تاريخ نيشته ، وتاريخ الله .

تاريخ نيتشه وتاريخ الله أو تاريخ القطيع

يعتبر "المجنون العظيم"، الفيلسوف الألماني الأشهر فريدريك نيتشه ( 1844 ـ 1900)، أحد أعظم عباقرة القرن التاسع عشر، وأكثرهم تأثيراً على تاريخ الفلسفة والحداثة الغربيتين، ممن استطاعوا التفكير خارج الصندوق: صندوق العالم.

يمثل نيتشه نموذج "الفيلسوف المطرقة" في تاريخ الفكر البشري: الفيلسوف الذي عرف كيف يتفلسف بالمطرقة، المتمرّد على "ربّ العالم، و"دين العالم"، و"أصنام العالم"، و"أخلاق العالم"، و"إجتماع العالم"، و"أصل العالم"، و"حقيقة العالم".

يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1026 ـ 1984): "الجنون والمجنون شخصيتان عظيمتان بفعل غموضهما: تهديد وسخرية، سخرية لاذعة من العالم ومن تفاهة الرجال وضعفهم".

يعتبر نيتشه الفيلسوف الأكثر إخلاصا للعالم في عظمة جنونه، والأكثر إخلاصاً لجنونه في عظمة العالم.

نيتشه وجه مطرقته صوب "أصل العالم"، أو "عمق العالم"، ليكشف أن "الأصل"، أو "العمق" الذي تم أو يتم الحديث عنه، ما هو سوى "سطح مقنع"، أو "سطح مستعار".

نيتشه ضرب بمطرقته كل شيء اسمه "مقدس"، أو "مطلق"، أو "سامي"، أو "نهائي"، أو "عمق"، أو حقيقة"، أو "أصل"، أو "مدلول أصلي" للعالم. من هنا كانت "الجينيالوجيا" للبحث عن الأصل: أصل العالم.. أصل الله.. أصل الإنسان.. أصل السؤال..أصل الحقيقة، وأصل القيم فيه.

في كتابه "جينيالوجيا المعرفة" (ترجمة أحمد السلطاني، عبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال، 1988، ص51)، يصف ميشيل فوكو "التاريخ الجينيالوجي"، ب"التاريخ الفعلي"، الذي "يعلمنا الإستخفاف بالحفاوة التي يحظى بها التاريخ الأصل؟"

فالتاريخ الجينالوجي، على العكس من "تاريخ الله"، أو "التاريخ الأول"، أو "التاريخ السائد"، هو "التاريخ المتمرّد"، الخارج على "تاريخ العالم": تاريخ المطرقة.

التاريخ الجينالوجي، أو التاريخ الذي أرّخ له نيتشه، هو التاريخ المضاد ل"التاريخ السائد": "التاريخ الأول"، أو التاريخ الأصل".

السؤال النيتشوي، على اختلاف السؤال الإفلاطوني (ما الحقيقة؟)، والسؤال الديكارتي (ما اليقين؟ ما الشك؟)، والسؤال الكانطي (ما الأخلاق؟ ما الأنوار؟ ما العقل؟) (، والسؤال الهيجلي (ما التاريخ؟)، والسؤال الهايدجري (ما الوجود؟)، هو سؤال جينيالوجي يضرب بالمطرقة على كل ما هو "عمق، أو "أصل"، أو "حقيقي" في العالم. هو سؤال لا يبحث عن الحقيقة، وإنما يبحث عن من يبحث عن الحقيقية نفسها.

السؤال النيتشوي لا يبحث عن العالم بوصفه "عالما نهائياً"، أو "عالماً انتهى" إلى "حقيقية نهائية"، بقدر ما أنه يبحث عن "عالم لا نهائي"، أو "عالم بدأ"، أو "عالم مفتوح" على حقائق لا نهائية.

سؤال نيتشه الجينيالوجي، هو سؤال فلسفي بإمتياز: هو سؤال الإنسان بإمتياز: الإنسان بوصفه حركة ضد الثبات؛ وتغيّراً ضد الجمود؛ واختلافا ضد التشابه.

تاريخ نيتشه، على العكس من تاريخ الله، المؤسس لتاريخ القطيع، هو تاريخ الإنسان المتغيّر: تاريخ الإنسان بوصفه كائنا كثيراً، ضد تاريخ الله، بوصفه "إلهاً واحداً لا شريك له"؛ هو تاريخ السؤال المتحوّل ضد الجواب الثابت بإمتياز: سؤال الإنسان الكثير، ضد جواب الله الواحد.

السؤال النيتشوي، هو سؤال "الإنسان المتفوق العظيم": المتفوق ب"لاءاته العظيمة" على "نعم العظيمة" ل"القطيع العظيم".

سؤال نيتشه، هو سؤال الإنسان العظيم، المتمرّد على جواب الله العظيم، و"قطيعه العظيم" في "صلاة الجماعة العظيمة".

سؤال نيتشه، هو صوت الفرد العظيم في مواجهة الغوغاء: غوغاء الجمهور الضرورة، الذي يهتف بحياة القائد الضرورة.

سؤال نيتشه، هو سؤال "بسيط كالماء، وواضح كطلقة مسدس" (والتعبير للشاعر السوري الحزين رياض الصالح الحسين).

سؤال نيتشه هو سؤال كثير يساوي العالم، سؤال يبحث عن العالم في العالم: ما العالم؟

هو سؤال كثير يساوي الإنسان، يبحث عن الإنسان في الإنسان: ما الإنسان؟

هوشنك بروكا كاتب وباحث ايزيدي

07.01.2024