أينما نظرت في أنحاء الوطن العربي وجدت جراحاً نازفة ومآسيَ دامية، لكن أثخن الجراح وأكثرها إدماءً للقلب، بعد جرح القدس السليبة المفتوح منذ أكثر من نصف قرن، يبرز الجرح العراقي مُؤلماً إلى حدّ يصعب تصوّر كيف أمكن ويمكن للعرب أن يتفرجوّا عليه دون أن يحرّكوا ساكناً.
ولكن كيف يمكن أن ننتظر ممّن يتفرّج على تهويد القدس وتشريد أهلها أن يفعل شيئاً يُذكر للعراق المسكين التي تعمل سكاكين الاحتلال وقوى الفتنة الطائفية والمذهبية البغيضة المتواطئة معه في جسده ذبحاً وتمزيقاً...؟! ما حدث للعراق ليس من قبيل المصادفة، ولا هو نزوة رئيس أمريكي مجرم، بل هو استكمال لمخطط استعماري غربي قديم بدأ بتجزئة الوطن العربي ثم اقتطع منه جزءاً عزيزاً ومنحه لعصابات القتل الصهيونية لتكريس تلك التجزئة وعرقلة المشروع النهضوي العربي، حفاظاً على مصالحه التي لا تنتعش إلاّ في غياب ذلك المشروع. ثم انصبّ جهد التحالف الأمريكي الأوروبي الصهيوني على ضرب الحركة العربية التحررية والوحدوية المناهضة للإمبريالية والصهيونية. وحقق هذا الجهد أكبر أهدافه من خلال إخراج مصر، القوّة العربية الأكبر، من الصراع العربي الصهيوني، وتطويع نظامها في خدمة أهدافه. لكن ذلك لم يكف فقوّة العراق، ولا سيما إذا التقى مع سورية، كانت دائماً تقلق الإمبريالية والصهيونية، وهدف ضرب هذه القوة كان دائماً من بين أهدافهما الاستراتيجية... وإذ سمح اختلال الوضع الدولي الخطير الذي حدث بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وسيطرة القطب الواحد على العالم لتحقيق ذلك الهدف فقد تصدّت الولايات المتحدة لتلك المهمّة القذرة متذرعة بحجج كاذبة باعتراف منفذيها أنفسهم فيما بعد. غير أن المخطط لم يكن يقضي باحتلال العراق فقط بل بتدمير قواه الاقتصادية والعسكرية والبشرية والعلمية وحتى الثقافية تدميراً منهجياً شاملاً، والقضاء على كل إمكانية لعودة قوته مجدّداً من خلال زرع الفتنة الطائفية والاثنية والمذهبية بين أفراد شعبه وضرب وحدته الوطنية وتركه جرحاً نازفاً لا يلتئم أبداً... وهو ما تحقق، للأسف، بتواطؤ من قوى داخلية وإقليمية وعربية. ولعلّ هنا لبّ المشكلة وجوهر المأساة، فأن تقوم قوى عراقية داخلية بتنفيذ هدف الاحتلال التفتيتي، قصدت أم لم تقصد، وأن يستمر النظام الرسمي العربي، الذي تواطأ بعضه علناً مع الاحتلال، في التفرّج على ما يجري للعراق. أمر لا بدّ أن ينتهي إذا كان ثمّة تفكير جدّي بإنقاذ ما تبقى من العراق الذي كان يوماً أعظم منارات الماضي العربي الإسلامي، وأكبر آمال الأمّة في مستقبل يعود العرب فيه إلى مسرح الفعل التاريخي والحضاري.