الدولة : الجنس : عدد المساهمات : 61368مزاجي : تاريخ التسجيل : 21/09/2009الابراج : العمل/الترفيه : الأنترنيت والرياضة والكتابة والمطالعة
موضوع: الصيف والشتاء في الموصل الثلاثاء 6 أكتوبر 2009 - 12:46
الصيف والشتاء في الموصل
كتبها ماجد عزيزة
الصيف أبو الفقاغي
لأهل الموصل طقوس تختلف عن بقية أهل العراق ، ومن هذه الطقوس تموين منتجات الحنطة وخزنها لموسم الشتاء ، بعد صناعتها في موسم الصيف ، ومن هذه المنتجات ( البرغل والحبية والمدقوقة والرشتا ( الغشتا) وخبز الرقاق ( الغقاق) والكشك وغيرها ) ، فبعد أن ينزل الموصليون من السطوح( كان ينام أغلبهم فوق سطوح المنازل قبل استعمال المبردات وأجهزة التكييف) في شهر بداية شهر أيلول حيث يبدأ الجو بالميل نحو البرودة . وبعد أن يكسرون أكواز الماء الفخارية ( الشغبات) برميها من سطح المنزل إلى أرض الزقاق ، وهو طقس من الطقوس الموصلية الخاصة حيث يعلنون بذلك انتهاء فصل الصيف وبدء الخريف .
في فصل الصيف يشتري أهل الموصل ( القدماء) ما يكفيهم من الحنطة بعد موسم الحصاد ، ثم ينادون على عملة البرغل الذين كانوا يدورون مع دخول موسم عمل البرغل على المحلات والأزقة( العوجات) وهم يحملون آلة تقطيع الحنطة الجاروشة( الجاغوشي) وهي آلة تدار باليد بعتلة كبيرة ، فبعد أن تسلق الحنطة في قدر كبير جدا معد لهذا الغرض ، وكانت العملية تسمى (السليقة) ، يبدأ عمل البرغل بأنواعه وأحجامه ( برغل ناعم وخشن ومتوسط ، وحبية (كشكا) ورشتا(غشتا) وهي الشعرية ، والمدقوقة (وهي مسحوق البرغل) ) ويتم ذلك في يوم واحد أو يومين ، ويتعاقد عامل البرغل مع بيوت الزقاق الواحد حيث يدور عليهم الواحد تلو الآخر . وبعد الإنتهاء من ذلك تخزن الكميات المصنوعة كل حسب حجمها ونوعها في براميل معدة لهذا الغرض وتوضع في السرداب أو في (الرهره) وهي مخزن يقع أسفل البيت على عمق أقل من السرداب ، كانت هي والسرداب على أغلب الأحيان مبلطة بالرخام الذي تشتهر به الموصل والمسمى(الحلان) .
ويتم ارسال جزء من الحنطة المشتراة إلى المطحنة لعمل الدقيق والطحين ، ثم مناداة صانعة خبز الرقاق ( الخبّازي) وعادة تكون من نساء القرى المحيطة بالموصل ( قرة قوش أو كرمليس أو تلكيف) وهن من الماهرات في هذا العمل ، وحين تأتي الخبازة عصرا تبدأ بعجن الطحين وتخميره ثم تنام مع مساعدتها ، وتصحو بعد منتصف الليل بقليل لتبدأ عملها باشعال النار في ( التنور) وتبدأ بالخبز حتى الصباح وقبل طلوع الشمس حيث يبدأ الجو بالحرارة ، وحين الإنتهاء من الخبز يخزن في ( السرداب أو الرهره) في مخزن خشبي يدعى (الدّن) يكون محكم الأقفال والمنافذ خوف دخول الديدان والصراصر فيه ، ومن الطقوس الجميلة في هذا المجال ، هو استغلال النار المتبقية في التنور لعمل واحدة من أشهر الأكلات الموصلية وهي (البرما) ، حيث تقوم (أم البيت) بتحضير مواد الطبخة المتكونة من اللحم والحمص والحبية حيث توضع في (برطمان ) فخاري وتوضع في التنور ليصحو أهل البيت صباحا وقد نضجت طبخة البرما ، ليكون فطورا شهيا ودسما .
ولا يقتصر تموين البيت على منتجات الحنطة والخبز ، فما يحتاجه البيت الموصلي في موسم الشتاء كثير ومتنوع ، فما من بيت موصلي يخلو من ( الكيل) والذي يسميه البغداديون (طين خاوة) وهو مادة طينية كانت تستعمل للغسيل قبل أن انتشار استعمال الصابون ، وهو نوعان الأسود ويستعمل للإستحمام ، والأخضر لغسيل الملابس ، وكانت النساء يستعملنه حين يذهبن إلى النهر (الشط) لغسل الملابس حيث كن يستعملن الخاطور( الخاطوغ) وهو عبارة عن عصا مسطحة تضرب بها الملابس المنقوعة بالماء والكيل لتنضيفها . ويكثر الكيل في منطقة (عين كبريت) شمال الموصل. ومن المواد الغذائية الأخرى التي يخزنها الموصليون ( الحمص والعدس والباقلاء الجافة(الباقلي) والسماق والدهن الحر ( السمن الحيواني) والكشك وهي أكلة موصلية خاصة باهل الموصل ، ويتكون من الحبية المطبوخة والمخلوطة بالخميرة مع الشلغم ( الشلخ) ، وهذا حضر وييبس بفرشه فوق سطح المنزل حتى يجف ويخزن لحين طبخه ، وهو من أكلات الشتاء . وهناك مادة أخرى لا يستغني عنها الموصليون وهي الفحم ، حيث كان يتم شراء كمية كبيرة منه لإستعماله في التدفئة .
يعلن انتهاء فصل الصيف بطقس موصلي معروف كسرجرار الماء الفخارية التي كانت تستعمل طوال أيام الصيف في السطح لشرب الماء ، حيث ترمى (الشغبي) وهي (التنكة في بغداد ، والقلة في مصر) ، ترمى من السطح نحو الزقاق (العوجي) مع الصراخ بجملة(تموز ... طباخ) ، وطباخ هنا هو كناية لشهر آب ( أغسطس) ولم اسمع أحدا من غير اهل الموصل يستعمل هذه الكلمة ، ومن الممكن أن التسمية آتية من أن مناخ شهر آب يقوم بانضاج الثمار في أشجارها أي (طبخها) .
ويسمي فصل الصيف في الموصل ( أبو الفقاغي) أي الفقراء ، لأنه يحميهم من البرد القارس ، فلا يحتاجون لدثار أو مكان ينامون فيه ، وفي فصل الصيف كنا نذهب مع والدينا وقت الفجر إلى (الكب) وهو ساحة فسيحة تقع على ساحل نهر دجلة تحت الجسر الحديدي القديم ( جسغ العتيق) يباع فيها الركي( الشمزي) والبطيخ ونشتري بعضا منه (كومة) حيث يباع أكواما أكواما ، ونحمل ما اشتريناه على ظهر الدواب أو في عربة يدفعها صاحبها باليد ، واشهر صاحب عربة دفع في خمسينات وستينات القرن الماضي كان (حمدو وشقيقه سعدو) وكانا يقفان خلف كنيسة اللاتين في الساعة على شارع الفاروق . وكانت مرافقتنا لوالدينا إلى (الكب) لسبب واحد هو شراء (الشمام) وهو البطيخ الصغير الملون والمخطط ، واشهر أنواع البطيخ كان (بطيخ ألقوش) .
ولم نكن نعرف البراد أو الثلاجة في الموصل حتى منتصف الخمسينات ، حيث كان يستعمل(صندوق الثلج) أو ( البغادي ) وهو عبارة عن صندوق خشبي كبير مغلف من الداخل بمادة (الجينكو) وهي شرائح حديدية رقيقة ، يوضع معها صندوق محكم من نفس المادة يملأ بالماء ، ويوضع فوقه بعض من الثلج ، ليبرد الماء الذي بداخله ، وليشرب أهل البيت ماءا باردا ، وكان الثلج يأتينا من معامل الثلج بشكل مباشر عن طريق سيارات (لوري) خاصة لنقل الثلج ، يقوم كل بيت بتسجيل اشتراكه السنوي والكمية اليومية التي يحتاجها ، وكانت سيارات الثلج تقف في أول الزقاق ويقوم العامل بتقطيع قوالب الثلج التي يصل طولها لأكثر من متر واحد بمنشار خاص ذي اسنان كبيرة ويوزعها على البيوت( قالب أو نصف أو ربع قالب) ، وكنا نقوم باختيار قالب الثلج المملوء ( عالي الكثافة) ونترك الذي يكون فارغا من وسطه لأنه سريع الذوبان ، ولكي نقلل من سرعة ذوبانه وللحفاظ عليه مدة أطول ، كنا نقوم بلفه بقطعة من الجنفاص( الكونية) .
وكان أهل الموصل يحصلون على ماء الشرب حتى ثلاثينات القرن الماضر وأربعيناته من النهر مباشرة ، حيث كان سقاء الماء(السقا) يملأ بعض القرب الجلدية (الجود) المصنوعة من معدة الحيوانات ، بالماء من نهر دجلة ويوزعه على الناس ، وكان يدخل بالقربة إلى فناء الدار ليفرغها في (المزملي) وهي صندوق حجري لخزن المياه، وبعد أن بدأت الحكومة بتصفية المياه وتعقيمها دخلت صنابير المياه(الحنفيات) إلى البيوت وأصبحت (المزملي ) من بقايا التراث الموصلي .
مؤونة الشتاء الموني
الشتاء في الموصل بارد قارس شديد البرودة ، لقرب المدينة من المنطقة الجبلية ، ولنزول الثلوج بكثرة في تلك المناطق ، لهذا فإن حركة الحياة تشهد هدوءا أكثر من المواسم الأخرى ، كنا ونحن صغار نجتمع في ليالي الشتاء في غرفة واحدة (اودة القعدي) حول موقد النار (المنقل) الذي يعمل بالفحم والذي تطور إلى استعمال المدفأة(الصوبة) التي تعمل بالنفط ثم بالكهرباء ، وكنا في بعض أيام الشتاء القارس نقوم بعملية شواء الكستناء (الكستاني) في نفس الموقد أو المدفأة ، ونأكلها بشهية ، وكانت جدتي تقوم بالتحلية فتطعمنا ما تسميه (بقلاوة الفقاغي) أو الفقراء ، وهي عبارة عن رش خبز الرقاق بالدبس أو ما يسميه الموصليون الحلو ( عصير التمر) وهو حار ، وكنا نقبل عليه بشراهة. وفي بعض الليالي تقوم النساء بعمل (المستوى) وهو سلق الشلغم ( اللفت) مع الشوندر ، وما ألذ الماء الأحمر الذي كان يسلق فيه ، حيث كنا نتسابق لرشف بعض من كؤوسه بعد وضع الملح عليه .
كانت جدتي رحمها الله تدخر موادا كثيرة تبدأ بشرائها أو صناعتها ، وتضعها في سرداب البيت ، تحسبا للشتاء القارس البرد ، وكانت بعض هذه المواد توضع اما في البراميل الحديدية ( الجينكو) أو الصناديق الخشبية ، أو في اواني الفخار ( السد) ومن المواد التي كانت تخزنها ..ومنها (القسب) وهو نوع من التمور الصلبة التي تقاوم ظروف الخزن ولها قيمة غذائية عالية ، والدهن الحر والذي يستخرج من الاغنام وله نكهة مميزة وكان يخزن في قربة مصنوعة من الجلد ، ومشتقات الحنطة كالبرغل والجريش والحبية والرشدة والشعرية . والراشي ( الطحينية) وهو عصير السمسم ، و الدبس ( الحلو) وهو عصير التمر ، وخبز الرقاق وهو الخبز المستخدم هناك ويكون كبير الحجم ورقيق جدا يخزن جافا ويستخدم بعد رشه بالماء فيصبح طريا سهل الهضم ،والفواكه المجففة مثل الزبيب والمشمش ، والخضراوات المجففة كالباميا والثوم والباذنجان والفلفل الحار ، والجبن الابيض المصنوع محليا ويوضع داخل وعاء يسمى ( السد) ويحفظ بماء مملح ، والجبن الجاف المخلوط بالمطيبات كالكراث والثوم ( جبن مثوم) ، اضافة للمواد الاساسية الاخرى مثل الرز والطحين والخميرة .