ليس صحيحاً أن الموت عندما يأتي ستكون له عيناك! ليس صحيحاً أبداً أن الرغبة بالحب، تشبه الرغبة في الموت. ليست تلك اللحظة ذاتها، ربما تتساويان بالعدم نفسه من حيث أنهما سابحتان في التبدد. في الحب التماهي مع الآخر. في الموت التماهي بالوجود والتحول من المادي المحسوس إلى فكرة. دائما كانت الأفكار عند البشر أكثر نبلا من وجودهم نفسه، وإلا ما معنى تلك القدسية لأمواتنا، قد يكون الواحد منهم بيننا قبل لحظات، وعندما يختفي، يصير التماعة! لن أقول إني هادئة الآن. أنا صامتة فعلاً. أسمع دقات قلبي مثل دوي انفجارٍ بعيد، وهو أكثر وضوحاً من أصوات الرصاص، ومن صياح الصبيان، ومن عويل الأمهات. أكثر وضوحاً من رجفة صوت أمي وهي تستغيث بي، عدم الخروج إلى الشارع: القتلة في كل مكان. الموت في كل مكان. في القرية. في المدينة. على الشاطئ. القتلة يستبيحون الإنسان والمكان، يروعون الناس، ينتشرون أمام بيوت الجيران، ويشيرون إليهم أننا سنقتلهم، ثم يأتون إلينا، ويصرخون: سيقتلكم هؤلاء. أنا الزائرة الطارئة على هذا المكان. أنا الطارئة على الحياة. لا أنتمي لبيئة العيش، مثل حيوان بري كنت أسبح في العدم. أتخبط فارغة إلا من حرية وجودي. هنا أنظر من النوافذ وأراقب الأشياء ثم أصير أكثر هدوءاً وأصمت. صوتي لا يخرج، في هذه اللحظات أتذكر عمر أميرلاي، وما قاله في احدى جلساتنا الصباحية، عندما قلت له: سأكتب روايات عن تاريخ هذه البلاد، وقال: لا تتأخري، فأنا أراك كل لحظة مشروع موت مؤجل. أضحك. يضيف بابتسامة: لولا ابنتك طبعاً! عمر الساخر لم يكن ليتفوه بهذه الجملة ببساطة، فهو يعرف علاقتي بالموت التي حمت وجودي. الموت يشبه الحب، لتتخلص منه، كن فيه! وإذا أردت أن يبقى هذا الحب يحرق قلبك، أترك له المسافة. أردت الإنتهاء بسرعة من هذا الوجود. لم أعرف في غمرة التفاصيل، أن هذه اللامبالاة ستجعلني امرأة شديدة الصرامة وشديدة الهشاشة! وأني سأتمسك بالحياة إلى هذا الحد من الخوف. الخوف من ماذا؟ كيف يخاف الناس هنا؟ الناس لا يعرفون أنهم يعيشون الخوف. مثل شهقات التنفس يعيشون الخوف. منذ أن عشت في العاصمة أنا وابنتي، قبل خمسة عشر عاماً، هناك سكين لا يفارق حقيبتي، أحمله أينما تحركت. سكين حاد صغير بزر كباس. سكين جاهز للدفاع عن النفس. قبل سنوات مضت كنت أقول؛ إني سأغرسه في جسد من يحاول إهانتي لأني امرأة تعيش وحدها، لم أستخدمه كثيراً، مرات قليلة، شهرته في وجه رجال مذهولين، لكني مؤخراً صرت أقول: إني سأغرس هذا السكين في قلبي قبل أن أسمح بإهانة كرامتي. ماذا يعني كل ما أقوله الآن وسط حفلة الموت هذه! أي خروج للشارع، يعني فرصة للموت، داعبتني هذه الفكرة، أن تمشي في شارع، وتشعر أن هناك من سيقتلك في أية لحظة. فكرة مجنونة، لكنها غريبة، أن تخرج مع الأصدقاء للتظاهر، وتعرف أن هناك رجالاً من الأمن، قد يقنصوك في أية لحظة. رجال الأمن الذين يدوسون رقاب الناس منذ عقود، يعهرونهم يخوّنونهم، يعتقلونهم. يقتلونهم، ثم يمشون في الشوارع بدم بارد. كيف يتحول الجسد البشري إلى آلة قتل فتاكة؛ الأيادي، العيون، الشعر، الرأس. كل هذه الأعضاء التي تشبه أعضاءك، كيف تتحول إلى مجسات ضخمة، وأنياب طويلة؟ هكذا بلمح بصر، يتحول الواقع إلى خيال. الواقع أكثر توحشا ًمن الخيال، يقولون إن كتابة الرواية تحتاج لخيال، وأنا أقول تحتاج لواقع؛ أولاً وثانياً وثالثاً، وما نكتبه في رواياتنا هو أقل وحشية مما يحدث على أرض الواقع. تخرج السيدة على شاشات التلفزة. أمي تقول اسمعوا: تتحدث عن خونة وفتنة طائفية يا ويلنا، أغلقوا النوافذ!! نحن والجيران نستسخف ما تقول، فنحن أكثر من عائلة! أتجادل مع أمي، وفجأة أبكي، تعود صور الأطفال المعذبين والشباب الذين قتلوا. وجه الطفل الذي حملته في ساحة المرجة، وهو يرى عائلته تضرب وتعتقل، اسمع رجلاً يتحدث من التلفزيون عن دم الشهداء في درعا، يطالب بالثأر، ثم يقول: لن نرد على هذه المرأة ( يقصد السيدة) ونحن لا نرد على نساء، هل نصغي إلى امرأة؟! كل ما يحدث لا يشبهني؛ تصفيق عائلتي للسيدة، وتصفيق أصدقائي لدم الشهداء. أخجل من دم الشهداء، وانثني على قلبي. يا رب السموات إن حدث خطأ بشري، واتضح أنك فعلاً تجلس هناك، ولا تريد النزول لترى ما يحدث، فسأمد يدي إليك، وأطالك من سماواتك السبع، لتسمع وترى! أخرج للشرفة، أشجار الليمون تنعشني. المكان هنا هادئ للحظات، ثم تشتعل النيران. الكل يعرف أن هذه المدينة كانت هادئة، ليس الهدوء الطبيعي، فسطوة الأجهزة الأمنية عالية، ولا أحد يستطيع افتعال أي مشكلة. رجال الأمن دائماً في الشارع. فجأة تتحول شوارع المدينة إلى كرنفالات رعب. فجأة تحل الفوضى. عناصر الأمن يتفرجون على الناس، يهربون أحياناً، وأحياناً تتم تصفيتهم بطريقة غير مفهومة! العصابات التي طلعت من الأرض، نبتت مثل أي شيء يحدث هنا، من الفراغ دون منطق ودون سبب! كيف طلعت عصابات الجنون هذه من الأرض، كيف قتلت الناس، وجعلت الرصاص يرقص بين أرجلنا، وتحت نوافذنا؟ كيف حدث كل هذا؟ الناس تتساءل. العصابات نفسها تذهب إلى جيراننا السّنة وتروعهم، تقول لهم؛ أننا سنقتلهم. تأتي إلينا وتقول إنهم سيذبحون العلويين عن بكرة أبيهم. أنا الطارئة على هذا المكان أتفرج برعب على ما يحدث، أنا المنفية من المدينة ومن القرية ومن هواء البحر. أتلقى النظرات الحادة من الجميع. من كل الأطراف. أنا أعرف الوجهين. أعرف وجوه الحياة الأخرى في دمشق، هناك حيث تحولت المدينة إلى قرية من نوع آخر؟! ما الذي أفعله هنا؟ أنتظر الموت؟ طالما عرفت ذلك، وأثناء ذلك، قمت بمصارعته. تعود السجالات من جديد: المخربون، المندسون، أتكور على نفسي؛ أنا مندسة الآن بين أهلي. مندسة في سريري. مندسة في حب صامت ومستحيل. أنا الآن أدس نفسي في كل شيء، وأنا لا شيء. أنا كتلة اللحم التي تتكور تحت اللحاف، أندس حتى في عروق الإسفلت في الشارع! أنا اندس في حزن كل سوري يمر أمام ناظري. وأسمع أصوات الرصاص والصياح والدعاء. أنا كتلة اللحم التي تمشي في الصباح من بيت إلى بيت، تحاول أن تجد ورقة أخيرة للخلاص، والإدعاء أنها تفعل شيئاً ما. شيئاً كاذباً يعينها على اعتقادها بفكرة التمارين على العدالة، ولكن ماذا يساوي هذا الآن؟ لا شيء! كل الشعارات وكل الآلام وكل الكراهية المحرضة على القتل والموت لا تعني الآن شيئا أمام هذا الواقع؛ الشوارع خالية، مدينة أشباح. الآليات العسكرية تنتشر في كل مكان، ولا وجود للجيش. أين اختفى الجيش، من يصدق هذه الترهات الآن! الجيش يترك العصابات تقتل الناس وتروعهم، ولا تتدخل، رجال الأمن الذين كانوا يروعون الناس، فجأة تحولوا إلى مستضعفين أمام هذه العصابات. ما هذا الجنون؟ إنه الموت، الكائن المتحرك الذي يمشي على قدمين الآن، وأسمع صوته، وأحدق فيه. أنا التي تعرف طعمه، أنا التي أعرف طعم السكين على الرقبة، وطعم الأحذية على الرقبة.عرفته منذ زمن بعيد، منذ لحظة هروبي الأول من هذا العالم الضيق، ومن هروبي الثاني والثالث. أنا جريمة شرف مؤجلة في عائلتي، وجريمة خيانة في مجتمعي وطائفتي، و..و.. لم أعد أخاف، ليس لأني شجاعة، فأنا هشة جداً، لكنها العادة! لم أعد أخاف الموت، انتظره مع سيجارتي وقهوتي بهدوء. أفكر أني استطيع التحديق في عين قناص على سطح بناء. أحدق فيه دون أن يرف لي جفن. أخرج إلى الشوارع وأحدق في أسطح الأبنية، بهدوء أمشي. أتجاوز الأرصفة وساحة في المدينة، وأفكر أين يمكن أن يكون القناص الآن؟ أفكر أني سأكتب رواية عن قناص يراقب امرأة تمشي بهدوء في شارع. أفكر بهما كبطلين وحيدين في مدينة أشباح. مشاهد تشبه شوارع 'ساراماغو' في فيلم 'العمي' أعود إلى العاصمة، وأعرف أن هذا المكان لن يعود كما كان. لم يعد الخوف يشبه التنفس! الحياة هنا تغيرت دفعة واحدة للأبد. أعود، وأعرف أني لن أيأس تكرار تمارين العدالة، حتى لو فتحت صدري للموت، كما قلت: إنها العادة، لا أقل ولا أكثر، أنا في انتظاره، ولا أحمل الزهور إلى قبري.
25/3/2011
كاتبة من سورية
في انتظار الموت ولا احمل الزهور إلى قبري : سمر يزبك