الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 7038مزاجي : تاريخ التسجيل : 02/01/2010الابراج :
موضوع: مجزرة ـ سيدة النجاة ـ : نقاط مريبة ! الجمعة 12 نوفمبر 2010 - 22:56
مجزرة "سيدة النجاة" : نقاط مريبة !
صائب خليل 8 تشرين الثاني 2010
في قصة المجزرة المأساوية المؤلمة لكنسية سيدة النجاة الكثير مما يوجب التفكير والمراجعة. في البدء أثار انتباهي تأكيد الجانب العراقي والأمريكي على أن العملية كانت عراقية بحته، لكن وكالة الأنباء الفرنسية قالت أن أحد الناجين يؤكد ان الذين قاموا بإخلائه هم الأمريكان الذين قادوا عملية الإختراق، ثم أتى العراقيون بعد ذلك (0). وهذا التساؤل ا لذي ما زال غير مجاب، دفع بي إلى متابعة المزيد عن الموضوع، فوجدت الكثير من الغرائب التي تحتاج إلى تفسير.
شاهدوا أولاً الشهادات الثلاثة للأختين الناجيتين من المجزرة شهد وميرنا زهير مارزينا وأبيهما، إن لم تفعلوا ذلك قبل الآن، لأنها أهم ما في الأمر، كما أن المقالة تعتمد عليها (الروابط 1 ، 2، 3 )
من الواضح من البداية لمن يدقق قليلاً أنه لم تكن هناك دوافع دينية حقيقية وراء الجريمة رغم كل "تمثيليات" الخاطفين، وكذلك لا يسهل تفسيرها بأنها كانت من أجل تحرير أحد، ولا يبدو لهؤلاء أية علاقة بـ "أخوتهم" الأسرى لدى الكنيسة القبطية في مصر. فأولاً إن كان هذا هو هدفهم ، لماذا لم يقوموا بالإختطاف في الكنيسة القبطية إذن، كما تساءل أحد الكتاب العراقيين بحق؟ وأهم من ذلك أن تصرفاتهم كانت مناقضة لأقوالهم، فمن يريد أن يحصل على فديته، لا يطلق النار على رهائنه، لكن الخاطفين حسب أقوال الشهود، لم يتأخروا في إطلاق النار والقاءالقنابل على الرهائن منذ بداية الإحتجاز وحتى قبل أن تتدخل الشرطة!
عند دخولهم الكنيسة سارع الأب ثائر حسب شهادة إحدى الفتاتين الناجيتين وقدم نفسه كمسؤول عن الكنيسة وقال لهم أن يكلموه فيما يريدون، والمفروض أن يكون الخاطفين سعداء جداً بذلك، فالخاطف بحاجة إلى من يتحدث معه كمسؤول، يتمكن من خلاله من ضبط النظام والهدوء في انتظار موافقة المسؤولين على شروطه التي جاء من أجلها، فلماذا يقتلوه فوراً؟ ولماذا يطلقون النار بشكل عشوائي فيما بعد، وقبل أن يعرضوا حتى شروطهم، فـ "سدوا الأبواب واشتغل الرمي".. وهم من يجب أن يحرص تماماً على أستتباب الهدوء ليمكن لهم ملاحظة أية حركة قد يقوم بها أي من الأسرى.
وبعد أن تبين أن الدافع الرسمي وراء العملية الأرهابية محل إشتباه، يمكننا أن ننتقل لملاحظة بعض التفاصيل. فمن وصف الضحايا الذين نجوا لم تكن تصرفات ومواصفات القتلة تصرفات ومواصفات إسلاميين، متطرفين أو غير متطرفين. ففي التاريخ الإسلامي وفي أدبياته، لم يطلق المسلمون ولا الإسلام على المسيحيين لقب "الكفار"، فمن أين أتت تلك الكلمة التي بقي الخاطفون يرددونها أمام أسراهم؟ كذلك ملفت للنظر ما نقلته "شهد" من هستيريا وموجة عنف شديد أصابت الخاطفين عندما اكتشفوا "أصلعاً" !! فأين كان للإسلام موقف من الصلع؟ أليست هذه تمثيلية سخيفة واضحة، ولا يصدقها إلا من في رأسه خلل؟ بعد ذلك تعمد المتطرف الإسلامي (الذي يلبس قميصاً وردياً!) مع جماعته إهانة المخطوفين ليس فقط بشكل مباشر، بل وبالحديث عن المسيح بسخرية، ومعلوم أن المسيح بالنسبة للمسلمين نبي من أنبياء الله ولا يسمح بالحديث عنه بإهانة، حيث أن القرآن يؤكد تساوي الأنبياء بضمنهم محمد عند الله. وأذكر عندما كان المتطرفون المسيحيون في الغرب يكيلون الإهانات لمحمد، فأن المسلمين لم يلجأوا إلى مقابلة ذلك بإهانة المسيح، ليس لأنهم أفضل أخلاقاً، بل لأنهم يجدون أنفسهم محاصرين من خلال القرآن نفسه فإهانته إهانة للقرآن. لذلك قد تجد المسلم المتطرف يقول بما لا يرضي العقل والقلب، وقد يفعل ما تشمئز له النفس ويجرّمه القانون، لكنك لن تجد مسلماً مهما كان متطرفاً يتحدث عن المسيح بشكل مهين، بل أنه كلما ازداد تطرفاً ازداد حرصاً على الحديث عنه كنبي مقدس، إن لم يكن إحتراماً له فاحتراماً للقرآن الذي "يتطرف" في الإلتزام بما يجيء به. وإذا كان للمتطرفين تفسيرهم المتطرف للقرآن، فما جاء فيه عن المسيح صريح واضح لا مجال فيه للتفسير، ولم أسمع أحداً حاول تفسيره بشكل مختلف.
لم يحدث هذا حين كان المسلمون اقوياء يسيطرون على دول تحتوي المسيحيين واليهود والصابئة وغيرهم، فلماذا يحدث اليوم؟ هل ازددنا وحشية منذ ذلك الزمن؟ لماذا إذن لم يحدث ذلك أثناء حكم صدام مثلاً. لا تقل لي أن صدام كان يقف حاجزاً بيننا وبين المسيحيين، ولم يكن هناك أي مسيحي يشعر أدنى شعور بأنه في حماية صدام من المسلمين المتطرفين وأنه كان يخشى على حياته لو زال صدام، بل كانوا يتمنون زواله وفرحوا به مثلما فعل بقية العراقيين. ومن يريد أن يقتل وينتحر، لم يكن سيعجز عن الحصول على اللحظة المناسبة لذلك، لكن مثل ذلك لم يحدث ولا مرة واحدة قبل الإحتلال. كذلك ليس من المعقول أن الإحتلال هو السبب، فلم يقل أحد يوماً أن مسيحيي العراق جاءوا بالإحتلال أو جاءوا معه أو تعاونوا معه على المسلمين، ولا حتى أشار الخاطفون إلى ذلك. فمن أين إذن جاءت تلك الأحقاد؟ من المفهوم أحياناً أن تحقد الأقلية المضطهدة أو التي تشعر بالظلم بالحقد على الأغلبية المسيطرة، لكن كيف يمكن تفسير وجود حقد لدى الأكثرية ضد الأقلية، وهي لم تؤذهم يوماً، ولا قدرة لها على إيذائهم بأي شكل؟ أنا أقول لكم: ببساطة ليست هناك أية أحقاد، ولا أعرف مسلماً واحداً، ولم أعرف طيلة حياتي مسلماً واحداً، هكذا، "يحقد" على المسيحيين في العراق. بل أن ما بين الشيعة والسنة من توتر، على خفته، مالم يكن بين المسيحيين والمسلمين، شيعة كانوا أو سنة، وكانوا معروفين باللطف والنظافة والأدب، كما هم اليوم، فمن اين جاءت الأحقاد ليقتل بعض "المسلمين" أنفسهم لمجرد أن يقتلوا بعض المسيحييين المتعبدين في كنيستهم؟ لو كانت الحادثة في محل بيع مشروبات روحية لربما تخيلنا أن يهاجمهم البعض (دون ان ينتحروا بهم)، أما في الكنيسة؟ فالكذبة واضحة وضوح الشمس، وأقول لكم ببساطة: ليست قصة أحقاد، ولم تكن هناك أحقاد ولم توجد اليوم أحقاد.. لكن هناك قصة أخرى سيكشفها الزمن.
يمكننا أن نلاحظ أيضاً، من خلال شهادات الشهود، أن الخاطفين كانوا يتصرفون بطريقة أقرب ما تكون إلى فرق "القتل على الهوية" مما هم إلى الخاطفين او المنتقمين من "الكفار" يريدون القضاء عليهم "لوجه الله". وقبل الإستمرار أود أن أوضح رأيي بموضوع "القتل على الهوية" وهو أني أرى أنه حيلة من حيل الإحتلال ليس إلا حيث يرسل جماعة إرهابية لقتل السنة يوماً وترك من يعتبرونهم شيعة لينشروا الخبر، وفي اليوم التالي يقومون بالعكس. وهكذا تنتشر رواية تفرقة طائفية قليلة الكلفة وكبيرة الأثر. وبالفعل صدق أغلب العراقيون قصة القتل على الهوية وانطلت الحيلة مع أنه لم تكن هناك أية أدلة على هوية القتلة أو أنهم يقتلون بهدف تصفية طائفة ما، ولا لهم قيادة معروفة. ولا يلام من يصدق مثل هذا، خاصة من فقد أباً أو أخاً أو زوجة، فعندها لا يبقى مكان كبير للمنطق والتحليل، ولكن لحسن الحظ لم تؤدي هذه الخطة إلى حرب أهلية كما كان يؤمل مخططوها.
هذا بالنسبة للقتل على الهوية وهدفها الوهمي الكاذب، الذي يريدون إقناعنا به وهو ان كل من **ئفتين تريد محو الأخرى، ورأيي أن هذه العملية هي أيضاً من نواع الإرهاب الذي يريد أن يوحي للمجتمع بهدف كاذب، وهو أن المسلمين يريدون القضاء على المسيحيين في العراق. قلنا أن الإرهابيين لم يتصرفوا كخاطفين وإلا ما كانوا أطلقوا النار على رهائنهم التي هي سلاحهم الوحيد للوصول إلى هدفهم، لكن لو لاحظنا بدقة، نجد أنهم لم يكونوا حتى يريدون قتل ضحاياهم "الكفرة"، بل كان التركيز على نشر الرعب. فبعد الإرهاب الكلامي الذي سبق عملية القتل، ميزوا الضحاياً حسب تأثرهم بالتخويف، وقسموهم (في روؤسهم) إلى قسمين. القسم الأول كان يمثل من أصابه الرعب الشديد، وأرادوا هؤلاء أن يكونوا أكبر عدد ممكن، أما القسم الثاني، فهو الذي لم يحالفهم النجاح كثيراً في إرهابه، وكان محافظاً على رباطة جأشه. هذا القسم هو الذي سيتم التضحية به، بقتله بوحشية، لرفع مستوى الرعب في القسم الأول إلى أعلى درجة ممكنة، ليقوم بنشر الهول الذي رآه للعالم بعد انتهاء الإختطاف، وهو ما يكمل العملية ويوصلها إلى هدفها. ويمكن اكتشاف مؤشرات إضافية على صحة هذا الإحتمال من خلال حرص الخاطفين على تبيان غرضهم وأهدافهم بالكلام وتكراره والحرص على إسماعه للضحايا، والتأكيد بأنهم مسلمين ملتزمين (حديث بينهم لا يبدو له هدف محدد أومعنى، فيما إذا كان أحدهم قد أدى الصلاة ، واحد يصيح "ربي ثبتني بإيماني" ، ثم "ياربي سامحني"، و توجيه "التكفير" للمسيحييين الخ، إضافة إلى صرخات "الله وأكبر" المعتادة.
ومما يؤيد أن الهدف كان نشر الخوف بالدرجة الأولى ما أشارت إليه الشاهدتان من بعض تصرفات الخاطفين، فقد تحدثتا عن إطلاق نار كثير ولمدة ساعات، حتى قال أحدهم أن الرصاص نفذ منه، رغم أنه كان يملك المزيد منه كما لاحظت الشاهدة بدقة. إذن كان يريد أن يسمع الضحايا أنه أطلق كماً كبيراً من الرصاص. قال صاحبه له أستعمل القنابل إذن. وألقيت حسب رواية الشاهدتين الكثير جداً من القنابل، ولمدة طويلة، فلماذا كل ذلك؟ أولاً، كل المحاصرين كانوا بحدود 150 شخص وكانوا مستلقين على الأرض تحت تصرف الخاطفين. يعني لو أرادوا قتلهم فسيكفيهم خمسة، أو قل عشرة شواجير (مخازن عتاد) للرشاش، فلماذا يتم إطلاق النار لساعات وبأي اتجاه كان، ولم يكن هناك قوات تهاجم المختطفين بعد؟ إلى اين كانت تلك الرصاصات توجه؟ يعرف العسكريون أن قنبلة واحدة تكفي عادة للقضاء على كل المتواجدين في غرفة، فكيف يتم إلقاء قنابل بتلك الكثرة في غرفة واحدة، ورغم ذلك يخرج أكثر من فيها احياءاً بجروح أو بدون إصابة؟ تفسيري الوحيد أن تلك القنابل كانت في معظمها، قنابل صوتية، وأن العملية كانت تريد زرغ أكبر قدر ممكن من الرعب في من سيبقون أحياءاً لكي يخرجوا ويرووا حكايتهم بأكبر شكل مؤثر، يدفع بالمسيحيين العراقيين إلى الهجرة ويؤلب الغرب على المسلمين أكثر واكثر.
كذلك نلاحظ أنه بالرغم من أن الخاطفين هم من "دولة العراق الإسلامية" (كما يقولون)، والتي يفترض أنها "تجاهد" لتحرير العراق من الإحتلال، فلم يشر في عملية الخطف بأي شكل إلى الإحتلال ولا حتى العراق، فلم يكن من بين الخاطفين سوى شخص واحد يتكلم اللهجة العراقية. وكذلك لم يكونوا مهتمين بإطلاق سراح "مجاهدين" عراقيين من رفاقهم مثلاً، والذين يفترض أنهم يتعرضون للتعذيب والإعدام، وفضلوا عليهم هدفاً غريباً أقل ما يقال عنه أنه ليس له أية أولوية في موضوعهم الأصلي.
وهناك سؤال هام: لماذا لم تتم عملية الخطف في إحدى الكنائس في إحدى دول هؤلاء العرب؟ مما لا شك فيه أن الوضع الأمني أكثر استرخاء في جميع الدول العربية مما هو في العراق. كما أن الهدوء السياسي النسبي أكبر في تلك الدول، وبالتالي فأن فرصة الحصول على مفاوضات مع الحكومة ونجاحها أكبر كثيراً. والمكان المرشح أكثر من غيره هو مصر طبعاً، ولن يعجز تسعة مسلحون بهذه الدرجة، وقادرون على اختراق كل تلك السيطرات الأمنية في العراق، من اختراق ما هو أقل منها والوصول إلى كنيسة قبطية في مصر لتهديد الأقباط الذين سيكونون أكثر استعداداً لمبادلة "الأختين" مقابل حياة قساوستهم ومصليهم، مما يكون الأمر في كنيسة كاثوليكية في بلد آخر بعيد، وكل ما يعنيه ذلك من عمليات اتصالات وتأمين مواصلات وغيرها. لقد كان تجمع "المسلمين المتطرفين" في العراق يفسر على أنه بسبب الإحتلال، لكن بزوال هذا السبب فما الذي جمع هؤلاء هنا؟
قضية أخرى صغيرة غريبة، هي احتواء البيان ليس فقط على آيات قرآنية كالعادة في مثل هذه الأحوال، لكن أيضاً إلى إشارات إلى أرقام الآيات وأسماء السور! تلك ممارسة ليست غريبة في كتابة المقالات أو الكتب الدينية، ولكن ليس في بيانات التهديد والوعيد، فلم نسمع يوماً**** مثلاً يكمل قراءته للآيات في تهديداته، بالإشارة إلى رقم الأية وأسم السورة كل ما انتهى من نص قرآني! والسبب ببساطة هو أن مثل تلك العملية تفقد الخطاب قوة اندفاعه وتعبيره وبالتالي تأثيره، خاصة أن الخطاب كتب ليقرأ من خلال التلفون وفي وسائل الإعلام الصوتية والمرئية، وليس لإقناع قارئ ما، من خلال الإشارة إلى المراجع! كانن بيانات الحرب العراقية الإيرانية تحتوي الكثير من الآيات لبث الحمية، فتخيلوا كم سيكون مضحكاً لو أنه قال بحماس " يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" ثم يسكت ويكمل: "سورة الصف، الآية 8"، كما جاء في نص خطاب الخاطفين!. (4)
قال والد الفتاتين الناجيتن، وكان متابعاً لعملية الإختطاف منذ بدايتها وحاضراً أمامها منذالبداية- قال أن هجوم الشرطة كان عشوائياً وكان الهرج يعم المكان وأن هناك احتمال لهروب بعض الإرهابيين أثناء الخروج من الكنيسة بتخفيهم بين الضحايا. وخطر لي أن أربط بين عبارته وبين ما قالته "ميرنا"، عن أحد الخاطفين الذي ذهب إلى "المكان اللي يقدس بيه القس"..حسب كلماتها، ليفجر نفسه عندما بدأ هجوم الشرطة! ويتساءل المرء: لماذا يذهب شخص يريد أن يفجر نفسه إلى مكان آخر، ليس فيه عدد أكبر من الضحايا من مكانه؟ بل ربما لم يكن فيه أحد؟ أليس معقولاً لو ربطنا القضيتين أن هذا الشخص ذهب بعيداً عن الأنظار ليفجر قنبلة صوتية وليستلقي على الأرض في انتظار هجوم الشرطة، ليخرج بعد ذلك مع الضحايا في الظلام حيث لا يميز أحداً وجه أحد؟ ربما فعل ذلك أكثر من واحد منهم، لنقل قيادة المجموعة، والتي تركت الباقين كخسائر مخدوعة. أتمنى أن يجيبنا رجال الأمن إن كان مثل هذا السيناريو ممكناً وقتها.
وآخر نقطة أود الإشارة إليها، قد تبدو بسيطة، لكنها ربما تكون أهم نقطة في هذه المقالة إن تم الإستفادة منها في التحقيق، هي الإشارة التي انتشرت في الإعلام العراقي والعربي عن فضائع لم يشر إليها أحد من الناجين من الكنيسة، بل هم أشاروا إلى ما يكذبها! لقد قرأت تلك الفضائع أول مرة في مقالة للأستاذ فراس الغضبان الحمداني، حيث يقول: لقد جرت تفاصيل رهيبة داخل الكنيسة وفظائع مرعبة لترويع هذه الشريحة المسالمة من الشعب العراقي فقد تم قطع رأس القس ثائر عبدال والقس رائد عبدال والشماس نبيل وفصل رؤوس عائلة جان وزوجته وطفلهم الرضيع وكذلك فصل رأس طفلة تبلغ من العمر عشرة سنوات وجميع حالات الذبح وفصل الرؤوس جرت أمام الحاضرين والمحاصرين داخل الكنيسة (5).
ولأنني لم أتذكر إشارة إلى تلك المعلومات في شهادة الشابتين الناجيتين من المذبحة، رجوت من الكاتب، قبل يومين، وعلى عجل في تعليق على المقالة مرتين أن يزودني بالمصادر التي وصلت إليه منها تلك المعلومات، وحين تأخر الرد أرسلت إليه إيميلاً بنفس السؤال، ثم علقت على مقالة أخرى له مكرراً طلبي ولم يصلني الرد حتى ساعة كتابة هذه الكلمات. وفي انتظار رد الأستاذ فراس حاولت البحث عن المصدر، فوجدت مقالات أخرى تتحدث عن نفس الموضوع دون أن تشير إلى مصدر أيضاً، كما أن البعض نقل نص الكاتب كما هو باعتباره مصدراً. ثم راجعت فيديو الشهادتين، وفي تسجيلين مختلفين فلم أجد إشارة إلى أي قطع رؤوس "أمام الحاضرين والمحاصرين داخل الكنيسة" كما يقول الأستاذ فراس، بل وجدت أقوالاً تناقض ذلك تماماً. فجاء في شهادتي الأختين الناجيتين ما يلي: قالت أحداهما: "الشماس نبيل رموه ووكع من طوله، وابونا وسيم رموه ووكع من طوله، وأبونا ثائر انقتل..انضرب!" وقالت الثانية: "طلع القس يسد الباب ضربوه طلقة براسه....أبونا ثائر ضربوه براسه وأبونا مخلص..أبونا وسيم ضربوه ... قتلوا كل الشباب". إذن لم يكن هناك ذبح ولا فصل رؤوس أمام المحاصرين، فمن أين جاءت تلك الرواية؟ أنا طبعاً لا أحاول هنا أن أقلل من تلك الجريمة المروعة، ولم أكن أستغرب أبداً لو أنهم قاموا فعلاً بقطع الرؤوس أمام المحاصرين. وأغلب الظن أن تلك المذبحة كانت فعلاً ضمن الخطة، لكن يبدو أن تلك العملية كانت تحتاج إلى وحوش من مستوى آخر. ما أردت التنبيه إليه هو أن رواية إعلامية أضيفت إلى الخبر بتعمد واضح، ولا يمكن أعتبارها سهو أو خطأً، وبالتالي فأن تلك الرواية وإضافتها إلى القصة، تؤكد أن الهدف من العملية كان إثارة أكبر قدر ممكن من الرعب في مسيحيي العراق، وتأكيد وحشية المسلمين بأقصى ما يمكن لتجهيز الهجوم الإعلامي التالي بالذخيرة اللازمة لتمرير الصورة المطلوبة. هذه المخططات تبين أي شرّ يتهددنا ويخطط لنا، لكن من ناحية أخرى، فلو توفرت الإرادة اللازمة، لأمكن تحويل هذا المخطط الشرير إلى نحر أصحابه. فهذه الإضافة يمكن أن تقود التحقيق إلى رأس خيط لهذه المجموعة الإرهابية ومن يقف وراءها، لو تمكنا من أن نجد أول مصدر نشر الخبر، وهذا ليس مستحيلاً في الإنترنت. فإن وجد من اخترع الإضافة، سيمكن أن يتم استجوابه حول دوافع اختلاق تلك القصة. أحد ذلك أجدى بكثير من استجواب أعضاء قناة البغدادية لأنهم تلقوا مكالمة تلفونية كان يمكن ان تصل إلى أية قناة بينما لا يستطيع من يثبت انه بدأ الكذبة أن يبرئ نفسه.
***
حتى يتم مواجهة هذه الأسئلة والإجابة عنها، فأن الكثير من الضحايا سيتم تفجيرهم والعديد من الكنائس والمساجد والحسينيات وربما المدارس والمستشفيات وأية مراكز تجمع بشرية، ستشهد عمليات إرهابية فضيعة أخرى. حتى ذلك الحين سيتكرر مشهد الطفل آدم ذي السنوات الثلاث، الذي شاهد أباه يقتل أمامه وبقي ساعات يصرخ: "كافي...كافي".. حتى أصابه الإرهاق فارتمى صامتاً على الأرض..
حتى يحصل الشعب على إجابات على الأسئلة الصعبة لحل المشكلة من الجذر، يجب بذل أقصى العناية بالضحايا صحياً ونفسياً، وببذل أقصى جهد ومال لحماية الأقليات المعرضة أكثر من غيرها للإرهاب، وأن يتلاحم الشعب مع بعضه البعض. إن دعوة السيد الصدر إلى السماح لرعاياه بالتطوع لحماية الكنائس ليست فقط مثالاً رائعاً ورمزاً جميلاً، بل مبادرة تستحق التنفيذ فوراً ولو من إجل رمزيتها العظيمة التي تساعد على محو الأثر المرير الذي تسببت فيه الجريمة. (7)
أما بالنسبة لإخواننا المسيحيين فأتمنى، رغم صعوبة ذلك في مثل هذا الموقف، أن لا يصدقوا ما أراد الإرهابيون منهم أن يصدقوه، بأن المسلمين يشنون حرباً لإبادتهم أو تهجيرهم، وأن وراء تلك الجرائم جهات دينية متطرفة، أو طائفية مجنونة، بل هي جهات عاقلة، وعاقلة جداً، وليس لديها أية مشكلة في العقل، بل مشكلة عميقة في الأخلاق والضمير، لتجمع كل هذا الشر العبقري، وتسير ألات تم تحويلها بطريقة ما لوحوش بشرية لتنفيذ الأهوال التي تتطلبها خططهم. إن الخطط الإجرامية لهؤلاء "العقال" لن تقف عند حد، وهاهي الإنفجارات التي تلت الهجوم على الكنيسة تتكرر، لتثبت التأثير البشع الذي خلفته جريمة الكنيسة، ولا مناص من أن تكون مبادرة العراقيين أقوى من مبادرة قتلتهم لإفشال تلك الخطط ووءدها في مهدها.
ربما أمل البعض أن يتسبب هول الجريمة في فقدان الضحايا لأعصابها وتوجيه اتهاماتها لأخوتها الذين عاشوا معاً بسلام قرونا طويلة، لكن الأقوياء مثل الكاردينال عمانويل الثالث دلي قطع الطريق فتحدث بدلاً من الإتهام عن الأخوة، وقال لهم بأننا شعب واحد متآخِ بكل أديانه وطوائفه يمارس فيها كل فرد طقوسه ومعتقده بكل حرية وسلام.(
لقد أرادوا لهذه الكنيسة أن تكون رمزاً للإرهاب، وعلامة في الذاكرة تثير الأحقاد والكراهية والخوف، لذلك يجب الرد فوراً بإعادة بنائها لتصبح أجمل كنيسة في العراق ولنبدع الأفكار لتتحول "سيدة النجاة" إلى رمز للتلاحم ، عندها سيفكر من كان وراء ذلك مرتين قبل أن يكرر جريمته في مكان آخر. لقد كانوا يستعدون للصلاة من أجل نجاة العراق حين استشهدوا.. وهاهو العراق يصلي اليوم من أجل أرواحهم **هرة، ويعاهدهم أن يعمل الجميع لتكون شهادتهم بداية لـ "نجاة" العراق مما هو فيه!