لكن أذكر أمرًا واحدًا رُبّما يوحي شيئًا إلى التّسمية: أذكر أنّ النّساء في حارتي كُنّ يدبكْنَ في أعراس الحارة ..يطربنَ ..يتمايَلنَ وهُنّ يغنّين بهدوء "..على إمّ المناديل على إمّ المناديلي ..إمّك حبّت عشرة على حظّي وعلى ديني!.."... ولا أعرف أيضا لماذا كنّ يتعمّدن غناء هذه الاغنية بالذّات بهدوء, وكأنّهنّ يسترقنَ غناءها.. خوفًا من "فضيحة ما"؟!...
ربما لا توحي هذه الاغنية شيئا إلى التّسمية.. لكن لا أعرف لماذا أستحضر صورة "عمّي العكم" أمامي كلّما سمعت أمّي تردّد هذه الأغنية حتّى هذا اليوم لأولادنا وهم يحومون حولها في المطبخ.."..يا سايق عنزاتك ويا مروَّح عنزاتك ..وكلمة من كلماتك من القبر تحييني..".
كلّ ما أعرفه عنه انه تعوّد أن يدخل الى حارتنا ويبيع المناديل لنساء الحارة،كُنّ
يتهافتنَ جميعا عليه لاختيار المناديل الملوّنة - الصّفراء أذكر منها.. والزرقاء.. والورديّة، بلون وجنتيّ أمّي- وكانت أمّي هي واحدة منهنّ.
أذكر أنّ منظره كان غريباً..وقمبازه الأسود لم يكن عاديًا.
لم يكن يحبّه أبي ولا رجالات الحارة لانّه لم يتوانَ عن لباس سرواله المفتوق عند قدميه..فكان هو يأتي ليبيع المناديل لنساء الحارة في ساعات الصّباح بينما الآباء في أعمالهم في هذه السّاعات..
تعوّد "عمّي العكم"(كما تعوّدت نساء الحارة تسميته فيما بينهنّ ) في كل مرّة أن يضع "بضاعته" في ساحة من ساحات إحداهنّ، وإذا كان يشتمّ رائحة تدل انّ زوج هذه التي اختارها اليوم لم يذهب إلى عمله في هذا الصّباح،كان يتحاشى ذلك الموقف المحرج، فيعود ويختار ساحة أخرى من ساحات الحارة.
حتّى أنّ النّساء في الحارة كنّ يُوفّرن عليه ذلك أحيانا، فلا يخوض مثل هذا الموقف المحرج.. فقبل أن يضع "بضاعته" كانت واحدة منهنّ ترميه بإيماءة من قوسي حاجبيها أن يعرج إلى ساحة أخرى.. فيعرف هو بفطنته أنّ الأرض"مسكونة"..
خصوصا إذا كانت تلك ساحة أبي - أبي كان أكثر الرّجال تحفّظا في الحارة.. فكانت أمّي تهمس بخوفٍ جليّ لإحداهنّ كي تخلّصها من هذا الموقف "الزلمة هون! .. الزلمة هون! .."
كان "العكم" يحبّ جلسات النّساء.. فسريعا ما كان ينسجم معهنّ في أحاديثهنّ وهو يتناول قهوته الصّباحيه برفقتهنّ.
مَن كان مثله؟!
الزوج لم يستطع أن يشرب القهوة الصباحيّة مع زوجته سوى يوم السّبت..أمّا "عمّي العكم" المحظوظ فكان بإمكانه أن يتناولها ( لو أراد) مع باقة من النّساء في حارتي أنا كلّ الأيّام ما عدا السّبت!
كان هو "ديكًا" في جلسته هذه بين النّساء في حارتي.. وجلسته هذه مشروعة.. فهو بائع جوّال ويبيع المناديل في الحارات..وإن كانت "بضاعته مضروبة" على حدّ قول إحداهنّ التي لم تكن تتوانى عن السّخرية منه ومن "بضاعته"..ولم يكن يسلم أي بائع يدخل الحارة من همزها ولمزها...
وعدا عن ذلك ( والحقّ يُقال) كانت كلّ النّساء محترمات في حارتي:
كنّ محتشمات من جانب.. ولكن يحبّبنَ الضّحك والتّسلية من جانب آخر..
كنت أرى "العَكَمْ" قادمًا من بعيد،داخلاً إلى حارتي ,فكنت أترك حبّات الحور التي تعوّدت أن ألعب بها داخل الحُفرات مع بنات الحارة.. وأصيح بأعلى صوتي حتى أقطع على أمّي غناءها "على إمّ المناديل ..يا سايق البقرة ويا مروّح البقرة.." وهي تحوي لجن الغسيل عند قدميها ,ويسمعني بقيّة النّساء في الحارة ليتهافتنَ عليه أينما يضع "بضاعته":
-" أجا العَكَمْ !..أجا العَكَمْ!"...
كان يكره كنيته.
لم أكن أعرف أنّ هذه كنيته.. وأنّ هذا ليس إسمه الحقيقي.
ولم أكن أعرف أنّه يكره كنيته..
كانت أمّي تعضّ على شفّتها كي أسكت قبل أن يسمعني..
كانت أمّي تفعل ذلك متأخّرًا.. فصوتي قد سمعته كلّ نساء الحارة وهُنّ داخل بيوتهنّ ، فكيف به لم يسمعه وهو قريب منّي.. يتمتم مستاءًا "عَكَمْ! عَكَمْ! عَكَمْ!"..ودمعتان تترقرقان في عينيه.. ينظر بغيظٍٍ إلى حبّات الحور داخل حفرتي الفائزة..يمسح دمعتين ..يتناول "الفائزات" من مكانها..يرميها "شمالا وجنوبًا " ..فيُفسِد عليّ كلّ ما ربحت!