المسيحية العربية وتطوراتها من نشأتها حتى القرن الرابع الهجري / العاشر ميلادي في حوار مع الدكتورة سلوى بالحاج صالح ـ العايب نبيل درغوث ) تعتبر الدكتورة سلوى بالحاج صالح-العايب من أوائل الباحثين العرب المسلمين الذين أرّخوا للمسيحية العربية، حيث يقول فيها المطران مارون اللحام: «لأول مرة يكتب باحث عربي مسلم فى موضوع المسيحية العربية بهذا المستوى العالي من الروح الأكاديمية والدقة العلمية والتاريخية، وبروح موضوعية يندر وجودها فى أمور تخص التاريخ او المعتقد الديني، لا سيما فى الشرق». ويقول أيضا لا يمكن الاّ أن يُثنى على أسلوبها العلمي الدقيق وجدّيتها وتجرّدها في تناولها هذا المبحث التاريخي. سلوى بالحاج صالح- العايب مؤرخّة وأستاذة جامعية تدرّس التاريخ الوسيط بالجامعة التونسية.
يقول المؤرخ الأمريكى كارل بيكر: «حقائق التاريخ لا تتأتي لأي مؤرخ ما لم يقم هو بخلقها» فما هو نصيب التخيل والخيال في الكتابة التاريخية؟ في رأيي التاريخ ليس رواية أو قصة تحتمل الخيال أو التخيل بالمعنى الأدبي للكلمة ولكنه إعادة تركيب لأحداث ووقائع حصلت فعلا في الماضي. وقوة المؤرخ المبدع تكمن في إعادة تركيب تلك الأحداث والوقائع بصورة أقرب ما يمكن إلى الواقع وهنا يتدخل ليس خياله ولكن قدرته على فهم العلاقة بين تلك الأحداث والوقائع وهو فهم لا يمكن أن يتم له إلا إذا كان متمكنا فى الآن ذاته من المعطيات العامة لعصره، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي منه وكذاك فهم الإطار التَاريخي العام للبلد أو المجتمع المعني بالدراسة. مثل هذا الفهم يمكن المؤرخ من إدراك الرهانات المطروحة في العصر الذي يدرسه والمغزى الموضوعي من الأحداث والوقائع الحاصلة. بالطبع المؤرخ حين يمارس وظيفته فإنه لا مفر له أحيانا من طرح فرضيات واحتمالات خاصة إذا خانته المعطيات. ما هي القضايا التي تشغل بال المؤرخين اليوم؟ من القضايا التي تشغل بال المؤرخين اليوم هي قضايا الدين وبشكل خاص الإسلام. وهذا الاهتمام راجع لما جدّ من أحداث في الساحة الدولية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 . فهذه الأحداث وما تلاها من حروب في أفغانستان والعراق وتفجيرات في مدريد ولندن واليمن نسبت إلى متطرفين إسلاميين وما رافقها من تطور لحركات الإسلام السياسي دفعت بالمؤرخين إلى الاهتمام بالتَاريخ الإسلامي والإسلام ذاته كعقيدة في محاولة منهم لفهم الحاضر. وبطبيعة الحال فإن الغايات تختلف. فالبعض يريد حقا أن يفهم مدفوعا بدوافع علمية وأكاديمية والبعض الآخر يريد أن يبرر نظريات عنصرية كتلك التي تتحدث عن صدام الحضارات والتي تتخذ غطاء أيديولوجيا للهجوم الاستعماري الامبريالي الذي تشنه الاحتكارات البرجوازية الرأسمالية الغربية على الأقطار العربية والإسلامية للسَيطرة على مصائرها و نهب خيراتها وثرواتها. خلاصة القول إن الأحداث والوقائع الرَاهنة هي التي تحدد نوعا ما اهتمامات المؤرخين. فأنا لا أشك مثلا في أن اهتمام المؤرخين سينصب في فترة ما من المستقبل على تاريخ الصين و الهند الصاعدين. ـ أي المناهج التاريخية التي تتبناها وتعتمدها المؤرخة سلوى بالحاج صالح ـ العايب? تبنيت في الأبحاث التي قمت بها سواء تعلقت بالمسيحية أو الإسلام المنهج المادي التاريخي وهو المنهج الذي تبنَاه و يتبنَاه العديد من المؤرخين الذين يسعون على تقديم مقاربة واقعية للتاريخ تمزج بين مختلف عناصره الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وتتعاطى معها كوحدة أو سيرورة مستقلة عن كل ما هو متعال أو مفارق ومحددة للأحداث دون تدخل من أي عنصر خارجي. فالمؤرخ في مثل هذه الحالة يبحث عن سر الأحداث في الوقائع ذاتها و في المصالح المتضاربة التي تنبني عليها رهانات سياسية و إيديولوجية. ما هي أسباب اهتمامك بالمسيحية العربية والتأريخ لها? بشكل عام كانت لي منذ البداية رغبة في الاهتمام بالأديان وتاريخها خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ولما أنهيت دراستي الجامعية وبدأت التخصص اخترت قبيلة تغلب المسيحية لأبحث فيها فاكتشفت أن المسيحية كانت لها مكانة غير هينة في المجال القبلي العربي قبل الإسلام فأردت فهم الظاهرة جذورا وتطورا حتى مجيء الإسلام وبعده. فكان بحثي حول «المسيحية العربية وتطوراتها: من نشأتها إلى القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي». فتوصلت إلى الاستنتاجات التالية: لقد جذبت المسيحية إليها قبائل ومجموعات من عرب الشام والعراق والجزيرة الفراتية واليمن والأطراف الشرقية لشبه الجزيرة العربية. وأصبح لها حضورها المميز بينهم كظاهرة انطلاقا من القرن الرابع الميلادي، على أن عملية التنصر ستتواصل إلى القرن السابع الميلادي وذلك بحكم الهجرة والتجارة والجوار. والجدير بالذكر أن المسيحية تعمَقت لدى الحضر من العرب ولدى من لهم تنظيم سياسي متقدَم ولدى من لهم علاقة مع العالم الخارجي كما أن المسيحية العربية كانت شديدة التأثَر بالمسيحية السريانية بفرعيها النسطوري واليعقوبي لأنها نبعت منها. تعتبر النسطورية واليعقوبية مذاهب «هرطقية» من قبل الكنيسة الرسمية الملكانية. فقد أصبحت المسيحية في المشرق منذ منتصف القرن الخامس الميلادي منقسمة إلى ثلاث طوائف كبرى وهي الملكانية والنسطورية واليعقوبية وانتظمت كل فرقة في كنيسة منشقة عن الآخريين. وقد ظهرت هذه الطَوائف إثر المجادلات التي نشأت فيما يتصل بكيان المسيح وتفسير وحدة شخصيته. وصلب المشكلة بالنسبة إلى هؤلاء المسيحيين هو البحث عن جواب للسؤال التالي: «إن الكلمة المتجسد أي الإنسان والإله معا كيف حفظ وحدته؟» فالنساطرة يرون أن للمسيح طبيعتان إحداهما إلهية والأخرى بشرية، وتشددوا فى تمييز الطبيعتين إلى درجة الفصل بينهما، فبالنسبة إليهم هناك مسيحيان: مسيح إلهي ومسيح بشري. فالمسيح عندما ولد كان إنسانا محضا ثم سكنت فيه الألوهية ولازمته إلى حين صلبه، حينئذ فارقته الألوهية فلم يكن على الصليب سوى إنسان متألَم. ولذلك كان النَساطرة يسمَون مريم «والدة المسيح» وليس والدة الله. وبالمقابل يقول اليعاقبة بالطبيعة الواحدة في المسيح وهي الإلهية «البشرية ذابت في الإلهية». أما الملكانيون فهم أتباع عقيدة مجمع خلقيدونية التى تبناها الملك البيزنطي عصرئذ سنة 451 م. لذلك سموا بالملكانيين. وكان هذا المجمع قد أعلن «أن المسيح يتكون من طبيعتين لا اختلاط بينهما ولا تجزَؤ ولا انفصال ولا يمكن أن ينتفي اختلافهما بسبب اتحادهما». عندما ظهر الإسلام كانت المسيحية العربية على ما هي عليه من الحال التي ذكرنا، بل إنها كانت تنتشر وتتوسع وتتنظَم. وعلى العموم فقد حافظت المسيحية العربية على كيانها في الفترة النبوية التي كانت في الأساس فترة نقاش ديني وعقائدي تميزت بتثبيت مبادئ الإسلام في وجه المسيحية وتفنيد ما فيها من مظاهر الشرك «حدد القرآن الموقف منها. كما ضبط السلوك تجاه معتنقيها باعتبارهم من أهل الكتاب». لكن فترة الخلافة الراشدة ستشكل المنعرج الحاسم في تاريخ المسيحية العربية التي ستزول في شبه جزيرة العرب ثم سيتقلص حضورها جغرافيا وبشريا بالشام والعراق والجزيرة الفراتية. لقد فتحت الغزوات باب الأسلمة المشحونة بالدافع القومي أمام عرب العراق والشام. كان للعامل القومي أهميته الخاصة في اعتناق العديد من المسيحيين العرب الإسلام «التحام العروبة بالإسلام». وكذلك في مناصرة العديد منهم للمسلمين في فتوحاتهم، رغم بقائهم على مسيحيتهم. ومع انقضاء الفترة الراشدة وحلول الدولة الأموية ثم الدولة العباسية ستصبح المسيحية العربية في وضع هامشي، وفى حماية الإسلام. لكنها رغم محدوديتها ستكون مجالا منظَما ومحاطا بإكليروس كثيف، ساعدها على ذلك ما تميَز به سلوك الدولة الإسلامية بشكل عام من تسامح تجاهها رغم بعض فترات الشدة ورغم تطرَف بعض المذاهب «الشافعي خاصة» التي أخرجت المسيحي العربي من زمرة أهل الكتاب.
لكن وبعد مرور أربعة قرون في ظل الإسلام، ستزول المسيحية العربية لا عن طريق القوة بل بشكل تلقائي، بسبب الموت الطبيعي والأسلمة التلقائية وانفتاح المسيحيين العرب على المسلمين ومصادقتهم ومصاهرتهم. كما ستساهم عودة أبرز المجموعات المسيحية إلى شبه جزيرة العرب في ذلك التلاشي «مثل قبيلة تغلب». ولم تكن الكنيسة ولا سيما اليعقوبية قادرة على إحياء المسيحية بين أتباعها من العرب بسبب انكماشها لما تعرضت إلى مضايقة الكنيسة الملكانية في إطار تهجم الدولة البيزنطية على بلاد الإسلام في القرن العاشر الميلادي. ولابد من الإشارة إلى ما كان للمسيحيين العرب خلال القرون الأربعة الأولى من حضورهم في دار الإسلام، من دور هام إداري واقتصادي وثقافي وعلمي، بوَأ البعض منهم مكانة خاصة في بلاطات الخلفاء. وهكذا لم تعمر المسيحية العربية سوى أربعة قرون بعد ظهور الإسلام. وإن كان لا يصحَ القول إن زوالها علامة على كونها لم تكن ظاهرة سطحية، باعتبار أن صمودها طيلة هذه الفترة يدل على عكس ذلك، فإن ذلك لا يمنع من القول بأنها كانت تفتقر إلى عوامل القوة التي تجعلها تعمر وقتا أكثر. فالمسيحية العربية على أهمَيتها ظلت محدودة التغلغل في صفوف العرب، ولم تتحول إلى ديانة قومية فلما جاء الإسلام ذو المنبع العربي ضمرت ثم زالت. هل يمكن أن تحدثينا عن أكبر المعوقات التي تعرضت إليها في بحثك «المسيحية العربية وتطوراتها»؟ أكبر المعوقات في بحثي حول المسيحية العربية في الفترة الوسيطة هي: أولا: شحَ المادة وتشتتها في المصادر الإسلامية ناهيك أنني قرأت، مثلا الخمسة وعشرين جزءا لكتاب الأغاني لأعثر في نهاية الأمر على بعض الأسطر التى تهم موضوعي. ثانيا: عدم دقَة المصادر وغموضها. فعندما تتحدث هذه المصادر عن شخصية مسيحية مثلا فإنها لا تعرفه كذلك بل على الباحث أن يستنتج ذلك من الخبر سواء كان حدثا أو راوية أو شعرا أو خطبة وهو ما يفرض على الباحث أن يطلع على المصدر من أوله إلى آخره وألاَ يهمل لا الكبيرة والصغيرة. ثالثا: بما أن المسيحيين العرب كانوا في الغالب يعاقبة أو نساطرة فإن تاريخهم مضمن في المصادر الكنسية اليعقوبية والنسطورية المكتوبة بالسريانية والتي لم يترجم منها إلا القليل سواء للعربية «بذل الباحثون العراقيون ولا سيما المسيحيون مجهودا كبيرا في ترجمة جزء من التراث السرياني إلى العربية ونذكر منهم يوسف حبي وألبير أبونا» أو الفرنسية أو الانقليزية وكان من المفروض على أن أنتقل إلى المكتبات المختصَة بالمشرق فذهبت إلى أديرة العراق رغم أنه كان يتعرض وقتها إلى عدوان غاشم ألحق أضرارا جسيمة بالمنشآت والمؤسسات «1991» . كما ذهبت إلى الفاتيكان وباريس لأتتبَع كل أثر للمسيحيين العرب وكانت المسألة شاقة. هل أن تنصَر القبائل العربية المستوطنة في الشام الكبرى كان مصلحيا باعتبارهم وافدين على منطقة يحكمها الرومان الذين يدينون بالمسيحية؟ لا اعتقد ذلك. بل قل إن المصلحة لم تكن دائما محددة في اعتناق القبائل العربية المسيحية. فالعديد من هذه القبائل لم تعتنق المسيحية الرسمية بل اعتنقت ما يوصف بانه «هرطقات» «اليعقوبية والنسطورية» عن طريق رهبان فارين من اضطهاد الكنيسة الرسمية. وبالتالي لا يمكن القول إن اعتناقها المسيحية كان للمصلحة. إن الغساسنة أنفسهم الذين كانت لهم صلات رسمية بالدولة البيزنطية كانوا يعاقبة ولم تتدخل الكنيسة الرسمية على العموم في ديانتهم عدى في الفترة الأخيرة من وجود الإمارة الغسانية. يذهب المؤرخ الكبير هشام جعيط فى كتابه «تاريخية الدعوة المحمدية في مكة» إلى أن الإسلام له تأثيرات مسيحية. فإلى أي مدى هذا الطرح التاريخي صحيح وأنت متخصصة في تاريخ المسيحية العربية؟ إن التأثيرات المسيحية السورية في الإسلام، خصوصا في الفترة المكية الأولى، أطروحة سابقة لما كتبه الأستاذ هشام جعيط. وقد أشار هو بنفسه إلى ذلك في كتابه المذكور. إن ولهاوزن وطور أندريه، المستشرقين الألمانيين، هما اللذان أكدا بالخصوص تلك الأطروحة ردا على الأطروحة القائلة بالتأثيرات اليهودية في الإسلام. وقد أقر الأستاذ هشام جعيط أطروحة ولهاوزن وأندريه ودعمها و طورها. لقد لاحظ أندري مثلا «قرابة» بين ما جاء به «إفرام» وهو من آباء الكنيسة السورية وبين ما جاء به القرآن فى المجال الإسكاتولوجي أي الخاص بـ «الآخرة» أو «الساعة»، وأعطى أمثلة على ذلك. ولكن الأستاذ هشام جعيط اعتبر أن الأمر يتجاوز القرابة إلى التأثير «الواضح والعميق» الذي يتجاوز مجال الإسكاتولوجيا كما يتجاوز الفترة المكية الأولى. وهذا التأثير يشمل تعابير وصورتهم الآخرة كما تهم توصيف الجنَة ويصعب أن يكون وليد سماع بل إنه يعكس معرفة دقيقة بالإنجيل وبالعهد القديم وببعض الكتب المنحولة يهودية كانت أو مسيحية وبالتلمود أيضا. وفى رأيي فإن ما ذهب إليه الأستاذ هشام جعيط يكتسي مصداقية ويبدو متماسكا ومؤسسا على معطيات واقعية وعلى تحليل تاريخي عقلاني ومنطقي وهو ما يشكل إثراء لمعرفتنا بتاريخنا وخصوصا بتاريخ الإسلام الذي ظلت المقاربات التاريخية الجدية بشأنه ضعيفة نتيجة ثقل الذهنية الإيمانية والمثالية على العقول إلى جانب الخشية من التكفير الذي ما يزال يعطل تطور المعرفة والعلم بين ظهرانينا. ما هى مشكلة النزاع بين المسلمين العرب والمسيحيين العرب حول التاريخ الإسلامي (في بعض الحقب التاريخية) .اضطهاد وقمع المسيحيين العرب؟ ينبغي هنا توضيح بعض النقاط: فحسب البحث الذي قمت به يمكن اعتبار القرن 4 الهجري/ 10 الميلادي نهاية المسيحية العربية كطائفة منظمة لها أسقف كما كان فى السابق. والمقصود بالمسيحية العربية هنا مسيحية العرب الأقحاح من قبائل وبطون. بعد هذا التاريخ يمكن الحديث عن بقاء عائلات وجماعات محدودة مسيحية عربيـة ( غساسنة وكنديين مثلا...) عدا هؤلاء فالمسيحيون العـرب بالشــرق الأوسـط والأدنـى هم متعربون فى الأساس. فبالنسبة إلى الفترة التي درستها والمتعلقة بالعرب الأقحاح فإن معاملة المسيحيين العرب في ظل الخلافة الراشدة والدولة الأموية والدولة العباسية لم تكن تختلف عن معاملة المسيحيين عامة: فهم أهل ذمة وفي ذلك بالطبع تمييز على أساس ديني علما وأن الدولة كانت في ذلك العهد دولة قائمة على «الملة» وكان التمييز هو القاعدة. ولكن لا يمكن الحديث عن اضطهاد وحشي أو مجازر تعرض لها المسيحيون العرب أو غيرهم من المسيحيين بسبب عقيدتهم. (مثل ما حصل فى عهد الحكم المغولي بالعراق)، على العكس من ذلك نلاحظ مثلا أن قبيلة تغلب تمتَعت باستثناء فى عهد عمر بن الخطاب، فلم يكن ما تدفعه كضريبة يسمى «جزية» لما فى ذلك من إذلال حسب رأيهم وإنما كان يسمى «صدقة مضاعفة». ما رأيك فى الجدل الذى صار حول المحاضرة التي ألقاها بابا الفاتيكان فى سبتمبر 2006؟ لقد اعتمد البابا الحالي في محاضرة له ألقاها في سبتمبر 2006 في ألمانيا كلاما قيل فى العصور الوسطى ومفاده أن العلاقة بين العقل والعقيدة في الإسلام هي علاقة ضعيفة، ليستنتج من ذلك أن الإسلام لا يعطي أهمية كبيرة للعقل في توجيه الإنسان. وبعبارة أخرى فإن المسلم قد ينقاد بعواطفه وغرائزه أكثر من انقياده بعقله. إن ما أثار ضجَة حول هذا الكلام هو أنَه جاء في ظرفية عالمية خاصة تتميز بحملة على الإسلام والمسلمين تحت غطاء مقاومة الإرهاب بينما هي حملة استعمارية في الأساس تهدف إلى السيطرة على خيرات وثروات وأسواق البلدان العربية والإسلامية من قبل الدول والشركات الإمبريالية التي تستعمل صراع الحضارات غطاء إيديولوجيا ومقاومة الإرهاب ذريعة سياسية. لذلك فهم كلام البابا الذي جاء بعد فترة قليلة مما عرف بآسم أزمة «الصور الهزلية المسيئة للرسول»، على أنه إدانة للمسلمين وتحريض عليهم. أما فى خصوص الموقف في حد ذاته أي العلاقة بين العقل والعقيدة عند المسلمين فلا يمكن حصره فى موقف واحد عام وشامل. ففي الإسلام كما فى المسيحية مذاهب وملل ونحل. فالمعتزلة مثلا حاولوا عقلنة العقيدة وكذلك ابن رشد الذي اعتبر أنه حين يتعارض العقل والعقيدة فينبغي الاحتكام إلى العقل وبالمقابل توجد مدارس نقلية (كالأشعرية والغزالية) تنفي العقل وتحتكم إلى النص. هل هناك حوار مسيحى – إسلامي؟ وإن وجد هذا الحوار فما هو مستقبله فى خضم الأوضاع الرَاهنة؟ وهل هذا الحوار فيه من الجدية التي نجدها في الحوار المسيحي- اليهودي الذي آل إلى حذف كلمات و جمل من خطاب المسيحية لإرضاء اليهود؟ الحوار المسيحي - الإسلامي انطلق منذ مدة كما هو معلوم ويقول باعثو هذا الحوار إن هدفهم هو دعم التفاهم بين أتباع الديانتين. وفي رأيي إن هذا الحوار مثله مثل الحوار المسيحي – اليهودي هو حوار سياسي أكثر منه دينيا. وأنا شخصيا لا أؤمن بجدوى الحوار بين الديانات بل أؤمن كما قال الأب Jean Fontaine «في حوار صدر في مجلة حقائق سنة 2002 « بمبدأ الاحترام بين الديانات وإخراجها من دائرة التوظيف السياسي ذلك إنه من الصعب أن يقنع طرف طرفا آخر بدينه فكل دين، وهذا أمر، بديهي، يعتبر أنه أفضل ما أخرج للناس. وفى كل دين وأعني هنا خاصة الأديان التوحيدية الكبرى رفض واضح أو ضمني للآخر لذلك فالمطروح أن يسود الاحترام بين مختلف الديانات وأن ينظر أتباع كل ديانة إلى أتباع الديانة الأخرى على أنهم يمارسون حرية من حرياتهم وأن يقاوموا توظيف الدين لإثارة النزاعات والحروب ذات الخلفيات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية. الاستشراق الألماني عقلاني وموضوعي في قراءته التاريخ العربي الإسلامي وأطروحاته خالية من الإيديولوجية؟ هل لك أن تحدثينا عن هذه المدرسة التاريخية؟ عاملان إثنان قاما بدور مهم بإضفاء طابع عقلاني وموضوعي إلى حد كبير على المدرسة التاريخية الاستشراقية الألمانية. وهذان العاملان هما: أولا: هذه المدرسة خلو من أغراض سياسية استعمارية لأن ألمانيا لم تستعمر أي بلد عربى أو إسلامي. ثانيا: هذه المدرسة لم تكن معنية بنشر المسيحية في الشرق. لذلك فإن الدراسات التاريخية الاستشراقية الألمانية لا تتسم في معظمها بروح عنصرية أو عدائية تجاه العرب والمسلمين بل حاول أصحابها التزام التجرد وأصول البحث العلمي. وحتى إذا وجدت أخطاء فهي أخطاء ذات طابع أكاديمي معرفي أو منهجي. وفي كلمة فقد ترك لنا الاستشراق الألماني دراسات تاريخية على غاية من الأهمية تناولت العالم الإسلامي في مختلف الفترات التاريخية. تناولت بالدراسة شخصية خديجة بنت خويلد في كتابك «دثّريني....يا خديجة» فما هي مكانة خديجة لدى الرسول محمد بن عبد الله؟ خديجة هي زوجة محمد الأولى وهى التي، كما يشير إلى ذلك القرآن «وجدك عائلا فأغنى» «سورة الضحى،آية 8»، أخرجته من الفقر وشهدت معه البعث بل حوالي نصف الرسالة في مكة. و قد حاولت أن أبرز في كتابي المذكور ما يمكن أن يكون لخديجة من دور في إرهاصات الدعوة، ذلك أنه يوجد من الأخبار ما يفيد أنها عاشت في محيط مثقف وعلى اطلاع على الأديان خاصة المسيحية. «ورقة بن نوفل ابن عمها كان يقرأ الكتب المقدسة وكذلك أختها». ولا اعتقد شخصيا أن دورها كان سلبيا وليس أدل على ذلك مما يذكر في الأخبار من ردة فعلها الأولى على بوادر «الوحي». فقد كانت إن صح التعبير في خضم المسألة. لماذا المصادر العربية تغيب دور خديجة في سندها لمحمد ولرسالته؟ هل هو عملية محو لدور المرأة؟ أم ماذا؟ يوجد سببان لتغييب دور خديجة في سندها لمحمد ورسالته، الأول يتعلق بـ«أمثلة» الرسالة القادمة من السماء والتي لا دخل للبشر وللتاريخ فيها فحتى محمد ذاته لا دور له فهو ناقل لتلك الرسالة. والثاني، هو ما أشرت إليه من تغييب لدور المرأة بشكل عام. فالمجتمع القرشى مجتمع أبوي – ذكوري. هل يمكن اعتبار الكتب الدينية (التوراة، الإنجيل، القرآن...) مصادر تاريخية؟ إن الكتب الدينية: التوراة والإنجيل والقرآن تمثل بالفعل ولكن فى حدود ما مصادر تاريخية. فهي تعكس ذهنية العصر الذي جاءت فيه، نمط التفكير والمعتقدات والمعارف والثقافة، كما أنها تحوي معلومات وأخبار صحيحة. وعلى الدارس أن يعرف كيف يفرق بين هذه الأخبار و بين الأساطير والقصص. إن القرآن مثلا يمكن التعامل معه كمصدر تاريخي فيما يتعلق بانطلاق البعث وفي مظاهر عدة من حياة قريش الاجتماعية والاقتصادية والدينية و كذلك من حياة يثرب وسيرة بعض الشخصيات (محمد، خديجة، أبو لهب، زينب بنت جحش، عائشة.....).
المسيحية العربية وتطوراتها من نشأتها حتى القرن الرابع الهجري في حوار مع الدكتورة سلوى بالحاج صالح العايب