الأدباء لا يعتزلون الكتابة، والتقاعد ليس من شيمهم. وإن تسّرع أديب أو اضطر واعتزل، وجدته إما يتراجع أو هو يدخل في سوداوية عدمية. ثمة من ينضب ويبقى يكتب لمجرد الاستمرار، وهناك من يشعر بالخوف والمرارة وينطوي على مضض، وقلة تبقى نضارتها حاضرة. الكتّاب لا يتقاعدون إلا قسراً، إنهم من الصنف الذي يرفض الفطام عن متعة ليس لها في المتع من مثيل أبدا. نجيب محفوظ اعتزل ذات يوم، ومنذ خمسين سنة، وها هو ما زال يكتب بأصابع غيره، محمد حسنين هيكل هو الآخر غاب عن الورق ليطل على الشاشة، وأخيراً غابرييل غارسيا ماركيز الذي أعلن انسحابه، لكنه لا بد عائد، لو اعتمدنا مبدأ القياس لفهم الظاهرة.
أعلن الكاتب الكبير غابرييل غارسيا ماركيز، قبل أسبوعين تقريبا عن اعتزاله الكتابة، ففجر قراره نقاشا بين الكتاب والفنانين، وعاد الى البروز من جديد السؤال الكبير الذي طالما راود المبدعين: هل يتقاعد الكاتب او الفنان؟ ومتى يتقاعد؟ وهل يستطيع المبدع او المحارب ان يستأذن بالانصراف؟ وهل يجيء هذا القرار بالقبول والرضا ام يجيء إكراها وقسرا؟
في تصريحه المفاجئ، لصحيفة اسبانية، يقول ماركيز: «ان تجربتي تؤهلني لكتابة رواية جديدة بدون مشكلة، لكن قرائي سيجدون أنها ليست نابعة من الأعماق». فهل كان ماركيز يشير بذلك الى روايته الأخيرة «ذكريات عن عاهراتي الحزينات» (2004) التي تعرض بسببها الى نقد قاس وجارح في فرنسا وبريطانيا وكولومبيا ؟
ولد ماركيز في 6 مارس 1928 في اراكاتاكا، شمال كولومبيا، وعمل في شبابه صحافيا، وجاب كثيرا من بلدان العالم. وفي العام 1947 صدر كتابه الأول «عينا الكلب الأزرق» وهو مجموعة قصص بعيدة عن النضوج الفني. وعلى الرغم من براعم الموهبة الموجودة فيها هنا وهناك، لكنها لم تبشر بانطلاقة عظيمة جاءت فيما بعد في روايته الرائعة «مائة عام من العزلة» عام 1967 التي تعت بر من اهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، وبيعت منها 30 مليون نسخة وترجمت الى 37 لغة ووصفتها «نيويورك تايمز» انها «أفضل كتاب بعد سفر التكوين». كما كتب ماركيز عدة روايات مهمة أخرى مثل «الحب في زمن الكوليرا» و«خريف البطريرك» و«سرد احداث موت معلن» و«ليس للكولونيل من يكاتبه» وغيرها. وفي يوم الجمعة العاشر من ديسمبر 1982 حاز ماركيز جائزة نوبل للاداب، وبذلك يكون اول كاتب كولومبي ينالها ورابع كاتب من اميركا اللاتينية .
تحكي روايته الأخيرة «ذكريات عن عاهراتي الحزينات» حياة كاتب صحافي عجوز ينتبه فجأة الى ان عليه الاحتفال بعيد ميلاده التسعين، في ما هو يعيش في عزلة تامة ولا رابط له بالدنيا سوى مقاله الأسبوعي الذي يكتبه في صحيفة المدينة. ويقرر التسعيني أن يعود الى متعته الوحيدة التي مارسها كثيرا في حياته منذ بدأ وعيه يتفتح على العلاقة مع الأنث ى وهو في الحادية عشرة من عمره، ويقرر عندئذ ان يعيش ليلة حب مجنونة برفقة صبية عذراء. لكن الصبية التي يلتقي بها وهو عجوز تجعله يغير نظرته الى الدنيا وتتحول طريقته في كتابة مقالاته، ويعود عبر الذاكرة الى من عرفهن في حياته، ويذكر في الرواية اجمل ما قرأ من كتب وأجمل ما سمع من موسيقى مبرهنا على ثقافة واسعة.
هل بطل الرواية، الصحافي العجوز المثقف، هو غابرييل غارسيا ماركيز؟ وهل كانت الرواية نفسها مرثاة للذات؟ وهل بداية حياة جديدة لبطل الرواية مع الشابة العذراء هي بداية لحياة جديدة لماركيز؟ واية حياة هذه ؟ هل هي حياة التقاعد والاعتزال؟ وهل يستطيع كاتب ملتزم مثل ماركيز ان يعتزل الكتابة؟
قبل عشرين عاما تقريبا كنت أشرب القهوة مع الصديقة الشاعرة الفلسطينية الكبيرة فدوى طوقان ـ رحمها الله ـ في بيتها على سفح جبل جرزيم في مدينة نابلس، ونتداول الحديث الودي في الأدب والسياسة، وفجأة سألتني: ما هو مصي ر المبدع اذا توقف عن العطاء؟ واعترف ان السؤال اربكني ولم اتوقعه. والتزمت الصمت. اما فدوى طوقان فعددت لي اسماء شعراء وكتاب مروا بمحنة العقم ما أدى بهم الى حالات نفسية سيئة، وذكرت ان مصرع الكاتب الكبير ارنست همنجواي ليس ناتجا عن خطأ وهو ينظف بندقية الصيد كما يزعم البعض، بل نتيجة اطلاق الرصاص على نفسه حينما شعر بعدم مقدرته على الابداع، ثم قالت بحزم: اذا ايقنت يوما ان قريحتي نضبت فسأضع حدا لحياتي. الشعر هو حياتي .
اما الكاتب العالمي الكبير ماركيز فقد أعلن اعتزاله الكتابة. وكان اعلانه مثيرا للدهشة كما هي احداث رواياته وكما هم ابطاله الكثيرون. ومهنة الكتابة فيها متعة وفيها معاناة وفيها حيرة وفيها قلق. ويعترف ماركيز في مقدمة مجموعته القصصية «12 حكاية عجيبة» التي كتبها في نيسان ابريل 1992 بأن «متعة الكتابة اعظم المتع حميمية ووحدة على الاطلاق»، ويكتب أيضا في المقدمة نفسها «أحس بأنني اكتب لمتعة القص وحدها والتي ربما كانت اشبه الحالات الانسانية بانعدام الوزن». ما هو الأمر الذي دعا كاتبا كبيرا ناجحا مقروءا أن يعتزل الكتابة؟ وكيف يتنازل كاتب مارس متعة الكتابة طيلة نصف قرن عنها ؟ هل فقد ماركيز متعة الكتابة ؟ وهل نضب النبع الذي اعطانا «مائة عام من العزلة» و«سرد أحداث موت معلن» و«الحب في زمن الكوليرا»؟ أم هو الخوف من القارئ؟
في الخمسينيات وبعد ان أنجز الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ ثلاثيته الرائعة الشهيرة قرر اعتزال الكتابة معتقدا انه كتب كل ما عنده. واستمر هذا الاعتزال مدة سبع سنوات قضاها محفوظ في القراءة والتأمل والتفكير، ثم جاءت انطلاقته الروائية الكبيرة.. جاءت «ثرثرة فوق النيل» و«الحرافيش» و«ميرمار» و«اولاد حارتنا» وغيرها. وبرهن نجيب محفوظ ان الكاتب يعيش ليكتب.. يعيش ليحكي.. يعيش ليقص...
وفي العام 2003 فاجأ الكاتب الصحافي المصري الكبير محمد حسنين هيكل ملايين القراء في العالم حينما كتب:«استئذان في الانصراف.. رجاء ودعاء.. وتقرير ختامي»، ولكن هيكل عاد في العام 2005 ليقص ويحكي تجربة حياته في فضائية «الجزيرة» في مسلسل طويل وممتع ومثير.
حينما اعلن محفوظ الاعتزال كان في الاربعين من عمره تقريبا، وحينما اعلن هيكل الاعتزال كان في الثمانين من عمره، وكلاهما اعتزل ليعود.
وفي العام 2002 صدر الجزء الأول من السيرة الذاتية للكاتب العملاق ماركيز بعنوان «أن تعيش لتحكي» وتبين انه كتب عدة آلاف من الصفحات من هذه المذكرات وظل يراجعها الى ان صدرت في الحجم الذي صدرت به وهو 600 صفحة في اللغة الاسبانية.
ومن المعروف ان ماركيز لا يراجع أعماله، وقد اكد في عدة احاديث انه عندما ينتهي من كتابة أي عمل من اعماله لا يعود اليه لاحقا مهما كانت الأسباب، فهل الدقة في قص احداث السيرة الذاتية في تسلسل أم الخوف من الثرثرة الزائدة، جعلته يراجع مذكراته ام كلتاهما معا ؟
صدر الجزء الأول من السيرة الذاتية «ان تعيش لتحكي» وينتظر القراء الجزء الثاني، فماذا يقول ماركيز؟ هل قرر أن يعيش ليصمت؟ أم أن في حياة الكاتب أشياء تستحق الصمت؟
لا اصدق.
هناك كتاب يعتزلون الكتابة بسبب الشيخوخة واثقين بأنه لم يعد عندهم ما يكتبونه. وهناك كتاب يعودون في شيخوختهم الى الخزانة او الدرج ويخرجون ما كتبوه في الشباب وينشرونه بعد مراجعة وتنقيح. وهناك كتاب لا يستطيعون ان يصمتوا.
وماركيز كتب كثيرا... واعطى كثيرا. ويكفيه انه كتب رواية «مائة عام من العزلة» و«الحب في زمن الكوليرا» و«سرد أحداث موت معلن». ان رواية واحدة من تلك الروايات تحفظ له مكانا محترما في سجل الخالدين الكبار. ومع ذلك فإن إعلان ماركيز غير طبيعي.. والقراء ما زالوا ينتظرون اجزاء اخرى من السيرة الذاتية «ان تعيش لتحكي».
واراهن أن غابربيل غارسيا ماركيز سيعود قريبا.. وما هذا التصريح إلا نوع من الخوف الانساني من القارئ ومن الناقد.. ولعله اعلان دعائي لعمل أدبي جديد.