"إيه فيه أمل.. !"، هكذا ردّت المطربة العربية الكبيرة السيدة فيروز على من حاول كتم صوتها وحرمان جمهورها من التواصل معها؛ "إيه فيه أمل.. !"، خاطبت بها فيروز أكثر من سبعة آلاف شخص حضروا حفليها الأخيرين في بيروت؛ وطمأنت بها الملايين من عشّاقها من خلال ألبومها الأخير "فيه أمل" الذي نزل غيثا نافعا على أرض الأغنية العربية بعد أن أصاب القحط قريحة مبدعيها، وضرب الجفاف ذائقة مستمعيها.
بعد غياب أربع سنوات عادت فيروز محمّلة بـ "ايه فيه أمل"، عودة أسكتت الأصوات التي حاولت تشويه سمعة الأغنية العربية، وأخجلت وسائل الإعلام الدعائية التي أغفلت الحديث عن هذه العودة واتهمها النقّاد بأنها "تجاهلت عودة فيروز لصالح العري والفضائح"، ولكن لا يهم، فعودة سيدة لبنان أثبتت أن العقم الذي أصاب الأغنية العربية هو بفعل فاعل؛ وإلا فما تفسير المبيعات العالية التي حقّقها الألبوم بعدة مدّة وجيزة من صدوره وما تفسير الإقبال الجماهيري الكبير، خاصة من الشباب الذين جاؤوا من كل حدب وصوب، من داخل لبنان وخارجه لحضور حفل فيروز في بيروت.
الملايين من عشّاق أرزة لبنان الخالدة، انتظروا فيروز 2010، واستقبلوها على هودج موشّى بكلّ معاني الحبّ والتقدير والوفاء؛ والقليل من "أعدائها" انتظروا أيضا فيروز 2010 بحثا عن أثار الزمن وما ما خلّفه في صوتها؛ لكن الزمن أبى أن يقترب من صوت هذه الأسطورة الحيّة، وتوقّف إجلالا لها ورحمة بما تبقّ من رفعة عربية فنية.
مؤكّد أن فيروز "إيه فيه أمل" ليست هي فيروز "القدس" و"بنت الحارس" و"بيّاع الخواتم" و"صح النوم"...؛ فالزمن تغيّر والنكبة طالت والنكسة أصبحت نكسات والألم تضاعف والحزن استشرى؛ ولم تعد هناك كلمات تعبّر عن هذه الحال وتصرخ في سديم الليل لتبدّد ظلماته؛ فعاصي ومنصور رحلا، الحصري، وميخائيل نعيمة، وجبران، وسعيد عقل، وإيليا أبوماضي.. وغيرهم؛ أسماء كثيرة لم يعد يُسمع لها سوى صدى أنينها المنبثق من أعماق الماضي السحيق وهي ترثي لحال "ديوان العرب" وما آلت إليه كلماته التي كانت أمضى من حدّ السيف؛ أما ألحان عبد الوهاب وسيد درويش ومحاولاتهما في تطوير الموسيقى العربية لم يعد لها داع في عصر "الأغنية المرقمنة".
وسط هذا الواقع "المأزوم" خرج صوت فيروز، كعادته في كلّ أزمات لبنان الجريح وفي كل مصائب المنطقة العربية الموجوعة، صرخة أمل تؤكّد أن للغناء العربي رموزا ليس من السهل أن تسقط في مستنقع "الأغنية المعولمة". وجاء صوت فيروز قائدا، لا تابعا، لألحان الشبل الرحباني، زياد، الذي رغم أنه أعلن بعض التمرّد على المدرسة الرحبانية إلا أنه بقي وفيّا لجذورها، استمدّ منها الأصل وقام بـ"عصرنته"، فجاءت أغنيات الألبوم "سمفونية" فنية راقية مشعّة كما الذهب الذي يبرق في ليل الأغنية العربية حالك العتمة ليشكـّل لنا شعلة أمل بقيت مضيئة مع وعد فيروز وهي تودّع جمهور حفلها في بيروت "بكرة برجع بوقف معكن".
حضر الآلاف من بيروت ومن كلّ أنحاء لبنان، ومن مختلف العواصم والمدن العربية والعالمية عشقا في جارة القمر التي غنّت له من جديدها مع زياد، ومن قديمها الراسخ في الذاكرة، ولكن أيضا بحثا عن بصيص أمل يطمئنهم على أن الأغنية العربية لم يعلن بيان تأبينها بعد، وأن الأمل في أن تعود إلى سالف عهدها مازال قائما، مطالبين بحقّهم في أن يكون لجيلهم "سلاطين" يفتخرون بهم ويلجأ إليهم القادم من الأجيال؛ فهل سيأتي اليوم الذي سنقول فيه كان لنا عمالقة؟ وهل أن الساحة التي أنجبت أم كلثوم وعبد الوهاب وفيروز لم تعد ولاّدة في عصر فيه الكثير من المال والقليل من الفن؟!
من المعلوم سلفا أن الأغنية هي واحدة من أكثر الوسائل الفنية تأثيرا وفعلا في حياة الشعوب، فهي تنبثق من أحاسيس الناس لتعبّر عن مشاعرهم وأحلامهم وهمومهم بألحانها وكلماتها وبطريقة أدائها أيضا.. وهو ما كانت عليه الأغنية العربية حين صدح صوت سيد درويش "بلادي بلادي" وحين صرخت عليّة التونسية "بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفداء"؛ وحين لم يكد العرب يرون الدمع ينزل بخجل من مقلتي كوكب الشرق وهي تغنّي لمصر الجريحة بعد كارثة 67 حتى هبّوا مقدّمين حليّهم وأموالهم فداء لمصر أم كلثوم.
هكذا ما كان حال الأغنية العربية في سنوات مضت، لم تعش خلالها بمعزل عن واقع الأمة، سواء في حروبهم أو في قصصهم العاطفية التي تجسّدت في روائع فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفائزة أحمد، وفي أغاني وديع الصافي وكارم محمود وطلال مدّاح.. وتحدّثت بلسان البسطاء من الناس عبر "مونولوجات" بيرم التونسي، وروائع أحمد فؤاد نجم مع الشيخ إمام..
أما اليوم، فأضحت الأغنية خطرا "اجتماعيا" يهدّد استقرار المجتمعات بعد أن دخل الفيديو كليب قائمة الأسباب المؤدية إلى الطلاق في الأسر العربية؛ و"عارا" "قوميا" يدنّس صفحات موسوعة الموسيقى العربية بعد أن اجتثّت فضائيات الرقص آخر ما تبقى من كرامة الفن العرب. وأضحت الساحة الفنية الغنائية سوقا لكلّ من يرغب في عرض الغريب من الفن، فهذا فنان يسير عكس التيّار، ويخرج متحدّيا كلّ مناصر لحقوق المرأة، واعدا حبيبته بـ"كارت فيزا" مفتوحة، وسيارة آخر "موديل" إذا قبلت أن تسكن جمهورية قلبه؛ وآخر حوّل المسرح إلى سوق للخضار يتغنّى فيه بالعنب والخيار، ويبثّ لواعج قلبه لحبيبه الحمار..
ربما يحدو فيروز الأمل، لأنها عاصرت أحلك فترات الأمة العربية، وعرفت معنى الأمل لأنها عرفت معنى الانتصار بعد الهزيمة؛ وقد يكون "فــيه أمــــل"، فــي أن يتغير حال الأغنية العربية، و"فــيه أمــــل" أن تستعيد بريقها يوما ما، و"فــيه أمــــل"...؛ ولكن يبدو أنه أمل صعب أن تتكرر أيقونة فنية بحجم فيروز، والفنّانات خريّجات عيادات التجميل يتصدّرن أغلفة المجلاّت في زمن تشترى فيه الجوائز الفنية بالملايين وتطلق الألقاب جزافا.
ما من أمل في أسطورة فنية عربية جديدة والفضائيات الموسيقية تتبجّح بعرض "كليب" لـ"طفلة"، لم تتجاوز اثني عشر ربيعا، ضربت بكلّ الأعراف عرض الحائط وتفوّقت على كلّ ما سبق من "مصائب" ألمّت بالأغنية العربية في أغنية بعنوان "كذبة الفايسبوك" تتحدث من خلالها عن متعتها في دخول "الفايسبوك" بحثا عن الشباب والحب والتجربة؛ وتعجب بأحدهم وتواعده لتكتشف في النهاية أنه أيضا طفل ومع ذلك تستمر العلاقة بينهما..
وهنا لا ندري في أي خانة تصنّف هذه الأغنية، في خانة أغاني الأطفال أم في خانة أغاني الكبار؟، وهي في كلتا الحالتين "مصيبة".. فهل هذا هو الأمل الذي نبحث عنه في صفوف الأجيال الواعدة التي ستبني مستقبل مجتمع عربي انتهكت كرامته وفتك الفساد بكل شيء فيه حتى براءة أطفاله؟
إيه، سيدة فيروز أين ترين الأمل.. فالزمن لم يعد ذاك الزمن، والأغنية لم تعد تلهب حماس الجماهير فتخرج على بكرة أبيها مستنكرة أو مطالبة بحقوقها؛ سيّدتي عصرنا مختلف، الشعب العربي ملّ، وتعب، وما عاد يهتمّ العروبة فيه صارت حكاية من حكايات التاريخ، والقومية "نكتة" انتهت صلاحيتها؟!