قبل أن أحكي لكم القصة وأسبابها.. دعنا نتعرف بإيجاز على شخصية العم بابا نويل..يتمتع طلاب أوربا في عيد الميلاد بإجازة طويلة تمتد من 24 ديسمبر إلى السادس من يناير.. وقد تصل إلى ثلاثة أسابيع مع عطل نهاية الأسابيع.. والشخصية الأسطورية لبابا نويل هو من بين أبرز رموز عيد الميلاد.. رجل بشوش، ذو ضحكة عريضة، ولحية كثَّة ناصعة البياض، وكرش يشبه كرش هومر سيمبسون Homer Simpson في أفلام الكارتون..
يرتدي هذا العجوز الطيب - الذي له أسماء عديدة - بزَّة حمراء، وقفازات بيضاء.. ويحمل بيده جرساً رنّاناً، وكيس هدايا مليء بكل ما هو مُحبَّبٌ ومُميَّز للأطفال، فيضفي عليهم الفرحة والسعادة لأنه يحقق أمنياتهم في مختلف أنحاء العالم.. وقد تعددت القصص والروايات حول نشأة وأصل بابا نويل والجذور الدينية والثقافية لهذه الشخصية.. ومنها أنه مستوحى من شخصية أُسقُف مسيحي اسمه نيكولاس من أصل يوناني، عاش في القرن الرابع الميلادي في الأناضول..
لكن المشهور في قصص الأطفال، بابا نويل يعيش في القطب الشمالي مع سانتا كلاوس، مع بعض الأقزام الذين يصنعون له هدايا الميلاد، والأيائل التي تجر له مزلاجته السحرية، وهي تحمل الهدايا ليتم توزيعها على الأطفال، أثناء هبوطه من مداخن مدافئ المنازل، أو من النوافذ المفتوحة، وحتى من شقوق الأبواب الصغيرة. وتمتلك سانتا كلاوس تلسكوباً خارقاً، تراقب من خلاله تصرفات الأطفال في جميع أنحاء العالم.. فتغدق على الأطفال المؤدبين المطيعين لآبائهم بالهدايا.. بينما تعاقب الأطفال العابثين ممن لا ينصاعون لآبائهم فتبعث لهم بالكاربون "الفحم"..
وفي أسبانيا.. يبدأ الأطفال بكتابة رسائل بلهفة وبراءة إلى بابا نويل قبل بدء أيام العيد.. وهي رسائل رمزية يتعرَّفُ منها الآباء على طلبات أبنائهم.. كما أنهم يستغلونها لتوجيههم نحو الصواب أو تهديدهم شفهياً أحياناً "بالكاربون" إذا لم يؤَدُّوا واجباتهم.. وتُوزَّعُ الهدايا عليهم في السادس من يناير.. والأطفال يتمتعون بحقوق كاملة مكفولة بالدستور والقانون الأسباني.. نحتاج في العراق إلى 77 سنة للوصول إلى واقعهم.. تصور أن هناك هاتفاً حكومياً خاصاً للأطفال في حال تعرضهم للخطر أو الإعتداء من ذويهم أو غيرهم.. يعمل 24 ساعة.. وما هي إلا دقائق وتكون الشرطة في خدمة الطفل المشتكي.. وقد يصل الأمر أحياناً إلى إحالة الوالدين للقضاء أو السجن أو سحب الوصاية منهم على الطفل..
لقد تسمرت قدمي أمام مدرسة المولى المقدس الكائنة في حي الرحمة في النجف الأشرف.. وكدتُ أصاب بنوبة قلبية.. هناك وقفت عقارب التأريخ.. مدرسة إبتدائية مبنية من "كرابانات".. صفوفها لا تصلح إلا أن تكون حظائر دجاج.. وعندما حبب طلابها قصة بابا نويل.. قرروا - أسوة بإخوتهم بالعالم- أن يكتبوا لسماحته الرسالة التالية: عمو بابا نويل.. نحن طلاب مدرسة المولى المقدس الإبتدائية.. أكثر من 3000 طالب وطالبة فيها، على ثلاث وجبات.. ما نريد هدايا.. لأن حياتنا كلها لطم وحزن..
عمو بابا نويل.. هديتنا الوحيدة منك رحلات.. لأن أغلبنا يفترشون الأرض.. صفوفنا مكتظة بالطلاب.. في كل صف زاد على الخمسين طالباً في 20 م مربعاً.. تغزونا بعض الأمراض المعدية الناتجة من عدم توفر الشروط الصحية والإهمال الواضح في دورات المياه الصحية.. عمو بابا نويل.. نقف تحت شمس حارقة أو برد قارص أمام المدرسة.. تغوص أقدامنا الغضة في الطين.. ننتظر خروج زملائنا.. بعضنا حفاة.. وأغلبنا لا يملك سوى بنطال أو ثوب واحد لجميع أيام السنة.. حقائبنا إن لم تكن لأخواننا.. فهي مغبرة لا تسرّ النفوس.. عمو بابا نويل.. لقد أجبروا أخياتنا الصغيرات على الحجاب.. وهنَّ لا يعرفن إلا اللعب..
عمو بابا نويل.. لا أحد يراعي مشاعرنا كأطفال.. نحن لا نعرف سوى حياة الكتائب الدينية العسكرية: آلاف الناس يرتدون أغلبهم زيا أسود موحداً، يسيرون خلف أشخاص يحملون الرايات، بعضها تحمل إشارات اللعن والغمز واللمز، وأغلبهم يحملون السيوف والخناجر و"القامات"، فإن لم يجدوا حملوا العصي والسكاكين، وفي الأمام تسير الطبول والمزامير والرواديد.. وعلى وقع الطبول تتصاعد اللطمات على الصدور العارية أياماً.. عمو بابا نويل.. نحن "زغيرُونين" (صغار) ومشاعرنا الرقيقة لا يحسب لها حساباً.. حتى أحلامنا أصبحت مفزعة.. مليئة بمشاهد مقززة من التطبير، خصوصاً تطبير الأطفال، والدماء النازفة من دقّ الزنجيل على الظهور..
عمو بابا نويل.. أناشيدنا ما نسمعه فيما يسمونه "بالمسيرات المليونية" وهي جوقات أو مواكب متقطعة، تتقدمها الرايات والشعارات والطبول، وتنشد شتى الأناشيد، أو ما يعرف "بالرَّدَّات"..
عمو بابا نويل.. نحن نحب اللعب..كرتنا قنينة ماء فارغة أو علبة كوكا كولا أو حصيات.. لم نعرف من الرياضة سوى "ركضة طويريج".. ونطمح برحلة إلى بحيرة "الحبانية" أو إلى آثار بابل.. عمو بابا نويل.. لو تبرعوا لنا بـ 1% من أموال الفساد والرشوة ورواتب الرئاسات لبنوا لنا مدارس وملاعب ومسارح كثيرة مثل بقية بني البشر..
عمو بابا نويل.. 300 مليار دينار تُصرف من أجل زيارة العاشر من محرم، تضاف لها مبالغ طائلة للأمن، والنقل بحافلات وقطارات مجانية ، وحماية الزوار.. ونحن بدون رحلات..
عمو بابا نويل.. نحو 14 الف موكب توجهت إلى كربلاء لأداء زيارة العاشر من محرم لهذا العام، ونحن لا أحد يزورنا.. حتى مدير التربية كان في إجازة خارج العراق !..
عمو بابا نويل.. المنظمات والأحزاب تتسابق لشراء المواكب، ولا يقلّ دفع لأي موكب عن عشرين ألف دولار لكل صاحب موكب، من غير تبرعات الناس.. ولا أحد يتبرع لنا بمراحيض..
عمو بابا نويل.. يقال أن الحكومة تقدم لكل شخص يقوم بتكوين موكب سبعة ملايين دينار، بغض النظر عن عدد أتباعه.. ولا تبني لنا بها مدرسة آدمية..
عمو بابا نويل.. ما علاقة المشاعل والخراخيش والدمامات والصنوج والزناجيل والقامات ورموز الدم والذبح والترويع، بفكر الحسين العظيم الذي غير مجرى التأريخ الإنساني ؟!..
إن الحسين أكبر وأسمى من "القِيمة"، والتطبير، وضرب الزنجيل، و"التشابيه".. نأمل من المراجع العظام بتصحيحها تنـزيهاً للإنسانية ورأفةً بآدميتنا.. وحفاظاً على مبادئ ثورة الحسين..
عمو بابا نويل.. نحن لم نر الرحمة في حي الرحمة.. ولم يشفع لنا اسم مدرستنا "المولى المقدَّس".. نقسم لك أننا صبيان مؤدبون.. فقد علمنا أنك تحمل اللعب والهدايا لكل أطفال العالم.. ونحن لا نريد منك سوى رحلات ومراحيض.. الدكتور جاسم العبودي[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
في 8/1/2011
د.جاسم العبودي :رسالة عتاب من طلاب مدرسة المولى المقدس إلى بابا نويل