قراءة صباحية لدروس الحياة
قراءة في محطات
ب. د. خالد خدر
كثيرا ما تجد في إحدى محطات الحياة اناسا ممن تغيرت حياتهم الشخصية تماما إلى الأفضل ليس بمال حرام او مغامرات محسوبة ولكن بمجرد أن عودوا انفسهم كيف يسايروا الظروف ، لا لضعف منهم ، بل كي لا تتوقف حياتهم ، وكان لهؤلاء الاشخاص ذلك عندما توقفوا عن التفكير في ضغوطات الحياة ، في الأمور التي لن يستطيعوا تغييرها مع ان اغلبها قد تكون صناعة ذاتية ، يضيق فيها صاحبها الحياة على نفسه على وسعها ، بتحليله العميق لتلك الامور ، بينما الأمر لم يكن يتطلب منه بالاساس إلا غض الطرف عنها و تجاوزها.
في محطة ثانية من محطات الحياة كثيرا ما نصادف أناسا تبدوا القساوسة على ملامحهم ولكن لو تعمقت في قراءتها لوجدت أن الحياة قد قست عليهم و كسرتهم حدا مات و انطفأ الشعور عندهم.
مثلما تصادف آخرين باردين في تعاملهم حد البلاهة ولكن لو استدرجتهم في الحديث لوجدتهم قد جرحوا مرارا و تكرارا حدا استوعبوا درسا عنوانه اللامبلات. عنوان في تفاصيله تقرا انه ليس كل شيء يستحق التعامل بدفء المشاعر وجميل مقدمات الكلام ، فهؤلاء قد وجدوا حقيقة الاشخاص وحقيقة الامور في نهايات تجاربهم وليس بداياتها.
في محطة ثالثة تتفاجأ في نهاية مكوثك فيها من امتهنوا الجحود ونكران المعروف والتضحية في سبيلهم ، لتخرج من تجربتك معهم ، بعد فوات الاوان او حتى العمر، بدروس تـؤلمك وان علمتك أن لا تڪون طيبا أڪثر من اللازم ، مثلما تعلمت ان لا تحرق نفسك او ترهقها بالوفاء من أجل الآخرين ، و لا تثق بمودة او وعود أحد حتى ترى موقفه منك في أيام شدتك ، فالجميع يريدك حسب حاجته. فالشمس كما قال احدهم أحرقت نفسها من أجلنا و لا زلنا نحب القمر.
في حين يصادفك في نفس المحطة دون مقدمات أو أسباب اناسا جبلوا على محبة الآخرين ، لتجدهم رقيقي التعامل ، صادقي المشاعر ، جميلي المعشر، مليئين بدفء الحديث ، حديث كله امل ورحمة ، مستعدين ان يكونوا وطنا لمن ضاقت عليهم السبل ، و ملجأً لمن قست عليهم الحياة. إن وجود هؤلاء في محيطك العائلي او المجتمعي عموما ، ربما لا يغير واقعك كما تتمنى لكن يخفف الحمل عنك وقد لا يصلح ظروفك بل يزيل اثقال كثيرة عن كاهلك او يخفف عنك وطاتها. إنه لشعور جميل ينتابك حين يكون بقربك مثل هؤلاء الطيبين الودودين الذين ملئت الرحمه قلوبهم.
في محطة رابعة قد تلتقي بمن يرى في حاضره ما لم يعد يشبهه ، لتجده منهمكا على الدوام في سفره للأمس البعيد. امس يرى ان معظم الاشياء التي بقيت فيه لا زالت أجمل. امثال هؤلاء عندما يغمرهم حاضرهم بالحزن يتأملون قلوبهم من جديد ، لتجدهم بعدها يبكون ولكنه يبقى بكاء على ما كان يوما مصدر سعادتهم ولكن غفلوا عنه وقتها .
في نفس المحطة قد تلمح من بعيد شيخا وقورا جالس لمفرده ، قد يقودك الفضول لتسأله عن سبب ذلك ، ولكن رهبة الموقف قد تمنعك عن ذلك. هؤلاء عادة كما تقول الاديبة هدى صادق يجدون في وحدتهم فرصة للتواصل مع الذات والبحث عن السعادة في الأشياء الصغيرة والبسيطة. فالوحدة كما تقول ليست مجرد غياب للأشخاص بل هي حالة تستطيع ملؤها بالرضا والأمل والبحث عن السعادة في الأشياء الصغيرة. قد يحيطك الكثير من البشر. ، لكنهم لا ينتمون إليك ولا يشاركونك ما تحب وقد تشعر بالوحدة أكثر معهم وفي وسطهم ، فالوحدة لا تمتلئ دوما بالأشخاص بل بالرضا والأمل والسعي لإرضاء النفس و كما تحب.
وسرعان ما تلمح ذلك الشيخ يؤشر لك بما معناه واصل مشوارك إلى محطة اخرى لتتركه يستمتع بوحدته وفق رؤيته.
في محطة خامسة قد تجد الكثير ممن مضت به الحياة دون ان يستيقظ ، إلا عندما مر به قطار العمر وأخذ معه أجمل واحلى سنين عمره ، فلا هو حقق احلامه ولا عاش حياته كما يتمنى او رضي بواقعه و قدره الذي كتُب له او بشكل ادق كتبه له غيره ممن يجيدون التحكم بغير حق في محطات الحياة هذه على حساب الاغلبية.
بالتاكيد سيقودك سفر الحياة بالمرور في محطات اخرى ، محطات ستدرك فيها إنه قد يكون في اعماق البشر ما لا يمكن نبشه بتبادل الكلام وإن كان هادئا لطيفا. لذلك لا تسمح لنفسك بالاعتقاد انك قد فهمت الاخرين بمجرد تبادلك الحديث العابر معهم ، ولا تلتفت الا لمن بان الصدق في أفعاله و نفح الطيب من وقع كلماته ، ذلك ان من يخشى من أثر كلماته في قلب غيره أصبح عملة نادرة في هذا الزمان.
محطات في الحياة تعلمك إن الناس بحار ، فلا تحكم على اعماقهم و أنت لا ترى إلا شواطئهم . محطات تجد فيها فرق بين شخص له قيمة و شخص له ثمن كما يقال ، لتردد مع نفسك هنيئاً لمن له قيمة لا تقدر بثمن.
مثلما تعلمك ان لا شيء يجعلك كبيرا كالتجربة ، فالحياة تجارب ومواقف ، تحمل الكثير من المفاجئات و الاحداث ، مهما كانت فيها نيتك بيضاء و صافية ، ومهما كنت مثابرا مواظبا على فعل الخير وزرع النبل بين الناس، فإنك لن تنجو من ظنون البعض السيئة. ولكن لا عليك منها ، فما دمت لم تخطئ بحق أحد ، دع هذا البعض من الناس يراك كما يريد ، غير مباليا له ، دون ان تعطيه قيمة كأمثاله من الذين لا قيمة لهم ولا مقياس ، ذلك ان البعض يرى كل الألوان عدا الأبيض.
ستصادف في محطات الحياة ، الكثير من الناس ممن يرضوا لانفسهم ان يحتكروا المال العام او ينهبوه ليكونوا سعداء عظماء في عيون انفسهم ، فيما الباقين وهم الاغلبية تعساء ، و جل هؤلاء ممن رضوا لانفسهم ان ينهبوا هذا المال ويدفعونه لتكبير دائرة نفوذهم و سطوتهم بل حتى لتجميل أشكالهم و لكنهم يترفعوا و يعجزوا عن إنصاف مظلوم ، مثلما يعجزوا عن تجميل أخلاقهم رغم أنها تؤتى بالمجان لمن امتلك نبلا وقيما.
محطات تصادفك او تمر بك فيها الكثير من المواقف مما تحتاج فيه إلى التجاهل ، تجاهل ما يؤذيك ، سواء كان تجاهل أحداث ، أشخاص.
أقوال ، أفعال. وان لم تتقن فن التجاهل ستخسر الكثير وأولها عافيتك
هكذا تستمر رحلة الحياة بحلوها ومرها عبر هذه المحطات
رحلة لو تعمق الإنسان في استقراء ما يصادفه فيها لوجد داخل قلب كل انسان يصادفه عالم أكبر من الواقع الذي يعيش فيه.
عالم تكمن فيه حكاية عمر ، قصة حب ، ضحكة تفضحها الوجنتين ، دمعة متخفيه بين تجاعيد الوجه ، أخبار وأسرار لايراها أحد ولا يحكي عنها لأحد ، ولن يشعر بها إلا حاملها.
بقي ان تعرف انه عند مرورك بمحطات هذه الحياة سيغير الزمن فيك اشياء كثيرة :
مفاهيمك ، اهتمامك ، افراحك بل وحتى قناعاتك .
لتنتهي بالنتيجه إلى حكمه مفادها ان على الانسان ان لا يتمسك بعقله فقط فالحياة ليست عقلانية ، ولا يفكر بقلبه دائما فالحياة لا تهتم بالعاطفة ، ولكن عليه فقط ان يكون انسانا لا يمشي على قدم واحدة كي لا تتعثر خطواته التي يتوجب في كل خطوة يخطوها في هذه الحياة أن يجعل العقل والقلب معا ، لأن في العقل ارادة وفي القلب ضمير.
اخيرا و بعد هذا السفر يمكن ان نردد جمعا:
طوبى لهؤلاء المنهكين من اثقال الحياة دون سبب غير انتمائهم الانساني ونبلهم الذي يدعهم يبصرون طريق الخير رغم اوجاعهم.
طوبى لهؤلاء الذين جبلوا على الصدق والبساطه وجعلوا من المواقف ميزانا يفصل بين الحب والكراهية ليتشبثوا بهذا ويقتلعوا ذاك.
طوبى لهؤلاء الذين ينظروا إلى الحياة بقلوبهم لا بعيونهم فحسب ، فيزدادوا انتماءا لانسانيتهم بما يجعلهم قادرين على رؤية شعاع من الضوء وسط كل ظلام يحيطهم.
طوبى لمن يصنعون لاراوحهم ممرًا أمنًا عبر هذه الحياة ليستمتعوا بكل ما أوتوا من نِعم ، ليجدوا ان في كل شيء لذة مع رضائهم.
طاب صباحكم على كل خير .
من هنا 
من هنا 
من هنا 
السبت 15 يونيو 2024 - 10:09
