دراسات: التوتاليتارية ضد الديمقراطية ..................................
رزاق عداي : ...............
الانظمة الشمولية او الكلية ”التوتاليتارية“ انظمة ظهرت عملياً خلال القرن العشرين، وهي نتاج تفاعلات القرن التاسع عشر، كما يرى ”جورج لوكاش“ وهو فرز او نتاج لتطور النظام الرأسمالي وبنيته المجمعية، ولكن هذه الانظمة اصبحت بعد حين مفارقة عن خصائص الانظمة الرأسمالية التقليدية-فيما يخص الديمقراطية، الليبرالية، وتقاليد المجتمع المدني،
فعندما لا يشعر ”حزب طليعي“ بأنه خاضع لارادة القوة المجتمعية الفاعلة التي يعمل باسمها اما لتأكده على عجز فئة مستقلة ومستلبة، او انه يتكئ على تعريف غير مجتمعي للقوة الفاعلة المذكورة-كأن يكون هذا التعريف بيولوجيا او قوماوياً، مثلاً، فان الديمقراطية تضمحل وتزول، ويصبح الذين يستشهدون بها ويرجعون اليها اول ضحايا السلطة ”التوتاليتارية“ لقد اقترنت الاشارة الى التوتاليتارية دائما بالنازية، وبعدها ببعض الانظمة الشيوعية بعد انهيار كتلتها السوفيتية، ولكن مفهوم ”التوتاليتاريا“ ينطوي على جانب كبير من الغموض. ولذلك يعتقد البعض ان من الافضل تحليل هذا النظام السلطوي غير الديمقراطي او ذاك انطلاقا من حيثياته الخاصة بحد ذاته، فالمجتمعات الشيوعية كانت تحتوي على حركة عمالية مجتمعية رغم زوالها التدريجي في حين اننا لا نرى في النازية الا فكرا قوميا عدائيا وعنصرية وتبجيلاً لشخص الزعيم. هناك عناصر مشتركة للانظمة التوتاليتارية بتنوعها مثل احتكار النشاط السياسي وحصره بحزب واحد، وبالضرورة ان هذا الحزب تزوده”ايديولوجيا“ معينة تصبح حقيقة الدولة الرسمية، وهذه الدولة تحتكر وسائط القوة والاقحام، ومعظم النشاطات الاقتصادية والمهنية وتضم في جسم الدولة وتخضع للحقيقة الرسمية، وفي حالة حصول خطأ اقتصادي او مهني يتحول الى خطأ ايديولوجي، وبالتالي ينبغي معاقبته بتهويل ايديولوجي وبوليسي معا. اغلب الانظمة ”التوتاليتارية“ المعاصرة تطرح نفسها كرد فعل ضد الازمة الناجمة عن التحديث الخارجي، او في اعادة النظر بالقيم والضوابط التي قامت عليها المجتمعات، فلم تكن الطبقة العاملة هي التي غذت التوتاليتاريا الفاشية او حتى الشيوعية، بل هي النخب الحاكمة التي كانت تنطق باسم امة او دين-فالتوتاليتاريا ليست سلطة الضعفاء، انها تنشأ عن تلاشي القوى المجتمعية الفاعلة وزوالها كما حصل في العراق ابتداءً من مطلع السبعينيات حتى زوال النظام السابق. يمكن ان يقودنا التحليل الاخير الى تفسير اعم، فبصرف النظر عن الطابع التعسفي الذي تتصف به سلطة استبدادية، او عن المرجعية التي تتمتع بها نخبة قيادية، دون ان تخضع مرجعيتها هذه لأي حساب او رقابة، فان الصفة الرئيسة التي تتصف بها الدولة السلطوية هي انها تتكلم باسم مجتمع او شعب او طبقة بعد ان تستعير منها صوتها ولغتها، فالتوتارليتارية اسم على مسمى لانها تخلق سلطة توتاليتارية ”كلية“ تختلط ضمنها الدولة والنظام السياسي والقوى المجتمعية الفاعلة، وتقتصر هذه المؤسسات جميعها هويتها وخصوصيتها بحيث لا تعود الا وسائل للهيمنة المطلقة التي يمارسها جهاز سلطة يكاد يكون متمحوراً دائما على زعيم اعظم، يطبق بقدرته التعسفية على مجمل جوانب الحياة المجتمعية، لقد حددت الحداثة في كثير من الاحيان بالعلمنة وبالتميز والتفريق بين الانظمة المجتمعية الفرعية، من دين وسياسة واقتصاد وقضاء وتعليم..الخ، لكن ما تمتاز به الانظمة التوليتارية على وجه الخصوص هو قضاؤها على العلمنة باسم ايديولوجيا معينة تطبق على مجمل اوجه الحياة العامة والخاصة، واستبدالها للتفريق بين النشاطات المجتمعية بهرم تراتبي من المحسوسات بجعل الصلة مع القائد او الحزب مقياسا للموقع الذي يحتله المرء من هرم التراتب المجتمعي، والذين قاوموا التوتاليتاريا وحاربوها كانوا يدافعون عموما عن استقلالية نشاط معين من النشاطات التي يهيمن النظام عليها ويلبس قناعها، فدافع بعضهم عن الحركة المجتمعية او القومية التي تتكلم السلطة الشمولية باسمها، وسعى اخرون الى صياغة استقلالية الدين، او الحقوق، بل حتى استقلالية الدولة، حتى على مستوى الديمقراطية كان هناك تحول نوعي حصل عندما جرى بفضل الحركة العمالية بشكل خاص، بحيث ان اليسار سرعان ما تماهى الى حد كبير بالحركة النقابية وبهدفي حماية العاملين والعدالة المجتمعية، ولكن الغريب فيها هو ان الاستناد الى القوى المجتمعية التي يفترض تمثيلها، هو الوضع الذي استثمرته التوتاليتاريا ربما هي الديمقراطية المجتمعية بصيغتها المقلوبة او المنحرفة، بل بما هي الاشتراكية كما تذكر اصول موسوليني النقابية، او الحزب القومي الاشتراكي الالماني، فالدولة ”التوليتارية“، هي دولة تقوم وصفتها الرئيسة على محاربة اعدائها الخارجيين والداخليين، وعلى تأمين اقصى قدر من الاجماع الحماسي، قد يكتفي النظام التوتاليتاري بسحق المجتمع او سكانه، لكن الدولة التوليتارية تجد من واجبها ان تجعله يتكلم، تجد من واجبها ان تعبئه وتستنفره، انها تتماهى به او عليه ان يتماهى بها. الحقيقة ان الدولة التوليتارية او المجتمع التوتاليتاري بالمعنى الدقيق للكلمة، لا وجود لهما، اذ اننا نجد في هذا النظام ان الدولة والمجتمع السياسي والمجتمع المدني هي كيانات تختلط كلها ضمن حزب او جهاز سلطة كلي القدرة، ان الانظمة التوتاليتارية لا تختزل الى الصورة التي تقدمها عن نفسها، صورة التطابق التام بين القائد والحزب والشعب، فمن الامور التي لا تقل اهمية عن الاجماع المعلن، هو التنديد الدائم بالعدو، والرقابة، والقمع، وتحويل الخصم الداخلي الى خائن وعميل لاعداء الخارج، كما ان لجان الثورة، والبوليس السياسي، وفرق الصدم ومناضلي الحزب كلهم يظلون على أهبة الاستنفار والتعبئة في حرب لا نهاية لها ضد خصم مقيم في العقول والافئدة بقدر ما هو متلاعب بالمصالح، فالحرب من صلب الانظمة التوتاليتارية التي لا تعرف مطلقا هدوء الانظمة الاستبدادية القديمة واطمئنانها، وذلك ان التوتاليتارية هي، في آن معاً، وريثة الحركات المجتمعية ومنشئة لنسق معين، فهي لا تنقطع ابداً عن التهام القوى المجتمعية الفاعلة اذ تعتبر نفسها منحدرة منها، وتسعى في الوقت نفسه الى الغاء وجودها الفعلي. لقد عرف القرن العشرون انماطاً تاريخية من الانظمة التوتاليتارية، اولها التوتاليتارية القوموية التي تنادي بجوهر قومي او اثني وترقعه في وجه الجامعية عديمة الجذور التي تتصف بها السوق والرأسمالية، والفن بل حتى العلم، او تواجه به امبراطورية متعددة الجنسيات، وشهد اواخر القرن التاسع عشر ولادة هذه القوموية المضادة للحداثة التي حلت على نطاق واسع حمل التصور العقلاني التحديثي للامة الذي كانت فرضته الثورة الفرنسية، وتنتمي الفاشية على مختلف منوعاتها الى هذه المقولة العامة. اما النمط الثاني من التوتاليتارية فينبغي تقريبه من النمط الاول لانه يستند هو الاخر الى كائن تاريخي، لكن هذا الكائن لم يعد الامة، كما هو بالنسبة للنمط الاول، بل صار الدين في بعض التجارب من هذا النوع التي كانت تستند الى حركة مجتمعية ديمقراطية الى توتاليتارية ثيوقراطية تؤطر الشعب ضمن شبكة كثيفة قوامها عملاء المراقبة والتعبئة والقمع المتحشدون في حرس قمعي. هناك انماط اخرى من التوتاليتارية لا تتكلم باسم عرق او دين، بل هو بالعكس موضوعي اذ يقدم نفسه بوصفه داعية من دعاة التقدم والعقل والتحديث، وهي صيغة من صيغ الاستبداد تشترط تعبئة مجمعية وقولا ايديولوجيا موجهين ضد عدو هويته، بانه السيطرة الامبريالية والاستعمارية، وصيغة النظام في العراق في الفترة 1968-2003 مثال صارخ لهذه التوتاليتارية الصارمة. هناك اطروحات تذهب الى ان التوتاليتارية حل الطبقات وانتصار مفهوم الجماهير، فانهيار الجدران التي تحمي الطبقات تحول الاكثريات التي تنتشر في ظل جميع الاحزاب الى كتلة واحدة كبيرة الحجم وعديمة الشكل من الافراد الغاصبين، كما ان هناك تصورا للتوتاليتارية يذهب في انها عن طريق الرعب والتهويل تتمكن من تحقيق قانون من قوانين الطبيعة او التاريخ مما يؤول الى الغاء القوى المجتمعية الفاعلة، فالشرعية التوتاليتارية تحقق بتحديها للشرع القانوني، وبادعائها اقامة العدالة المباشرة على الارض، في التاريخ او الطبيعة، دون ان تترجم ذلك الى معايير خير او شر للسلوك الفردي. هذه منوعات عامة للتوتاليتاريات، ينوعها وتعددها، اما الصفة الاساسية والفاعلة فهي التهامها لكافة بؤر ومؤسسات المجتمع المدني، كما انها نظام لا يقبل بالديمقراطية بتاتاً.