عقدتُ وإخوتي مؤتمرا سريا وقررنا أن نصعد الجبل.. فادي الصغير يريد أن يلهو بثلوج القمة.. يحار في ملمسها ويتساءل إذا كانت الشعرات الثلجية خشنة كذقن جده الشيخ:
- لماذا يشيب الجبل في الشتاء فقط، وذقن جدي أبدا ابيض؟
- لان ثلوج الجبل تذوب وذقن الجد لا تذوب!
- أليس الجبل شيخا كجدي
ضحكت أنا وإيمان وأومأنا له برؤوسنا إشارة الإيجاب...
ولم يسمع فادي جوابا، فانا مشغول بحلمي، وإيمان- كبيرتنا وصغرى بنات العائلة-تسرق من أشعة الشمس قبسا تمرغ به خدودها، تدفئه بحرارة القُبل وترسله لأختنا الكبيرة وراء الجبل .. إيمان على يقين بان وهج القبس الحراري سيمرّ بخدّ سعاد فينقل لها رائحتنا وحنيننا وأشواقنا إليها..
أنا اعترف بان شوقي بتحقيق حلمي عند القمة اكبر من شوقي لأخت لم أرها في حياتي، تزوّجتْ قبل أن أولد أنا وفادي ورحلت وراء الجبل.. رحلت وتركت إيمان تبحث عن حضنها تتحسس كل أحضان العائلة وتزلق منها باكية باحثة عن حضنٍ هجرها ورحل.. عن دموعٍ كوت وجنتيها يوم الرحيل فاحمرّتا حتى يومنا.. إيمان تعرفها لذلك ستصل القمة وتتخذ الثلج في الطرف الآخر مزلاقا تزلق فوقه لتسرع نحو شقيقتها المفقودة لتحقق حلما يراودها كل ليلة.
أحيانا أتخيل أختي القاطنة خلف الجبل.. تتراءى لي في الحلم مُرخية ضفيرة كضفيرة أمي.. جبينها ورثته واسعا من أبي ولون عينيها يحاكي تلك السماء التي تشعل في قلبي فتيلا لن يخمده ألا صقيع الثلج..
انطلقنا والهواء يدفعنا بخبث... ينخر عظامنا كالمهماز فنجمح كالخيل، تصهل المراودات الحِلمية في داخل كلٍ منّا... فنمتطي صهوة الرغبة.. تغرينا الثلوج والقمم وما وراء الجبال!
تعبنا.. والشمس المثقلة بالغيوم وبالأشواق وبالقُبل... بدأت تلملم أشعتها نحو سفر القيلولة..
- لم نتخيل الجبل بهذا البعد! قلت مستغربا، فأتتني الأوامر واضحة دون تردد بأن أتابع المسير ...
إيمان جادة في البحث عن أختها، وفادي يغريه ثلج القمة بصلابته وليونة تشكيله ونصاعة بياضه وملمسه..
وأنا يحفزني حزم إيمان ويشدّني حلمي نحو القمة،والثلج المتراخي بكسل على الأطراف يدعوني أن اخترق سكينته فأحفر قدمي في بياضه فيتعفّر بوطأة تصعد ترسخ في الثلج خطوة ثم لا تلبث أن تغطيها ثلوج متناثرة من وقع الأقدام.
- هل القمة ابعد من كل المسافة التي قطعناها حتى الآن؟ يتساءل فادي.
- ألا تراها تطاول السماء؟! أجبته وقلبي يدقّ خلف القفص الصدري ويكاد ينخلع من مكانه، فعمّا قريب سأحقق حلمي.
وإيمان تلهث، تتصبّب شوقا لرؤية أختنا المختفية وراء القمة.. وفادي يحبو، يتحسس الجليد بيديه ويصنع منه لنفسه ذقنا كذقن الشيخ، وأنا أمد يدي نحو الأعلى لأقيس المسافة بيني وبين السماء، كلما صعدنا نحو الأعلى ستتقلص المسافة بين الأرض والسماء بين حلمي والحقيقة.
وصعدنا وصعدنا.. لا نهائي هذا الجبل، كأحلامنا وكأشواقنا.
كدنا نصل أو كادت تصل تهيّؤاتنا.. والشمس احمرّت خجلا واستدارت لأنها لن تسعفنا لا بحرارتها ولا بنورها..
والجبل شاهقٌ.. والقمة بعيدة.. والشمس ستختبئ وراء الجبل تدفئ اختنا الكبيرة.
وأحلامنا ستكبر مثل كرة الثلج والقمة ستراودنا دائما، إيمان ستصلها يوما لتعبر للضفة الثانية، وفادي جمع كرات ثلجية صغيرة.. قذفها نحو القمة فتدحرجت نحونا تجمع الأحلام المبعثرة على الثلج وتكبر.. وأنا.. أمدّ يدي وأمدّ.. أحلم أن أصل القمة لأكتشف فضاءً آخر لا يبعثر الأحلام لأتحسس كوكبا آخر لا جليد فيه..