و اختياراته ، يرد ملا إسماعيل وبصوت عالٍ كأنه يخطب : (.... لا جديد تحت الشمس ، كل المظاهر الكاذبة اليوم هي نفس مظهر الأمس ولكن تغير لونه وأحياناً اتجاهه ..لا تنخدعوا ببريق كلمات النخبة حتى لا تخسروا أكثر......!!) وكان أكثر الأحيان يستقبل الجالسون ملاحظات الملا بالتصفيق والقول ( أنت صادق ...!) .. ومن غرائب الأمور في تلك المرحلة ، وأنا أشد الرحال إلى بغداد العاصمة بحثاً عن لقمة العيش وطريق يؤدي بي إلى (مهنة البحث عن المتاعب – الصحافة ) عرفت أن بغداد أيضاً لها ملا إسماعيل ولكن بإسمٍ مختلف ، وهو ( أبو حقي ) ، والفارق أن أبا حقي كان يخطب في شارع الرشيد متجولاً بملابس ( أفندية ) وربطة عنق ولكن ملا إسماعيل كان يجلس في المقهى بملابس كردية ومتشابهين في أناقة الملبس ! وكان أبو حقي ، يبدأ رحلته اليومية من منطقة ( الحيدر خانة ) ماراً بساحة الرصافي وينتهي بجولة إلقاء الخطبة في تقاطع ( حافظ القاضي ) بعد قطع كل عشرة أو عشرين متراً يقف أبو حقي على الرصيف ويلقي خطبة قائلاً ( كلهم يكذبون عليكم ، منذ أن فتحنا أعيننا ونحن نسمع ونرى الأقلية يصعدون على حسابنا ، ويعدوننا بضمان الحرية والعيش الكريم ، هم يكبرون ونحن نعاني من الفقر والذل ...) وتتحول كلمات خطابه إلى لغة بغدادية دارجة ويقول : ( يابة شوية فكروا ...بعد لا تصدكوهم ....والله إذا حصل التغيير لا يكون هناك شيء مضمون في الجوهر ..) والمارين في شارع الرشيد ، بعضهم فضوليون يقفون يناقشونه ، ولكن الأكثرية يمرون ويرددون ( والله حقك يا أبو حقي ) ويمشون إلى حال سبيلهم ، وهو يحييهم كما كان يحيي الزعيم عبد الكريم قاسم الجمهور عندما يلقي خطبه !
كلما أسمع أو أقرأ الحديث ( حاسماً وحماسياً ‘هادئاً أو بشكل فوضوي وأحياناً معارك طاحنة ) حول (الديمقراطية) وحرية الفرد ....والتبادل السلمي للسلطة أولا أتذكر قول الكاتب الارلندي الساخر ( برنارد شو ) حيث يقول : ( الديمقراطية منهج يضمن اننا لن نحكم بافضل مما نستحق ) ، وكذلك أتذكر موقف هذين الرجلين ونظرتهم حول ادعاءات الأقلية المتنفذة والسير الغريب للأكثرية وراء تلك الإدعاءات ، تعلمنا ونحن في بدايات فهمنا للأمور السياسية ومعاني الحرية والحكم والوصف التاريخي للديمقراطية ، كان الوصف يصلنا من خلال كلمات في غاية البساطة : ( ..وهي كلمة مركبة من كلمتين يونانيتين الأولى تعني عامة الناس والثانية تعني الحكم .. أو حكم الشعب لنفسه !!)...إذاً أن الديمقراطية تعني في الأصل حكم الشعب لنفسه ، قائمون بالإجمال على التداول السلمي للسلطة ... والآن حسبما تدعي المصادر المعلوماتية في بداية القرن الواحد والعشرين هناك ما يزيد عن نصف سكّان الأرض في أوروبا والأمريكيتين والهند وأنحاء أخرى يعيشون في ظل حكم يحمل هذا العنوان ! ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وفي بعض مناطق المعمورة على الكرة الأرضية كان ولا يزال هناك نوع آخر من الأنظمة لا تجد فيها أية إشارة إلى ثقافة سياسية تظهر مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلمياً وبصورة دورية وليس على الوئام مع وصف حكم الشعب لنفسه حسب الوصف التاريخي ويحكم شعوب المناطق حكماً شمولياً مع ذلك وضع مصطلح الديمقراطية عنواناً لنظام الحكم ، مثل ( الصين وفيتنام وكوريا الشمالية...الخ ) ولنراجع التأريخ والبيئة التي توجه فيها البشرية لوضع أسس لتنظيم حياتهم والتوجه من أجل ذلك إلى مبدأ ( حكم الشعب لنفسه ) وهم اليونانيون ! هل ترى في أرض الواقع عند المراجعة ‘ غير تسجيل المجد للأباطرة والقياصرة وبقية الرعية ؟ و الأكثرية الذين يستجيبون لنداء القياصرة إما حاملين السيوف للقتال أو حاملين الصخور لبناء القصور وساحات استعراض القوة إرضاءً للقيصر‘ وهكذا ومنذ فجر التأريخ سجل تضحيات الآكثرية علامات المجد للقياصرة ‘ فكان ظهور ظاهرة (شخصنة التأريخ ) ، وفي تلك الحقبة التاريخية ما كان للقيصر ان يذهب لقيصر ، وما كان لله ما كان هناك مرشد يوصلها للناس ! ويدور الزمان والظاهر أن أولياء أمور الناس يرعون مصالح الناس بتلك الطريقة الغريبة ومع كل الانعطافات الحادة أحياناً والهادئة والمدروسة أحياناً أخرى من قبل النخبة القوية يتغير الأسلوب ويبقى الجوهر ( ركض الأكثرية ومكسب للنخبة وهم دائماً الأقلية ) حتى وعندما أنزل الله على البشرية الرسالات السماوية وكان في كل رسالة جلب انتباه الناس الذي أعطاه الله العقل والبصر واللسان ليكون على أحسن تقويم عليهم أن يسيروا على طريق العدل ونبههم أن خلقتم من نفس واحدة وكانت آخر رسالة من الله حملها آخر الأنبياء تأكيداً للدعوة نفسها مستندة على كل الرسائل السماوية في العدل والإحسان والمساواة في الحقوق والواجبات ، ولم يسجل في التأريخ أن حامل آخر رسالة كانت له قصور مشيدة ولكن قوته كانت بمعايشة الناس كل الناس في السراء والضراء
ولكن الان ‘ ان البشرية أمامَ هذا الواقع المزري للحياة وعنوان مرحلته الحياتية ( الديمقراطية و الحكم الاكثرية ...) وأنتَ ترى أن النخبة تتحكم بمصير الأكثرية وأنهم لا يترددون لإجهاض أية محاولة لعودة بريق بناء القوة والسلطة تكون صادقاً في العمل من أجل ضمان الحرية التي تضمن بشكل متوازن بين البشر في اختيار الحياة التي فيها الشعور الروحي بوجود العدل الصادق في الموقف والتصرف لصالح الأكثرية ، وأمام هذه الصورة العبثية لا تستغرب حينما تسمع صدى لصوت ( ملا إسماعيل ) و ( أبو حقي ) وبعد 23 من دخولنا الألفية الثالثة يأتي بمفهوم آخر موجه للناس مردداً المثل الأفريقي القائل : ( لا يمكنكَ تغيير الريح ولذا غير اتجاه الشراع )
أطلعت (متأخر قليلاً) على مقال كتبه الرئيس الكوبى السابق والثورى العالمي اللامع في ستينات القرن الماضي (فيدل كاسترو) بعنوان (بدون عنف ومخدرات)‘ورغم خلافنا العميق من الجانب الفكري مع الرجل ‘ من الواضح أنه كانَ ‘ (الحاكم) مستند على إرادة شعبية فيما يفهم هو و شعبه لضمان معنى الحرية التى ينشدونها ورفضه للعبة التبعية لإرادةٍ تفرض عليهم خارج خط حدود بلدِهم اصحابة الشرعيين ولهم حق الاختيار ‘ لذا حاصرهم ألامريكان ولحد هذا الوقت ‘ يقدم في هذا المقال وبالآرقام أن هذا الحصار بدلاً من أن يؤدي إلى ظهور مجتمع (متفكك) يصطاد بسهولة من قبل أمريكا ‘ ترى ان كوبا البلد الوحيد في أمريكا اللاتينية خاليه (من العنف والمخدرات)وهما ظاهرتين خطيرتين تعاني منها شعوب امريكا اللاتينية ‘ يشرح (كاسترو) الرئيس ‘ و المواطن في كوبا الأن صورة أمريكا اللاتينية ويقول :
(... 27 % من الذين يقضون ضحية العنف في العالم هم من أمريكا اللاتينية، مع أن عدد سكانها لا تصل نسبته إلى 9 % من عدد سكان المعمورة. خلال السنوات العشر الأخيرة قُتل مليون و200 ألف شخص في المنطقة نتيجة أعمال عنف.
استناداً لما ذكرته ’المنظمة الإيبيرية-الأمريكية للشباب‘ فإن نصف الشباب الأمريكيين اللاتينيين البالغ عددهم أكثر من 100 مليون بين الخامسة عشرة والرابعة والعشرين من العمر لا يتمتعون بفرص العمل ولا بإمكانية الحصول عليها إضافة إلى أن واحداً من بين كل أربعة شبان أمريكيين لاتينيين لا يعمل ولا يتعلّم.
وحسب منظمة الأمم المتحدة فإن الفقر يوجد عندما لا يستطيع الأشخاص تلبية احتياجاتهم الأساسية للعيش بكرامة: الغذاء الكافي، المياه الصالحة للشرب، العيش في مسكن كريم، العناية الصحية الأساسية، التعليم الأساسي... البنك العالمي يصنّف هذا الفقر مضيفاً أن الشخص شديد الفقر هو من يعيش بدخل يدنو عن الدولار وربع الدولار في اليوم.
وحسب التقرير الذي نشره كابجيميني وميريل لينش عن الثروة العالمية 2010، فإن ثروات الأمريكيين اللاتينيين الأغنياء قد زادت بنسبة 15 % خلال عام 2009. ‘ و في السنتين الأخيرتين بلغت ثروات الأمريكيين اللاتينيين الأغنياء من النمو أكثر مما بلغته في أي مكان آخر في العالم. يصل عددهم إلى 500 ألف ثري، حسب تقرير كابجيميني وميريل لينش. هكذا نصف مليون الآغنياء مقابل 190 مليون فقير !! فبينما هناك قلة تخزن الكثير، هناك كثيرون لا يملكون شيئاً.
هناك أسباب أخرى تفسّر العنف في أمريكا اللاتينية. للفقر والتفاوت صلة دائماً بالموت والألم. أن [64 % من الثمانية ملايين الذين قضوا بسبب السرطان في العالم هم من المناطق ذات الدخول الأدنى، التي لا يخصّص لها إلا 5 % من أموال مكافحة السرطان؟ ) وبعد هذا العرض لمأساة شعوب أمريكا اللاتينية ذات نظم الاسواق المفتوحة برعاية مافياة الرأسمالية ‘ لرجل حق أن يفتخر بنوذج السلطة ‘ شعبة لايعاني من تلك المأساة لانه يقودة الارادة نابع من بلدهم ‘ كاسترو يكتب ويقول :
(نسبة وفيات الأطفال في كوبا هي دون الخمسة بين كل ألف مولود حي؛ وعدد حالات الوفاة بسبب أعمال العنف تقل نسبتها عن الخمسة بين كل مائة ألف نسَمة.
مع أن الأمر يخدش تواضعنا، فإنه واجب مرير علينا التأكيد أن بلدنا المحاصَر والمهدد وموضع الافتراء، قد أثبت أن بوسع الشعوب الأمريكية اللاتينية أن تعيش بدون عنف ولا مخدرات. بل وأنها تستطيع العيش، وهذا ما حدث على مدار أكثر من نصف قرن من الزمن، بدون علاقات مع الولايات المتحدة الامريكية. وهذا الأمر الأخير لم نثبته نحن، وإنما أثبتته امريكا بعينها.)
واخير ‘ نختم حديثنا ايضا بقول (برناردشو) قائل : لاتستحق الاغلبية ان تضحي بنفسك من اجلهم ولاتستحق الاقلية الباقية الخيانة )ولله في خلقه شوؤن .