لا أجمل ولا أحلى من تلك الذكريات التي تعن في الذاكرة ، وتطرق على قحف الجمجمة كل ما لمح أحدهم بقلمه أو احاديثه او حكاياته عن مدينتنا الحبيبة ( الموصل ) وأهلها ، وذكرنا بتلك القصص والطقوس الجميلة التي كنا دون أن ندري أبطالها ايام الزمن الجميل ( يا ريتو يرجع ) ..
تذكرت حوادث جرت قبل أكثر من نصف قرن من الزمان أيام كنت أعيش في محلتنا ( الساعة) في موصلنا الحدباء .. وعنّت عليّ الذكريات واشتقت لها .. لكن ..( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ....) .
كانت العوائل الموصلية تخرج في سفرات جماعية في المناسبات المعروفة ، وكان عيد مار كوركيس معروفا عند كل اهل الموصل ( مسلمين ومسيحيين) يتبركون به ، ولأن ديره (أول ذكر للدير جاء سنة 1691 ، في مخطوطة محفوظة في دير السيدة بالقوش) قريب من المدينة ( رغم أن المسافة كانت طويلة للوصول اليه وتحتاج لزمن لا بأس به للوصول ) فقد كان أهل الموصل يزورونه ويفترشون المساحات الخضراء الكبيرة التي تجاوره ، والتلال التي حوله ، وكنت ترى السيارات وقد تناثرت هنا وهناك ، وراح الناس يمارسون العابهم الرياضية فرحين مسرورين ، أما الأمهات فقد كن قد أعددن الأكلات اللذيذة بهذه المناسبة ، حيث ترى ( السُفرة النايلون) وقد فرشت على الأرض والتف حولها افراد العائلة ، وأمامهم ما لذ وطاب من المأكولات والأطايب منها ( الدولمة ( اليبرغ) والبيض والبطاطا المسلوقة ، وخبز الرقاق ( الغقاق ) وأنواع المخللات وخاصة * طزوز ( جمع طز) المخللا ( أي مخلل الشوندر والشلغم) وطرشي ( طه الملك ) وعروك( عغوق) التنور والمقلية ..
وغيرها من المأكولات ، والبعض كان يسترق احتساء ( المشروبات الكحولية ) ويخاف أن يفتضح أمره ، فيضعه في قنينة داكنة اللون حتى لا يكتشفه أحد .. والسبب ( العيب) ! في احدى السفرات إلى دير مار كوركيس ، وعلى ما أذكر كانت عام 1957، وكان عمري آنذاك سبع سنوات كنا نلعب سوية لعبة ( حاح وكطا) ومعي شقيقتي الكبرى وأبناء محلتنا محمد وفاطمة وآخرين حيث كانت السفرة مشتركة بين عوائل المحلة ، صاحت والدتي لتناول الطعام ، إلا أن الحجية خجوان عاجلتها بالقول : عيني ام ماجد ، ولادكي أكلوا مع أولادي ( بفغد سُفرة ) أي بسُفرة واحدة ! يوم اشنو الفرق كلتم( كلهم) اولادنا ونحنا ( ونحن) أهل وعشرة عمر ! الله يا زمان المحبة والألفة .
في عام 1995 حصلت على قطعة أرض ( خاصة بالصحفيين) في حي الحدباء ( سرقها أحدهم لاحقا وبنى عليها بيتا ) !! وحين قالوا لي حينها انها في حي الحدباء خلف موقع دير مار كوركيس ، هالني الأمر واستصعبته، حيث اذكر ان المسافة كانت بعيدة عن مركز مدينة الموصل ، لكني حين ذهبت لرؤيتها فوجئت بأن المساكن والبيوت والأحياء السكنية تجاوزت المسافة إلى ما بعد الدير الذي بات في وسط بيوت الناس ..في منتصف خمسينات القرن الماضي ، كان والدي موظفا في شركة نفط خانقين المحدودة ( المؤسسة العامة للمنتجات النفطية – لاحقا ) وكان يمتلك سيارة شوفرليت صفراء خاكية اللون موديل 1952 ( تك باب ) ، كان مولعا بالصيد مع ثلة من اصدقاءه ومن الذين اتذكرهم العم العزيز ( جوزيف يعقوب منصور الساعاتي ) تاجر الساعات المعروف ووكيل ( أوميكا) وآخرين لا أتذكر اسمائهم ، كانوا يخرجون للصيد كلما سنحت لهم الفرصة ، وفي بعض المرات يصطحبوني معهم ، وكانوا يصيدون ( الدراج والأرانب والغزلان ) ببنادق الصيد الخاصة بهم ، وحدث أن كنت معهم في احدى رحلات الصيد ، وحين العودة وكانوا قد اصطادوا عددا وفيرا من ( الدراج) شاهدوا أرنبا بريا قرب جسر ( مندان) فتوقف والدي ليسحب صديقه جوزيف ( أبا نمير) بندقيته وليصوب نحو الفريسة ليصيبها في مقتلها ، وليهرع الإثنين لجلبها ويتركا باب السيارة مفتوحا وانا في داخلها ، وحين عادا متفاخرين بفريستهما المسكينة وهي تنزف بعد ذبحها ( وفق أعراف الصيد) صعدا إلى السيارة ، واغلقا الأبواب ..
وكانت احدى يداي على عضادة احد الأبواب فاغلق الباب عليها وعلت صرختي من شدة الألم .. نزلا خائفين من أن تكون أصابعي قد قطعتا نتيجة اغلاق الباب بشدة .. الا أن الله سترني لأن السيارة كانت حديثة الصنع وقد وضع مطاط حول اطار الباب خفف من وطأة الضربة على يدي ، لكنها انقلبت إلى اللون الأزرق نتيجة انحصار الدم فيها ، وهرعا إلى مستشفى قريب وبعد علاج بسيط عدنا ادراجنا .. قال والدي لصديقه : الله ستر الولد ! قال الصديق : الحمد لله .. بس يمكن هاي حوبة الأرنب ..!!سلام على مدينتي الحدباء وأهلها ، وتحية لكل من يضع لبنة خير فيها ، والف قبلة لكل من يساهم في بنائها واعادة المحبة والصفاء والخير لها ولأهلها الأكارم ولكل عراقنا الغالي .