ليست المرة الأولى التي يختلف فيها رؤساء المافيات في السلطة، ويشتد الصراع بينهم على تقاسم المخصصات المالية، التي وردت في الميزانية التي اقرها البرلمان وشملت ثلاثة سنين، وليست سنة واحدة كما هو معمول به في كل دول العالم. ففي الامس القريب اختلف هؤلاء الأشرار حول تشكيل حكومة، تضمن لكل حرامي حصته، الى درجة هدد هذا الاختلاف بسقوطهم، لولا تنازل مقتدى الصدر عن حقه في تشكيل الحكومة، على الرغم من انه الفائز الأول في "الانتخابات"، مقابل ضمان حصته من الغنيمة. ليثبت الصدر مرة أخرى بانه صمام الأمان لهذه العملية المخزية.
اليوم يعود هؤلاء الأشرار من جديد الى الاختلاف، حول انتخابات مجالس المحافظات، التي ستجري في نهاية هذا العام. وحصة كل طرف فيها. لكن هذه المرة، ليست بين مقتدى وتياره، ونوري المالكي واطاره فحسب، وانما بين أطراف الإطار نفسه. حيث عجز ولي امرهم ملالي طهران، عن اقناعهم بلم الشمل والنزول بقائمة موحدة. حيث اختار كل واحد منهم النزول بقائمة مستقلة، خشية من استئثار رئيس الإطار نوري المالكي وحزب الدعوة بحصة الأسد. خاصة وان هناك شعورا يسود في صفوفهم بدنو اجلهم على يد الشعب العراقي. وفق هذا السياق تخلى مقتدى الصدر عن عزلته السياسية المفبركة والعودة لساحة السباق، خشية من فقدان حصته من الغنيمة، او التقليل منها. حيث أصدر
عدة تغريدات تشير الى عودته للسباق اختتمها باستعراض قوته، بغلق مكاتب حزب الدعوة في عدد من المحافظات، ثم الانسحاب منها والتبرؤ من الفاعلين. تلاها قيام تياره بحرق السفارة السويدية، واجبار الحكومة على طرد السفير بسبب سماح السلطات السويدية، للاجئ عراقي بحرق القران الكريم. لينتهي بتنظيم مظاهرات تطالب البرلمان بإصدار قانون يحرم الإساءة لوالده وعمه، لتدعيم موقعه وعدم التعرض اليه مهما قام بأفعال مشينة. لكن هذا ليس كل شيء، فمقتدى هو جزء من العملية السياسية وصمام امانها. والفدائي الأول للذود عنها وحمايتها من السقوط. فالرجل عاش في ظلها وتمتع بخيراتها ونال السلطة والمال بفضلها. فهو قد أدرك بان العملية السياسية أصبحت مهددة بالسقوط، ليس بسبب الخلافات بين أطرافها، وانما بسبب فشل حكومة محمد شياع السوداني، في تنفيذ برنامجه المتخيل للإصلاح. لذا لا خيار لديه غير مواصلة ما اشتهر به من قدرة على القتل والاختطاف وترويع الناس للقضاء على اية انتفاضة او ثورة شعبية تسعى لأسقاط العملية السياسية. وخير دليل على ذلك ما قام به من قتل علني بكل الأسلحة لثوار تشرين الابرار. مهما تلاعب هؤلاء الأشرار، او احتالوا او خدعوا بعض الناس، فالصراع الذي يدور بين عموم الشعب وبين هؤلاء الأشرار واسيادهم، لم يتوقف منذ اليوم الأول لاحتلال العراق. بل أصبح صراعا واضحا
ومحددا بين قوتين، هما قوى الحق الممثلة بثورة تشرين التي تتأهب للعودة بقوة، وقوى الباطل الممثلة بالمحتل وعملائه في المنطقة الخضراء، ومن ضمنهم مقتدى الصدر وتياره. وهذه المعادلة في مسيرة الصراع كفيلة بتوفير الشروط اللازمة لانتصار الثورة في نهاية الامر. هذه الحقيقة لا تحتاج لإثباتها مزيدا من مناقشات سياسية او تحليلية، ولا هي بحاجة لنظرية متكاملة، فهي قد شرحت نفسها بنفسها، من خلال فكرها الذي كتبته وترجمته الدماء الطاهرة الزكية. ولا يفيد ايضا الانزلاق في التفاصيل وشرح ما هو واضح. فالثورة قد ترسخت في عقول العراقيين ووجدانهم، من اقصى شمال العراق الى اقصى جنوبه، ومن شرقه الى غربه. فهي دخلت في كل مدينة وبلدة وحي وشارع وبيت. هي حاضرة في المساجد والكنائس، في المدارس والجامعات، في صفوف العمال والفلاحين، بين الاطباء والمهندسين والمحامين والادباء والرياضيين والفنانين، ومن سائر القوميات والمذاهب والاديان. بعبارة مختصرة، الثورة اصبحت كمثل الشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. ان انتشار حالة من الياس والاحباط في صفوف البعض من السياسيين والكتاب والمثقفين، وفئات من الناس المناصرة للثورة، لا يغير من هذه الحقيقة، وفي الوقت نفسه لا يعيب الثورة. فالوقوف على أسباب تراجعها،
قد يعيد الأمور الى نصابها. فاللجان التنسيقية التي اتخذت قرار الانسحاب المؤقت، مثلت قمة المسؤولية والاخلاق الوطنية والثورية وحب العراق والعراقيين. وقد عبر الثوار عن موقفهم المشرف هذا، بعدد من الشعارات والبيانات واشرطة الفيديو، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، شرحوا فيه أسبابه، وأكدوا في نهايته اصرارهم على مواصلة الثورة حتى تحقيق انتصارها النهائي. منها على سبيل المثال، ان قرار الانسحاب من الاعتصامات جاء في سياق مصلحة صحة المواطنين والحفاظ على سلامتهم من وباء فيروس الكورونا، الذي يجد بيئته الخصبة في تجمعات الناس والاختلاط فيما بينهم. الامر الذي يؤدي الى كارثة صحية مميتة. خاصة في العراق الذي يعاني من مشاكل كبيرة في مؤسساته الصحية. بالمقابل فقد أكد الثوار على ثقتهم وقدرتهم على تحشيد الشارع العراقي والعودة عندما تسمح الظروف بذلك. لقد سبق للانتفاضة، منذ انطلاقتها في بداية عام 2011، ان تراجعت وانكفات وخف صوتها وقل نشاطها، واضيفوا ما شئتم من اوصاف أخرى. ثم تمكنت من نفض الغبار عنها والعودة بقوة وفاعلية وبتأثير أكبر. وخير دليل على ذلك، الانتفاضة العملاقة التي قامت بعد سلسلة من التراجعات وخيبات الامل في مدينة البصرة، وامتدت الى المحافظات المجاورة. حيث
ارتقت ولأول مرة بشعاراتها المطلبية، مثل توفير الخدمات كالماء والكهرباء، الى شعارات سياسية، من قبيل الغاء المحاصصة الطائفية ومحاسبة المفسدين. في حين ذهبت الاخرى الى الصدام مع القوات الامنية والمليشيات المسلحة في وسط العاصمة بغداد، بسبب المطالبة بطرد المحتل، سواء كان امريكيا او إيرانيا. اما التي اعقبتها فقد اقتحم الثوار المنطقة الخضراء والسيطرة عليها وهروب اعضاء الحكومة والبرلمان امام ابنائها العزل، بطريقة مخجلة ومهينة ومعيبة. ولولا تواطؤ مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، مع رئيس الحكومة آنذاك حيدر العبادي والايراني قاسم سليماني، واصداره امرا بالانسحاب من المنطقة الخضراء، لسقطت الحكومة وعمليتها السياسية الطائفية دفعة واحدة. ان الشعوب الحية مثل الشعب العراقي لا تستكين للظلم والطغيان او العيش بمذلة، سواء بوجود ثورة او غيابها. وإذا كان هناك سبب او أكثر يدعو لقيام ثورة في بلد ما، مثل وجود نظام دكتاتوري او عميل، او تعرض الشعب الى اضطهاد اجتماعي او طبقي، فانه يوجد في العراق أكثر من ألف سبب يدعو للثورة. وإذا احصيت مساوئ الحكام في تونس ومصر التي دعت الشعب للثورة، فأنها لا تعادل، او حتى تقترب من مساوئ الحكومات المتعاقبة في العراق. فبالإضافة الى كونها حكومات مارست ما يفوق مساوئ جميع حكام العالم، فأنها حكومات منصبة من قبل المحتل الأمريكي ووصيفه الإيراني، وتعمل على تنفيذ مخطط تدمير العراق دولة ومجتمعا. فعلى الصعيد السياسي، فان هذه الحكومة قامت على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية، وممارسة الاضطهاد والقمع والتغييب القسري والقتل والتهجير واثارة النعرات الطائفية واحداث شروخ في المجتمع والسماح للمليشيات المسلحة بممارسة جميع أنواع الجرائم وارتكاب المحرمات. على المستوى الاقتصادي، فان الشعب العراقي يعيش في ضائقة اقتصادية، أدت الى مزيد من العاطلين عن العمل والى الفقر الشديد. كما أدى تدمير البنى التحتية، الى حرمان قطاعات واسعة من الشعب العراقي من ابسط مقومات الحياة الضرورية، كالماء والكهرباء والدواء. ناهيك عن الفساد المالي والإداري وسرقة المال العام وتبديد الثروات الخ. اما الجوانب الصحية والتعليمية والأمنية، فقد عم الخراب والدمار في كل ركن من أركانها، الى درجة أن العراق اليوم في ذيل قائمة الدولة الأكثر تخلفا في العالم. ودعك من مظاهر الترف في العاصمة العراقية بغداد. حيث المطاعم الفاخرة والبنايات الشاهقة والملاهي الحديثة وصالات القمار والسيارات الفارهة وغير ذلك. فهذه تخص الحرامية ومرتزقتهم واتباعهم، الذين تجاوز عددهم مئات الألوف حيث تم شرائهم بالمال الكثير الذي توفر بيد هؤلاء الأشرار جراء السرقات والمشاريع الوهمية والصفقات المشبوهة.
لقد جوبهت هذه الحالة المتردية بالرفض من قبل عموم الشعب العراقي، ومن بين اهم مظاهره مقاطعة أكثر من تمانين في بالمائة من العراقيين للانتخابات، إضافة الى تصاعد حدة الاستياء الشعبي. والاهم من ذلك تخلى معظم الناس، عن الحكومة الجديدة، بعد ان توسموا خيرا، حيث فشلت جميع الحملات الإعلامية المحلية والإيرانية لتمرير حكومة السوداني على انها الحكومة التي اختارها القدر لإنقاذ العراق من محنته. الامر الذي سيدفع العراقيين لا محال الى القيام بثورة جديدة، اشد قوة وفاعلية من ثورة تشرين. بل ستمثل قفزة نوعية، سواء من حيث طبيعة قياداتها او برنامجها السياسي او الية ادارتها. ثورة الشعوب قدر مكتوب على جبين الطغاة، لا يمكن الهروب منه والافلات من قبضة العدالة، مهما طال الزمن وغلت التضحيات.