إذا كانت القرصنة الثقافية إحدى مظاهر الرداءة في الحياة العربية، فإن بعض عواملها تكمن في الانقطاع الذي يصل حدّ الاغتراب والتغريب بين السيرورة الاجتماعية والسيرورة الثقافية داخل المجتمع. ثمة حالة اغتراب وتغريب يعيشها الكاتب العربي في مجتمعه، تعود بأسبابها إلى جذور تاريخية وبيئية تربوية راسخة وإفرازات معاصرة. ان حالة الرفض الاجتماعي هي التي تدفع المبدع إلى الانتقال إلى العاصمة أو إلى بلد آخر، يعاني فيه من الغربة ولكنه يتخلص من تغريب المجتمع له ونظرته إليه ككائن خرج من نمطية القطيع إلى مستوى فكري وعقلي مختلف. بكلمة أخرى، انه التنافر السلبي بين المتخلف والمختلف. ولا يشترط أن يكون الاختلاف (الفكري) هنا حقيقياً، قدر ما هو حكم مسبق (على بياض) ناجم من النظرة السلبية للعلوم والفنون والآداب. على خلاف ذلك يحظى بالحفاوة والفخر من مجتمعاتنا من يتخذ سبيل الدين أو الشعوذة منهجاً. بل أن العاملين في هذا المجال يعامَلون كأحد أفراد الجماعة والمنطقة حتى لو كانوا من مناطق أو بلدان بعيدة. ذلك أن المتعامل بالدين أو الشعوذة يستخدم أدوات قريبة من واقع الناس وفهمهم، أو يخاطب عواطفهم وغرائزهم، فيتمكن من استمالتهم، أو أنهم يلجأون إليه لحاجتهم لما يوحي بالقناعة والطمّأنينة أو فكرة المنقذ والمخلّص الذي يرفع عنهم الخطايا ويعدهم بالفراديس المؤجلة، وهو الاسلوب الذي تتبعه الاحزاب الديماغوجية للاستئثار بالشعبية. بينما يحاول المثقف التماهي مع الحالة المعرفية والتجويد فيها بانتظار ارتفاع الوعي الاجتماعي وأدوات الفهم العامة للمستوى الحضاري الذي يستوعب فكرة الحداثة. دون أن يبتكر الأدوات والوسائل التي تقرب الثقافة من العامة وتساهم في رفع الوعي الاجتماعي للمستوى الذي يؤهله لقبول فكرة التغير والتغيير كسنّة للحياة. ومن المؤسف أن الثورات الثقافية في الشرق كانت دائماً بقيادة المؤسسة العسكرية أو الأيديولوجية. وهي بذلك لا تعلّم وتطور الانسان وانما تمسخه بلغة الأوامر والتهديد بالثواب والعقاب.
ان تحديد حالة الاغتراب ووضع تعريف لها يقتضي نظرة على الحالة العامة للمجتمع بالمعيار الحضاري أو الثقافي والاجتماعي والسياسي وبالتالي مدى صحية هذه الظروف لانتاج مجتمع طبيعي منسجم مع نفسه وامكانياته ومطامحه، وعليه تحديد حجم احتمالات عدم الانسجام أو عدم القدرة على تلبية حاجات جماعات معينة. وبالتالي فأن الاغتراب الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي يمثل معطيات بدهية في المجتمعات المعروفة بالتخلف الحضاري أو التي تعيش حالة عامة من الانسياق والتبعية المطلقة لجملة أحكام وتقاليد موروثة أو مفروضة لا قدرة لها على مناقشتها أو تغييرها.
مجتمع قائم على القلق وعدم الاستقرار
ان المجتمعات الطبيعية- أي التي تعيش ظروف طبيعية ضمن محددات علم الاجتماع- هي تلك التي تتوفر على مرتكزات وبنى تحتية اجتماعية واقتصادية وسياسية تؤهلها لممارسة حياة طبيعية وتنعم بالاستقرار والامن الاجتماعي والوطني. ويمكن تصور ذلك في أحد حالتين: المجتمعات القديمة ذات الركائز المتينة التي لم تتعرض للاهتزاز والضرر خلال تاريخها كالصين مثلاً. أو المجتمعات التي توفرت على نقلات حضارية واجتماعية ساعدت على إعادة تنظيمها وصياغتها وتأهيلها للمتطلبات الراهنة كالمجتمعات الأوربية سيما الغربية منها واليابان. وبالمقارنة العامة فأن المجتمعات العربية ذات الأصول القبلية المتشظية لا يمكن احتسابها ضمن أي من النمطين. فالبداوة التي لا تزال تحكم مفاصل عديدة من حياة العرب بأحكامها وثقافتها لا تتوفر على الشروط الطبيعية أو المرتكزات المادية التي تحقق ظروف طبيعية تستجيب للحاجات الانسانية المتجددة والمتعددة وبما يناسب راهنية العصر. من جهة، ومن الجهة الأخرى فلم تظهر نقلة أو ثورة حقيقية شاملة تنقل المجتمع وتعيد صياغة امكانياته بما يناسب قوانين تطور الحاجات ونمو الافكار وسنّة التغير. بالمقابل كانت المنظومة البدوية أو القبلية غير المحكمة أو الضامنة لحاجات أفرادها عرضة باستمرار للهزّات والصدمات العسكرية والحضارية من القوى الخارجية الاقليمية والدولية. وقد كان من سوء حظ هذه المنظومة وقوعها على مشارف أعتى وأقدم امبراطوريتين في العالم. أي الامبراطوريتين الرومانية والفارسية. وقد انعكس هذا الجوار على الجماعات القبلية بعدم الاستقرار والخوف المستمرّ، من الاجتياح العسكري أو الغزو الثقافي الاجتماعي على السواء – هذه الحالة مستمرة حتى اليوم موصوفة بالمواجهة أو الجوار السلبي-، جعل هذه المنظومة أكثر اعتزازاً بمبادئها وقيمها من جهة، ومن الجهة الأخرى أغلقت نفسها في وجه الظواهر والامكانيات الموجبة التي تساعدها على التمرحل أو التطور بالمضمار الحضاري. ولم يكن لأولئك ما يدعوهم لغزو أعماق شبه الجزيرة. فكانت النتيجة استمرار تلك المنظومة الثقافية حتى العصور المتأخرة.
الحل الخارجي
وإذا كان العلاج الوحيد – كما يبدو- لمثل هذه الحالات المستعصية هو الحل الخارجي أي الغزو الثقافي من الخارج، فأن طبيعة هذا الغزو وظروفه، لم تأخذ بنظر الاعتبار طبيعة وظروف العقلية العربية المتوارثة وبالتالي لم تتلاقح أو تنعكس بالشكل المطلوب على الحياة العربية. لقد تمثلت طبيعة هذا الغزو في نمطين: الغزو الديني الممثل بالحروب الصليبية وما تركته من صيت سيء في البلاد الأوربية والعربية على السواء حتى اليوم. القرصنة الغربية التي بدأت في القرن السابع عشر باحثة عن الثروة وطرق التجارة السريعة مع شرق آسيا، حتى اكتشاف النفط وبدء مرحلة تاريخية جديدة في حياة المنطقة والعالم. وهنا نجد أن المصالح الاقتصادية وليس الثقافية هي التي طبعت الغزو الغربي لبلاد العرب حتى اليوم. ناهيك أن اهتمام الغرب بالمنطقة انما هو استجابة لحاجاته الذاتية والموضوعية وليس الاهتمام بنشر الحضارة المعاصرة والحاجات الذاتية للبلاد المستعمَرة!. هنا لا بد من وضع علامة تعجب أمام هذا الاصطلاح الذي أريد به إضفاء هوية حضارية تنويرية على الغزو الأوربي للعالم.
مع ذلك، فانعكاسات ونتائج الغزو الأوربي (القرن 17- 20) ليست واحدة في كل العالم. فقد استطاعت بعض بلدان آسيا وأميركا اللاتينية قطع أشواط بعيدة للاقتراب من العالم المتقدم. البلاد العربية تمثل حالة استثنائية فريدة في المشهد العالمي اليوم رغم ما تتوفر عليه من امكانيات اقتصادية وحضارية. ومع التسليم بمآخذ الموقف الغربي من المجموعة العربية عموماً، فلابدّ من الاعتراف بوجود عوائق مستعصية في وجه التنوير الثقافي. وتتمثل هذه العوائق بمنظومة الثقافة القبلية البدوية التي أفرزت على مدى القرون عقلية محددة راسخة لا تستطيع النظر الى العالم والاشياء خارج منظورها الخاص وهو منظور محدد قائم على مرتكزات تجاوزتها العصور الحديثة. وعند مراقبة جملة الظواهر والاحكام التي تتردد هنا وهناك يبدو العرب اليوم وكأنهم يعيشون في القرون الوسطى الأوربية. لقد أشار د. هـ. لورنس في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) إلى كثير من خصائص هذه العقلية وألمح إلى طبيعة مهمته الصعبة بين البدو. ويبدو أن مثل هده المهمة ما زالت صعبة حتى هذا اليوم على المثقفين العرب أنفسهم وليس الأجانب. بل هي اليوم أكثر صعوبة في إطار احتدام أزمة الهوية عند العرب فلم يجدوا ملاذاً غير نزعة التطرف والسلفية. ان إشكالية العرب تتعدى الجهل والمرض والتخلف الحضاري إلى أزمة حقيقية متمثلة في طبيعة العقل العربي أو الفكر الاستاتيكي المنغلق على نفسه؛ والذي لا يرى العالم إلا من ثقب مشوّه يرسم من خلاله صورة العالم والوجود ويحكم على ما عدا ذلك بالفساد والزوال.
ومع فشل الاستعمار في تغيير البنى التحتية للواقع العربي واقتصاره على ترسيخ النزعة الاستهلاكية حتّمت الضرورة التاريخية أن تتولى الحكومات العربية اللاحقة تحقيق النقلة المنشودة، بيد أن مرجعية نظم الادارة العربية وعدم قدرتها تجاوز أطر العقلية العربية حكم على سياساتها هي الأخرى بالفشل. ان حالة الفسيفساء التي تتمثلها الحياة العربية المزوّقة بمظاهر غربية قشرية وتقاليد تراثية بالية هي مصداق سياسات التنمية المشوّهة و البرامج الناقصة، والتي تمثل نتيجة منطقية لعجز العقل العربي عن الاجابة على السؤال الذي رفعه أعلام التنوير المصري قبل قرن من الزمان حول الطريق الى النهضة العصرية. بل أن ما يجري اليوم يمثل نكوصاً إلى الداخل و ردّة الى الخلف. ان هيمنة التيار السلفي المتزايدة في السنوات الأخيرة يعطي مؤشراً جديداً على تعميق عوامل الاغتراب داخل المجتمعات العربية. وهذا يعني اتساع تيار النكوص الفكري والثقافي كما حصل في مصر التسعينيات من جهة وتشجيع ظاهرة الهجرة الى الخارج، التي تدرجت من الأسباب السياسية والاقتصادية الى الأسباب الاجتماعية والثقافية في العهد الجديد.
أثر البيئة في صياغة الشخصية العربية
ان الثقافة أو الحضارة بالمفهوم الغربي هي نتاج الاستقرار والمدنية أو التحضر. وعوامل الاستقرار تبدأ بالعلاقة مع الأرض والمياه عبر الزراعة ، تلك العوامل التي لم تتيسّر في شبه جزيرة العرب، ولم يسعَ العقل العربي لتحقيقها في محيطه. فانطبعت حياة العرب بالبداوة، المرهونة بالتنقل الدائم وراء القوت والماء. وقد أسفر ذلك بمرور الزمن عن ظهور ثقافة بداوة وعدم استقرار تتغلغل جذورها في وعي وعقل الفرد، وتشكل قاعدة تستند عليها منظومة معرفية متكاملة، وتقوم على عدّة أركان: هي الغيبية والذاكراتية واحتقار المادة وتبجيل القوة والارتزاق. فالثقافة العربية نتاج التنقل وعدم الاستقرار، وهذا جعل من القلق والاضطراب والانفعال والتكسب خصائص راسخة لها استمرت حتى اليوم لعدم حصول تغيرات جذرية في الواقع الاجتماعي المادي وترسخها في ثنايا العقلية العربية ناهيك عن حالة الانفصام والازدواجية المقترنة بالفرد العربي لتعامله بين واقع متخلف راهن ومبادئ قيمية عالية لا تناسب الواقع. أن التشابه والتداخل والتكرار والتناقض في جوانب كثيرة من التراث العربي ليست سوى صور من السكونية الاجتماعية المنعكسة عن الخاصية الاستاتيكية للواقع العربي.
ان عدم حصول تبدلات في اسلوب الحياة والتعامل في حياة البداوة وثقافتها، أوصلت المنظومة المعرفية الى حالة ممتنعة متمنعة من الجمود والتكرار. ذلك أن ظهور الاسلام ونشأة الدولة واتساعها لم يستطع تهديد منظومة الوعي البدوي في الشخصية العربية، بل أنها استفادت من بعض عناصرها لصالحها من جهة. ومن الجهة الأخرى أضافت اليها عناصر جديدة تخدم نظامها العام. بل أن ظاهرة التكرار والايقاع من مظاهر الشعر العربي تسرّبت إلى لغة القرآن. ان استشراء التكرار والمحاكاة وعدم الخروج للجديد، جسّد حالة الاعتزاز بالذات ونبذ المختلف. وهو ما يحصل اليوم من عودة للقديم والمبالغة في تمثله في مواجهة سياسات العولمة الأمريكية. وهو سبب من أسباب عدم ظهور أنماط شعرية أو نثرية جديدة، واستمرار النفور العام من مسألة تحديث الشعر والثقافة وأنماط الحياة والادارة الأخرى.
التكرار والمحاكاة والتقليد خصائص وأنماط متعارفة وغير مستهجنة في الأدب العربي، وضعت الباحثين والمحققين المتأخرين إزاء إشكاليات في تصنيف ونسبة أبيات وقصائد ومقطعات، تكرّرت لدى أكثر من شخص أو ذلك التحريف والتغيير البسيط في الجملة، مما لا يدخل في باب التضمين أو الاقتباس والاستعارة وانما في باب السرقة والقرصنة الأدبية. ناهيك عن التشابه المقيت للمطالع والخواتم التي اتخذت صفات القداسة في المنظور النقدي والشعبي سواء في استهلال الشعر أو الخطابة. ترتّب عليه نمو ذائقة سطحية انفعالية تقوم على السهولة والاستسهال، والتي تجعل كتابات فيلسوف مثل ابن عربي وطروحاته منبوذة لعدم انسجامها مع ذائقة ومفهومية العامة. ذاك أن هذه الذائقة تستند الى ميكانزم الشعور وظواهره وتنأى بنفسها والمستمع عن فضاء العقل وبنى الفكر والمخيلة.
أزمة الهوية بين الحصانة والتحجر
ان مفهوم الاغتراب والتغريب وفق ذلك انما هو معادل لمفهوم الحصانة الذاتية التي يحمي بها المجتمع نفسه في وجه كل دخيل أو غير منسجم مع بناه ومكوناته البيئية. ومعالجة النفور والتوجس نفسياً وفكرياً، لا يكون إلا بمراجعة المنظومة الثقافية والفكرية الفاعلة في المجتمع وإعادة تنظيم المعادلات بين المنتج والمستهلك، بالإضافة إلى توسيع قاعدة الاستهلاك أو التداول الثقافي. فالكتاب الفكري، العلمي والأدبي والفني ما زال غريباً على يد العموم ومكتباتهم المنزلية. ان التعلل بنسبة الأمية ليس حقيقياً هنا قدر ما يتعلق الأمر بالأمية الثقافية والانفتاح الفكري. ففي كل بيت مكان للكتب الدينية والتراثية، إضافة لكونها تشكل نسبة أساسية من الحديث والاتصال اليومي. بهذه الطريقة يمكننا أن نسأل عن نسبة المصريين الذين قرأوا نجيب محفوظ الذي يكتب منذ الثلاثينيات حتى اليوم وبمعدل كتاب أو أثنين سنوياً وله عمود في الأهرام. اذا كانت النتيجة مؤسفة حتماً فما هي حصة أدباء السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من مجتمعاتهم، وهم يلوذون بالشبكة الألكترونية ليزيدوا في عدد قرائهم ومعارفهم خارج بلادهم.