قراءة في كتاب محلة باب الطوب
:: ذاكـر خليـل العلي ::
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]من الظواهر الجميلة التي برزت في الآونة الأخيرة قيام العديد من الكتاب بالكتابة والتوثيق للأماكن التي عاشو فيها حيث درسو تلك المحلات والمناطق ووثوقوها من النواحي الجغرافية والثقافية والتاريخية فضلا عن تدوين الأحداث التي وقعت في تلك المنطقة أو المحلة .. ومن هذه الكتب التي صدرت حديثا كتاب { محلة باب الطوب .. جوبة البقارة- دراسة تاريخية ميدانية] للباحث الأستاذ قصي حسين آل فرج وهو واحد من أبناء هذه المحلة فجاء كتابه واقعيا حيث ولد وعاش في هذه المحلة التي تقع في مركز مدينة الموصل ، ويشير المؤلف بعد مقدمة قصيرة تتحدث عن مدينة الموصل إلى أن من أسباب تأليف هذا الكتاب هو أن مركز دراسات الموصل – التابع إلى جامعة الموصل – كان وضع مخططا لتوثيق محلات الموصل وكان منها محلة باب الجديد وباب لكش للأستاذ أزهـر ألعبيدي ومحلة باب البيض الكبرى للباحث الأستاذ عبد الله أمين أغا( ) ، وأن أن هذه المنطقة قد أزيلت سنة 1975 ضمن مشروع تطوير مدينة الموصل لغرض فتح شارع الكورنيش لكونه تقع بمحاذاة نهر دجلة الذي يمتد بين الجسر الحديدي (القديم) والجسر الثاني (الحرية).
ويشير المؤلف أن الموصل كانت تحوي حتى سنة 941هـ على ثلاثة أبواب هي باب القصابين وباب القش وباب العراق وحتى سنة 1156هـ /1743م (سنة حصار الموصل) تم استحداث بابين أحدهما باب الطوب الذي تقول المصادر أن والي الموصل (حسين باشا ألجليلي) قد بناه سنة 1752هـ ،ويذكر المؤلف عددا من التواريخ التي تشير إلى بناء هذا الباب ومن مصادر متعددة ، ويضيف أن التسمية جاءت من وجود مدفعين (حيث كان يطلق على المدفع أسم الطوب) كانا على جانبي الباب ، أما موقع باب الطوب في الموصل فإن المؤلف يشير استنادا على عدد من المصادر التاريخية القديمة ، فإن الباب يفتح على الساحة التي بين مدخل سوق العطارين والصفارين والبرذعجية والملاحين ،وعلى الجهة اليمنى ومدخل سوق اللحم والصوافة شمالا ، وأن الباب هو امتداد للدخول إلى بيوت المحلة ، ثم يفرد المؤلف مبحثا خاصا للحديث عن عشيرة السادة البكارة التي نزحت من مدينة أورفا (الرها) وبلاد الشام وسكنت أنحاء الفرات ثم انتقلت إلى العراق لتستوطن هذه المحلة ، لكون هذه العشيرة سكنت هذه المنطقة فقد أطلق عليها (جوبة البكارة) وأن سبب اختيارهم المنطقة لقربها من الماء ولوجود فضاء سهل قليل الشجر (وهو تعريف الجوبة) .
ويذكر المؤلف تفاصيل عن محلة باب الطوب وأقسامها ومما اشتهر من المواقع فيها كقهوة الثوب في منطقة باب الجسر والأسواق والقيصريات والمعامل ومنها معامل الثلج ودباغة الجلود والحمامات والعديد من الحرف والمهن البدائية والخانات ذلك أن باب الطوب كانت مركز مدينة الموصل.
وقد سكن محلة باب الطوب ثلاثة افخاذ من عشرة البكارة هم البوفرج وعبد جريم والبوحمدان فضلا عن عوائل أخرى حيث جرى تقسيم المنطقة فيما بينهم فعمرو الدور والمساكن والدكاكين ومحلات العمل ، ويعدد المؤلف أسماء العوائل التي سكنت المنطقة ويذكر أبرز أبناءها من البارزين أو ممن تولو المناصب الحكومية أو من الأدباء والكتاب وأصحاب الشهادات العليا ، ويضيف المؤلف أن هناك عددا من أبناء العشائر الأخرى التي سكنت المنطقة مثل عشيرة الجبور والسادة النعيم وعدد من العوائل الأرمنية التي نزحت إلى الموصل فضلا عن بعض العوائل الكردية التي سكنت هذه المنطقة . ويدخل المؤلف في تفاصيل البيوت وساكنيها من العوائل مع ذكر أسمائهم وشهرتهم ويذكر في أثناء ذلك عددا من المشاهير الذين سكنوا المحلة في فترة من حياتهم ومنهم الملك فيصل الأول الذي زار الموصل سنة 1931 حيث نزل في إحدى الدور الكبيرة الموجودة في المحلة والتي نزل فيها العديد من المتصرفين (المحافظين) ومدراء الدوائر الكبيرة فضلا عن بعض شيوخ العشائر الذين يزورون المدينة ومنهم الشيخ عجيل الياور شيخ عشائر شمر وغيره.
ويتحدث المؤلف عن المهن التي مارسها أبناء المحلة ومنها (الحمالة والكراء والسقاية وصيد السمك والاتجار بالفواكه والخضر –جملة ومفرد- وغيرها) ، واشتهرت بعض نساء المحلة بغسل الصوف لغرض تصديره خارج العراق ، حيث كان هناك مجموعة من التجار يقوم بذلك أبرزهم (عزيز بيثون) ، ومن المهن التي اشتهر بها في الأسواق دون النساء (طبخ أكلة الباميا) ، التي تفردت بها امرأة كردية سكنت المحلة وتدعى (حمدية أم الباميا) حيث كانت تطبخها وتنزل بها على قارعة الطريق وتبيعها للراغبين في أكلها وكانت امرأة مجاهدة استطاعت أن تربي أولادها من كدها حتى تجاوزت السبعين من العمر.
وكانت في المحلة مكاتب لنقل المسافرين والحمولات فضلا عن وجود عدد من المحال التي تقوم بصناعة الجوادر وخياطتها واشتهرت المحلة بوجود أحد أبنائها وهو المرحوم ( عبد إدبية) الذي ساهم في الثلاثينات من القرن الماضي بصناعة مكائن الحصاد المحلية التي تسحبها الحيوانات بدلا عن المنجل وغيرها من المكائن الزراعية ومايزال أولاده وأحفاده متميزون بإعداد وصناعة قطع الغيار للمركبات وما يزال يطلق عليهم (أولاد إدبية).
ويذكر المؤلف في مكان آخر أسماء أبناء المحلة من العسكريين ومنتسبي الشرطة والمعلمين والمدرسين والمدرسات والأطباء والموظفين والخطاطين والمضمدين وأصحاب المقاهي والسباحين والصيادين وقراء القرآن وغيرهم من أصحاب المهن من أبناء المنطقة.
ويتحدث المؤلف عن الأغاني والألعاب الشعبية في محلة باب الطوب بالقول أن أبناء المحلة ورجالها وشبابها وأطفالها مارسو غناء بعض الأهازيج والأغاني في المناسبات الخاصة بالزواج كليلة الحنة والزفاف والختان وغيرها ومن هذه الأغاني[ بنت الطرف محرومة، ومابروني بالبلم، وأم الغيت غيثينا، ودللو يالولد ، وياحمصة يازبيبة وغيرها] وهناك أغان تنشد بغير مناسبات مثل هذه الأغنية (كاعدة على الشرطة، حمرة تمشط، جاها الرومي –الأجنبي- كلها كومي اغسلي اهدومي –ملابس- كالتلو ماأكوم ولا أغسل هدموم) ، ويفضل المؤلف الكثير من الأغاني والمأثورات الشعبية للمنطقة ، ويشير إلى أنه عند وفاة أحد أبناء المنطقة فان أهلها يجتمعون في حفل العزاء وتتزعمهن العدادة (الندابة) لبيان ووصف سيرة المتوفى بعبارات ملهبة لمشاعر ومثيرة للشجن وحزن أهله.
ويتحدث المؤلف عن الألعاب الشعبية التي يشترك فيها الكبار والصغار من الذكور كلعبة (المزراع) أو ما يسمى بالدوامة وغيرها من الألعاب مثل [ حاح وكطا وجلو ملو وبازم بزدم وألعاب الدعبل .. خطة مع تبال ومناش وريز ] أما لعب الفتيات فهي [ الشكلة وطمة وخريزة والجـولة والقفز على الحبل] وغيرها.
واشتهر أبناء محلة باب الطوب ببعض الملابس ومنها الدميري الفضفاض باللون الأزرق الغمق والرصاصي مع غطاء الرأس (اللفة) وكان البعض الآخر منهم يلبس العقال الفيصلي المطرز بخيوط ذهبية ، فضلا عن العقال والكوفية والحطاطة والدشداشة ومن الأحذية الكلاش والوطنية والكالة واليمني والمشاية والقوندرة والنعال والصندل، وبعد ذلك دخلت الألبسة الحيثة كالبنطلون والسدارة والعقجين والطربوش، أما ملابس النشاء فكانت الثوب والمطع وعباءة الصوف السوداء والعباءة الاعتيادية ، والكسوان والعصابة والكيش والملفع واليازمة والبوشية والايشار ، وكذلك العليمي ،وهو شبيه العصابة أو الهبرية أو الكسروان يوضع على الرأس إضافة إلى العصابة والملفع وحزام من الصوف يسمى (شيمي) والشلاحيات وتكون في الأكمام ، ومن الأحذية البابوج والقبقاب الكركوكلي.
وقد استعمل أهل المحلة في لهجتهم بعض المفردات الغريبة سيما الكلمات التي تستعملها النساء ومنها ما لا أصل له في اللغة كمفردة (أمبغر، وعبن ، وزعم) وتعني كلها (لأجل او بسبب) وكلمة (عجل) بمعنى (إذن) وكلمات مثل ( يا عيبة العيبة) لأي أمر مشين، و(مال الصانجي) ولعله مرض يصيب الحمير ، وكلمة (سوطو) لتحريك السائل بأداة مثل (خوطو) بأداة لاذابة السكر والملح ، ويؤكد المؤلف أن لهجة أهل المحلة هي عربية فصيحة ولم يتأثروا بمن جاورهم من المحلات الأخرى فضلا عن استعمال العديد من الكلمات التي أخذوها من الكردية أو الفارسية مع بعض التحوير مثل (هير) أي استعجل ، والزردوم (المرئ) ومطزبن (المتخنث أو المتميع) ويدنكر (ينحني).
ومن المأثورات التي امتارت بها محلة باب الطوب هي (الدكش) الذي يعني الشجار والمعركة الصغيرة ، حيث يحصل ذلك بين صبيان محلتين متجاورتين أو متباعدتين قلما يتدخل فيه الكبار ، ولا يستمر إلا ساعات قليلة ينفض إما بتدخل الشرطة أو بإصابة أحد صبيان المحلة بجرح دامية (فجوخ) ، والدكش كلمة تركية تذكرها المصادر القديمة أنها تعني المبادلة والمعاوضة، أما المصادر الحديثة فتذكرها بمعنى الشجار والعراك ، وكانت تحدث بين محلتي باب باب الطوب وباب لكش لقرب المحلتين من بعضهما ولوجود مساحة من الأرض بين المحلتين وتتخلل هذه المشاجرات هوسات متبادلة يستخدم الطرفان فيها أوزان لها ارتباط باس المحلة فمثلا يقول أبناء محلة باب لكش :
علدكش دكش دكش إحنا أهل باب لكش
فيرد عايهم أبنا محلة باب الطوب (جوبة البكارة) :
علهوبة الهوبة الهوبة إحنا لأولاد محلة الجوبة
وقد تتخللبهض هذه الهوسات عبارات نابية أو شتائم مما يثير حماس الفريقين فيطول السجال بينهم ، ويبدو من خلال الهوسة الآتية أن الدكش كان سجالا بين الفريقين وفي السنة مرة على أقل تقدير حيث يقول فريق الجوبة :
هاي الجوبة وما ننطيها سبع سنين نحارب بيها
ثم يعرج المؤلف لذكر مساهمات محلة باب الطوب فيبعض الوقائع التاريخية ومنها [ دكة الشيخ سعيد ، وثورة مايس 1941،ووثبة سنة 1948 ،وحرب فلسطين 1948 ، والعدوان الثلاثي على مصر 1956، وثورة الموصل 1959) حيث يبين دور أهل المحلة في هذه الوقائع وأبرز من ساهم فيها والشخصيات التي لعبت أدوارا فيها والكثير من المعلومات التي بقيت في صدور أصحابها.
ويختم المؤلف كتابه القيم بتعداد الشخصيات التي سكنت هذه المنطقة من المسؤولين والمشاهير ومنهم الشاعر المداح حسن العلكاوي ، ومولود مخلص التكريتي وعبدالسلام محمد عارف عندما كان ضابطا صغير الرتبة والشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي ، والمطرب المصري محمد عبدالمطلب والنائب متي سرسم وغيرهم من الشخصيات المعروفة.
وأخيرا كتب لهذه المحلة أن تبقى لأكثر من 185 سنة من عمر الزمن في هذه المنطقة الهامة لتأتي عليها معاول الهدم والاستملاك سنة 1975 بقصد افتتاح شارع الكورنيش وإظهار المدينة بالمظهر اللائق كما تراه بلدية الموصل.
ويضم الكتاب العديد من الوثائق عبر الأزمان المتعددة التي مرت بها هذه المحلة فضلا عن عشرات الصور للمحلة وأبرز معالمها وعدد كبير من صور الشخصيات من أبناء المحلة.
لقد جاء هذه الكتاب ليحفظ لهذه المحلة –التي تشكل مركز مدينة الموصل- ويوثق أحداثها ويعطي أبناها حقهم بعد أن أزيلت من الوجود وأصبح مكانها شوارع فسيحة وبعض العمارات والفنادق الكبيرة المطلة على نهر دجلة الخالد ، ويبقى أسم هذه المحلة متداولا على ألسن ابناء الموصل والمدن المجاورة لها لأنها من المحلات القديمة في المدينة فضلا عن ارتباطها بالعديد من الحوادث التاريخية الهامة ،وقد أحسن المؤلف في تأليف هذا الكتاب التي حفظ لهذه المحلة تاريخها.
والمؤلف قصي حسين آل فرج هو من أبناء هذه المحلة الذي ولد فيها سنة 1945 وعمل في سلك التعليم وانتقل للعمل في المكتبة المركزية العامة بالموصل منذ سنة 1979 ومن ثم مديرا لها – مايزال- وهو عضو في عدد من الجمعيات والنقابات والاتحادات وساهم بالعديد من الدورات في الخط العربي والدفاع المدني والعمل المكتبي ، وأصدر أكثر من عشرة كتب بين التأليف والدراسة والتحقيق ومنها (إسماعيل الكبير الأديب والمؤرخ، علي الشمالي الأستاذ البصير، والمكتبات العامة الموصلية، وتراجم قراء القراءات القرآنية في الموصل ، وعشيرة العزة في الموصل، ووكف الغمامة لمحو ما كتب على الرخامة – في الآثار- والآثار والمباني العربية ، وله العديد من المقالات والدراست المنشورة في الصحف والمجلات.