الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 24429مزاجي : تاريخ التسجيل : 31/01/2010الابراج :
موضوع: مريم ، من عذراء متأمّلة إلى عذراء والدة الأحد 5 ديسمبر 2010 - 19:23
بسم الاب والابن والروح القدس الاله الواحد امين
مريم ، من عذراء متأمّلة إلى عذراء والدة
بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني
يُعلمنا القديس لوقا في فصول إنجيله الأوائل عن مجيء الملاك جبرائيل لدى فتاة عذراء اسمها مريم، ليبلّغ من خلالها الإنسان البشارة السماوية الخلاصية. ففي نص لوقا تظهر مريم فتاة متواضعة، ابنة شعب الوعد الذي اختاره الله ليتخذه مسكنه الجديد. هذا هو المكان الأوحد الذي سيلد فيه المسيح، الملك العادل والرحمان. في بلدة الناصرة يعيش ببساطة "الشعب المتبقي" من شعب الوعد، شعب نقي يعيش في ظلّ مخافة الرب وبحسب تعليمه وشريعته، في حالة انتظار ورجاء كبير بان المخلص آتي والله سينفذ وعوده اللامتناهية، علامة على حضوره الأبوي. من هذا الشعب سيتكَوّن شعب جديد، شجرة جديدة تتشعب وتتفرع أغصانها في كافة أنحاء العالم حاملة للبشرية ثمار الخلاص والفرح. على عكس آدم وحواء، تظهر مريم الفتاة كابنة هذا الشعب، المصغية والطائعة لإرادة الله بكامل كيانها ووعيها التام، تتلفظ بكلمة "نعم" واضعة كامل جهوزيتها في خدمة المشروع الإلهي، فهي حواء الجديدة، أمّ حقيقية، أمّ لكل الأحياء الذين من خلال إيمانهم بالمسيح يحصلون على الحياة الأبدية. باختيار الله لمريم يتم اختيار منهج فعلي جديد وحقيقيّ لخلاص اشتهاه الإنسان من بعد سقوط آدم. مريم هي الإناء الجديد النقي الذي اختاره الله لمشروعه المميّز. مواجهة كلامِ ووصيةِ الرب المتمثلِ في شخص الملاك أوجد أمام مريم معضلة: ابن الله مزمع إن يكون المسيح، أي في نفس الوقت ابن داوود وابن الله العلي؟ مريم لم تطلب أية علامة لكي تقبل بكلام الملاك إنما شرحاً لكيفية هذا المشروع "كيف يكون ذلك؟". أمّا استفسار مريم هذا وجواب الملاك (الآيات 35-37) فيعلنون ويؤكدون واقعية الميلاد العجائبي ليسوع وطبيعته "الفائقة الطبيعة" لكيانه الإنساني. هذا الحدث ليس سهلا على الإطلاق، وإدراكه ليس في غاية البساطة، كما يتصوره الإنسان عند ولادة حياة جديدة. اختار الله امرأة مخطوبة غير متزوجة، مكرسة بكليتها للهيكل وخدمته بكل أمانة ومجانية. أما الصعوبة فتكمن في حدث تدخل الله في الولادة وهذا غير ممكن أو مقبول في المجتمع اليهودي. ولادة المسيح تمّت بدافع الروح القدس وعمله إن في حَبَل وولادة المسيح، وإما في حفظ مريم وحمايتها من أي سوء أو أذى ممكن أن يعرّضها لخطر عقاب الشريعة والناموس؛ فكان من عمل الروح أن جعل من مريم إناءً بشرياً من لحم ودم أهلاً ليحل فيه ابن الله. إيمان مريم وطواعيتها لرغبة الله وإرادته جعلاها تنطق بفعل التعظيم بنشيدها والذي من خلاله عرّفت عن هوية الله ودوره وهدف مشروعه الخلاصي. لا يوجد أي حديث على وجه الأرض يوازي أهمية حديث مريم مع الملاك؛ فبدءاً من تلك اللحظة أخذ العالم وجهة سير جديدة: الملاك الذي ظهر أمام مريم لا يصفه لوقا، إنما يبلغنا اسمه (جبرائيل = جبروت الله) والرسالة التي يحملها. يقتصر عمله على حمل الرسالة ومضمونها، أي على نقل الوديعة وبنفس الوقت على تفسير ما ورد في بعض الكتب المقدسة باستشهاده ببعض من آياته الكتابية. إذا توقفنا على كلام الملاك، نرى أنه لم يحمل أي جديد لمريم إنما كل ما قام به هو أنه جسّد كلام العهد القديم وأكّده؛ كأنه يقول لها: كل ما قرأْتِه يعنيكِ وكل ما تنتظرينه سيتحقق. دور مريم وفعاليته في غمار هذا الحدث مهمّ للغاية؛ ولا يجب علينا البحث حاليا عن علاماتٍ وظهورات جديدة في حياتنا، إذ بظهور الملاك لمريم قد قيل كل شيء. ما يتوجب علينا هو إعادة قراءة هذا الحدث بكامل مضمونه والاستماع مرات عِدّة إلى الكلام والثقة اللذين وضعهما الله في شخص مريم التي ستنير مسيرة تشخيص عمل الله من خلال تجاوبها مع كلامه ومخططه. لا بد إذن من تسليط الضوء على ميزات مريم في لقائها مع الملاك: 1- مريم تصغي: قبل الكلام في الإصغاء والاستماع والانتباه إلى كلام الله، علينا معرفة أنّ المسيحيَّ لا يدخل في الصمت والسكون بهدف إفراغ الذات أو حلِّ أزمة داخلية، إنما لِمَيل القلب والفكر إلى صوت الله كي يتمكن من استيعاب التدخل الإلهي في حياته من خلال رسائله. هذا التدخل يظهر في أنواع شتّى في تأملنا بكلام الرب في الكتاب المقدس، في المشاركة بالذبيحة الإلهية، في التأمل الشخصي وفحص الضمير...
2- مريم منذهلة: حدثُ الظهورِ هو حدث يعرقل حالة الإنسان وكل كيانه، ليتملكه الخوف؛ لأنه حدث يفوق قواه الطبيعية, فهو خارق العادة. لا أحد يستطيع أن يكون في حالة "إستنفار دائم" لتدخل الله بهذا الشكل، "طرقه لا تحصى" فهي تغير مجرى الحياة، تغيّر أي مشروع برمته، وأية مفاهيم حياتية وثوابت كنّا نعتقدها الأنسب لوضعنا وحالتنا المعيشية.
3- مريم الباحثة عن المعرفة والإدراك: الاستفسار ليس بعمل معيب ولا علامة ضعف أو شك، فالانتباه والتساؤل يتحولان من إنذهال إلى بحث وتدقيق بالذات الداخلية، في صميم العمق الذاتية الساكنة في ظلمة الخوف والتردد، عندها الإدراك يصبح أداة لكشف خفايا هذا العمق ووضعه أمام نور العالم الإلهي.
4- مريم تتعثر بحدود كيانها الإنساني: "كيف يكون ذلك؟" يتخطى مشروع الله محدودية فهمنا وإدراكنا لأمور كثيرة بما أن الله هو صانع الحياة؛ ويظهر جليا مرات عدة مدى قلة إدراكنا لتحقيق أمور عدة أقوى من قدرة استيعابنا، فما علينا التسلّح بحجّة ضعفنا، بل علينا أن نطلب فعل وقوة الروح القدس الذي يصمم ويحقق فينا المعجزات الخارقة كما فعل بمريم حين أدلت بكامل طواعيتها.
5- مريم تعطي ذاتها: لم يجبر اللهُ مريم على الخضوع إلى كلامه، تركها حرّة التصرف ومهّد أمامها الطريق والمجال الواسع لاختيار "النصيب الأفضل والأكمل"؛ لذلك وضعت مريم كامل ثقتها وتركت نفسها تتآخذ بكلام وفعل الله باختيارها له إلها وربّاً. لم تعطِ ذاتها مجالا للتأمل والتفكير والجدل الواسع بحديث الرب، ولا حتى استأذنت أو استشارت يوسف أو أحداً من أقاربها، فالوضع صعب للغاية ومحيّر، والاختيار مبهم إذ لا يقتصر على مجرد قول الـ "نعم"، إذ أنّه مرتبط بمصير خلاص العالم. لم تكتفي مريم فقط بقول الـ "نعم" إنما أضافت "Fiat " = "لتكن" تأكيداً على قبول المشروع الإلهي وكل ما ينتج عنه من فرح، وآلام، وخلاص... هذه هي الطاعة للكلمة بتكوين أمور جديدة، والجهوزية لقبول أي نتيجة إتحاد وطواعية للرب، لأن النتيجة مضمونةٌ وحاملةُ ثمارِ خلاص وفرح: عطاء كلّي. بذلك أصبحت مريم دعوة جديدة، وأكثر من ذلك أصبحت صاحبة الدعوة بحملها المسيح، بقبولها واعترافها به والشهادة له.
خاتمة مرات عديدة من مراحل الطفولة، عندما كنا نصغي إلى قصص حقيقية أو خرافية كانت تولد فينا الفرح والبهجة من كثرة الشوق للاستماع إليها أو للحصول على جواب، إذ كنا ندخل في حالة من الانتظار بعد مدة من التساؤل والاستفسار. ولعدة مرات أيضا كانت تضاف أفكار عديدة من صنع الخيال على تلك القصص لتجميلها وجعلها مشوِّقة ولجذبنا إلى فحواها ولمتابعة فصولها اللامتناهية يوما بعد يوما، علما أن معظمها كانت من نسج الخيال. قصة الله مع الإنسان هي قصة حب طويلة لا نهاية لها، قصةٌ أبطالُها اثنان: الله والإنسان. قصة واقعية، حقيقية، مغمورة بالعشق الأبوي-البنوي الصافي حتى بذل الذات والموت حبّاً بالآخر. هذه هي هوية بطلها الأول وكاتبها، الله، الذي مازال يغني ويفيض من حبه في صميم أعماق جبلته، الإنسان، لجعلها على صورته ومثاله، أداة إلهية حيّة وخلاصية. إلى مريم البتول وبفعل روحه القدوس، أوكل الله صياغة القصة (السيناريو) ووضعها في إطارها الترابي - الطبيعي كي يتسنّى للإنسان أن يستوعب هذا الحب الكبير المتجسد في شخص المسيح يسوع، وان يقترب منه قدر الإمكان، فعايشه الله، سار إلى جانبه واستقر فيه بواسطة سر الإفخارستيا إلى أن يتم اللقاء الأبدي في القيامة المجيدة. بهذا الفعل أصبحت ومازالت مريم العذراء والدة للإله الحي وللإنسان المفتدى، وهي تواكب فصول المسيرة بحذافيرها ساهرة على تمتين الرابط الأبوي-البنوي بحنانها وعطفها الأمومي.