مؤسس «الذاكرة العراقية»: العراق انتقل من جمهورية الخوف إلى جمهورية السرقة والفساد
مكية لـ«الشرق الأوسط»: تمنيت لو أني لم أقل لبوش إن العراقيين سوف يستقبلونكم بالورودكنعان مكية في أرشيف مؤسسة الذاكرة العراقية (أ.ب)
معد فياض
يتداخل في هذا الحوار ما هو سياسي وفكري وثقافي، ذلك أن البروفسور كنعان مكية، الذي تخصص في دراسة العمارة على خطى والده المعماري المعروف محمد مكية، دشن فترة شبابه بالعمل السياسي مع المقاومة الفلسطينية والإيمان بالأفكار الثورية العربية أو الشرق الأوسطية، ليكتشف أو ليتفاجأ بعد ثلاثة أحداث صادمة: الحرب اللبنانية، والثورة الإسلامية في إيران، والحرب العراقية الإيرانية، بأنه لا جدوى لما عمل من أجله، وهذا ما قاده إلى الصمت لست سنوات انتقل خلالها إلى ما هو فكري، ليخرج بعد سنوات عزلته بأول كتبه «جمهورية الخوف» عن العراق في أواسط الثمانينات، وليتبعه بكتاب «القسوة والصمت»، ثم «النصب التذكارية».
لا يتردد مكية، وهو المقل في إجراء حوارات صحافية، في الاعتراف بأخطائه، كما لا يتراجع عن خطواته التي اعتبرها الآخرون أخطاء، لكنه يصر على صحتها، مثل زياراته المتكررة لإسرائيل وله مبرراته في ذلك.
في حوار مع «الشرق الأوسط» امتد لأكثر من ثلاث ساعات في لندن، قبيل سفره إلى الولايات المتحدة، أجاب صاحب «جمهورية الخوف» عن كل ما طرح عليه من أسئلة بوضوح. وفيما يلي نص الحوار:
* أطلقت على العراق في عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين اسم «جمهورية الخوف»، فماذا تسمي جمهورية العراق اليوم؟
- العراق اليوم؟ بالتأكيد لا أسميه جمهورية الديمقراطية، فهذا آخر تعبير في الدنيا قد ينطبق عليه، وأبعد ما يكون عنه، لكنني أسميه جمهورية التشرذم والسرقة. ليس هناك في العراق اليوم سلطة موحدة بمعنى الكلمة، وطبيعة الدولة تغيرت، بمعنى أن الدولة انهارت ويعاد تركيبها رويدا رويدا، ومن المستحيل أن تعود الدولة إلى ما كانت عليه.. هذا من جهة، ومن جهة ثانية لن تعود هذه الدولة بسبب الافتقاد إلى روح المواطنة، وهذا ما تأسس مع الوضع الجديد في العراق. يعني نسمع كلاما كثيرا في بغداد عن العراق الجديد، وهذا كله مجرد كلام، المهم أن روح المواطنة فقدت، لماذا؟ لا أعرف.. هذه مسألة نفسية سياسية، لها علاقة بثلاثين سنة من حكم صدام حسين، أو لها علاقة بالأوضاع الجديدة، روح المواطنة كانت موجودة، وأنا لست من الذين يقولون إن العراق لا معنى له، بل على العكس تماما، فأنا كنت أؤمن بأن للعراق معنى كبيرا، وهناك فكرة العراق، وكون الفكرة مكونة من أجزاء أحدها يكمل الآخر، وهذا صحيح، فإنه هنا يكمن جمال الفكرة، أو جزء من جمالها، وجزء من نقدنا للجمهورية السابقة «جمهورية الخوف» هو أنها قتلت هذه الفكرة. أملنا كان أن يعود العراق جمهورية للتسامح، وهذه كانت أمنيتنا خلال التسعينات، وأنا كنت صاحب مشروع وثيقة ميثاق 1991 الذي يمثل دعوة لبناء عراق جديد، وأهم ما في هذه الوثيقة هو أن كل القيم التي تبنيناها وأردناها أن تكون الأرضية للعراق الجديد لم تتحقق، أما لماذا؟ فهذا سؤال آخر. الآن العراق هو جمهورية التشرذم وجمهورية الفساد.
* باعتبارك أكاديميا، وأنت تعمل على أساس المعلومات الدقيقة والبحث العلمي، على أي شيء استندتم في وضع هذه الوثيقة، أعني وثيقة 1991؟
- في جمهورية الخوف وصف لكيان سياسي كان موجودا في بداية السبعينات ونهاية الثمانينات، وفي بداية التسعينات بدأ يتغير، وبقي العراق في رأيي «جمهورية الخوف»، بعد حرب الكويت، وفي طبعة جديدة للكتاب وباللغة الانجليزية ولم يظهر بالعربية، قلت إن جمهورية الخوف التي كتبت عنها قد ذهبت، انتهت، وفي التسعينات صارت المافيا هي التي تحكم العراق، بينما في الثمانينات ومع كل ممارسات النظام الشمولي فقد كانت هناك إدارة قوية، وكان الفساد المالي قليلا، والأمن قويا، والإنفاق على البناء والبنية التحتية كبيرا، لكنه كنظام سياسي كان يقمع كل من يشعر بتهديد من جهته وقتذاك وفي المستقبل. «جمهورية الخوف» الذي صدر عام 1989 تجده كتابا متشائما عن الوضع العراقي، بينما ميثاق 1991 الذي خرج بعده بعامين تجده متفائلا، فما الذي تغير؟ هنا أنا تغيرت من كاتب إلى سياسي، ليس بمعنى أنني أبحث عن منصب سياسي، فأنا طوال عمري لم أبحث عن ذلك، لكن كناشط في حركة سياسية، مثل الحركات السياسية التي ظهرت في أوروبا الشرقية والتي أسقطت الاتحاد السوفياتي، وأنا أحترم هذا النمط من العمل السياسي، وأحترم أبطاله مثل نيلسون مانديلا، وآدم مشنك الذي أعرفه شخصيا حيث كان المفكر الرئيسي للحركة البولندية التي غيرت النظام، ثم أصبح عضوا في البرلمان ووزيرا، وجان كوفان من المعارضين التشيكوسلوفاك.. أنا كنت من هذا النمط من المعارضين، ودعمت المعارضة العراقية على أساس إمكانية أن تفعل ولو القليل للعراق. لكن في التسعينات كان هناك شباب عراقيون، أمثال مصطفى الكاظمي وغيره، قلت إن هؤلاء من الممكن أن يفعلوا شيئا من أجل العراق ويحدث شيء على غرار ما حدث في بلدان أوروبا الشرقية وجنوب أفريقيا، لكن عندما أقول يمكن فهذا يعني أنه ليس من اليقين أن يحدث. وفي مقابلة لقناة تلفزيونية أميركية سألني المقدم سؤالك ذاته، وقال أعطني نسبة مئوية عن احتمالية حدوث شيء ما باتجاه تحقيق الديمقراطية أو تحقيق وضع جديد في العراق، فقلت هذه ليست آمال وإنما أنا أؤمن بها، وهناك عشرات الآلاف من العراقيين يؤمنون بأنه سيتحقق شيء جديد في العراق، ولولا إيماننا بضرورة تحقيق ذلك فإن الأوضاع لن تتغير، وهذا يعني أن هناك فرصة لإحداث تغيير، فسألني عن نسبة هذه الفرصة في التغيير، فأجبت أنه حتى إذا كانت هناك نسبة 5% فأنا أتحمل مسؤولية تاريخية كعراقي أن أحاول تحقيق هذه النسبة رغم صغرها، وإذا سحبت نفسي من الحلبة باعتباري متشائما على أساس موضوعي وكوني أكاديميا وأن الظروف الموضوعية لا تساعد فسأقع في خطأ تاريخي وأنضم إلى الكثير من المثقفين العرب الذين سحبوا أنفسهم من الساحة السياسية لأن أنظمتهم فاشلة ومجتمعاتهم وثقافتهم في أزمة كبيرة. فأنا على أساس حتى الـ5% كنت سأفعل الشيء ذاته، وأقول لكل معارض إنه لو توافرت له هذه النسبة فعليه أن يحاول التغيير. طبعا أنا كبرت الآن ولم يتحقق شيء، وحتى هذه النسبة لم تتحقق.
* هل كانت فكرة رومانسية سياسية تلك التي أقدمت عليها؟
- نعم كانت رومانسية سياسية. طبيعة السياسة في أساسها، السياسية بطبيعة حالها، السياسة ليس بمعنى اللعب بمصالح الناس وخداعهم من أجل المناصب، بل من أجل التغيير وتحسين أوضاع الشعب، وإرادتك الشخصية بأن تكون جزءا من تغيير المجتمع، هذا ما أعنيه بالسياسة.. السياسة هي العمل على الواقع العام، وهي ليس ما يحدث في بيتي وبعلاقاتي الشخصية وكل ما هو شخصي، ولكن هي المواقف التي تحدث في الشارع، إن كنت اختار الكتابة أو الخروج في مظاهرة أو اتخاذ موقف.. هذه هي السياسة.
* هل أنت سياسي؟
- أنا لم تكن لي أي صلة بالسياسة، ولا والدي كان سياسيا ولا عائلتي سياسية، ولم أنشأ في عائلة تهتم بالسياسة، وعندما تركت العراق عام 1967، وكان عمري 18 سنة، لم أكن على علاقة بالعمل السياسي،ولكنني تسيست على حرب يوليو (حزيران) 1967، مثل حال جيلي بأكمله، ودخلت المقاومة الفلسطينية عبر منظمة فتح ومن ثم الجبهة الديمقراطية، وارتبطت بالأحزاب الشيوعية والحركات الاشتراكية في الخارج، وكنت في أقصى اليسار من أجل بناء مجتمع شرق أوسطي وليس عراقيا، لم أتسيس على أساس عراقي بل على أساس منطقة الشرق الأوسط، وزوجتي كانت إيرانية ومعارضة لنظام الشاه، وجاءت خيبة الأمل والانسحاب من هذا النوع من العمل السياسي الذي كنت فيه طيلة السبعينات وأنا في الجامعة، ومن ثم قطعت علاقاتي مع أشخاص وأحزاب وحركات سياسية مباشرة وتحولت إلى الكتابة، وتغيرت من شخص حركي إلى التفكير، وبعد ست سنوات تركت حتى بريطانيا إلى أميركا وعملت معماريا، ثم انعزلت ست سنوات لكتابة «جمهورية الخوف» ولم يكن يعرف بهذا المشروع سوى أربعة أشخاص ضمنهم زوجتي ومي غصوب التي توفيت مؤخرا.
ما غيرني أولا الحرب اللبنانية، إذ إنني كنت أزور لبنان من خلال علاقاتي مع الأحزاب اليسارية، ولأول مرة شاهدت تعامل المنظمات الفلسطينية باعتبارها صاحبة سلطة في أجزاء كبيرة من بيروت وجنوب لبنان، وأنها تتقاتل مع اللبنانيين وفيما بعضها، وأنها تكون جزءا كبيرا من الحرب بعد أن كانت قد ضُربت في الأردن، وهذه كانت خيبة الأمل الأولى مع المنظمات الفلسطينية، ثم جاءت الثورة الإيرانية، حيث كان عندي، وعلى العكس من الكثيرين من أصدقائي السياسيين واليساريين، تخوف من هذه الثورة التي دعمها اليسار، وكنت أعرف أنها لن تنتج مشروعا متطورا على الرغم من أن زوجتي (إيرانية) كانت تناصر هذه الثورة، وقد تركت كل شيء وعادت إلى إيران لخوض النضال هناك خلال عامي 1977 و1978 حتى سقوط نظام لشاه، وبدء القمع ضد اليساريين، فنظمت (زوجتي) أول حركة نسائية ضد قانون الحجاب الذي أصدره الخميني عام 1979، وكانت عندي وجهة نظر سلبية إزاء مستقبل هذه الثورة. والأمر الثالث هو الحرب العراقية الإيرانية التي لم أكن معها، وفي الوقت الذي دعم فيه اليسار العراقي إيران ضد دولتهم العراق، قررت عدم الوقوف مع أي جهة، وكذلك زوجتي، لهذا خرجنا نهائيا من العمل السياسي. فهي الآن أستاذة في جامعة هارفارد وأنا معماري وكاتب.
* على ذكر الأوضاع في إيران، وما يحدث هناك من مظاهرات ومعارضة للنظام، لماذا لم يحدث ذلك في العراق لا سيما أن الأوضاع سيئة هناك؟
- هذا سؤال مهم جدا ووجيه، وفيه إشارة مهمة إلى مشكلة أساسية تعاني منها مجتمعاتنا، وهي تختصر الفرق بيننا وبين إيران ككيان متكامل، فنحن العرب لنا مشكلة مع هويتنا، لكن الإيرانيين لا يعانون من هذه المشكلة التي تمثل بالنسبة لنا أزمة لم تحل حتى الآن، وهي الإجابة عن سؤال: من أنا؟ هل أؤمن بعراقيتي أم بعروبيتي أم بشيعيتي أم بسنيتي؟.. نحن لم نحل هذه المشكلة، وأنا لا أتحدث عن جيلنا أو جيلكم أو جيل والدي، بل عن الجيل الحالي الذي يتحرك على الساحة العراقية وعن الشريحة السياسية بأكملها التي ظهرت بعد 2003 والتي تعتبر طبقة جديدة في أرض السياسة العراقية، حيث أزيحت طبقة وجاءت طبقة جديدة، وجوه وأسماء شخصيات جديدة، هناك استثناءات، القاسم المشترك بينها هو أنهم لا يعرفون ماذا يريدون،غير واثقين من أنفسهم، بينما ما حدث في إيران هو أن الشعب بعد الانتخابات الأخيرة شعر بأن الحكومة أخذت شيئا منه، سلبته حقه، سلبته صوته الانتخابي، حيث اعتبر أن الدولة هي دولته، وجاء شخص على رأس الدولة وسرق حقه، هذه العلاقة بين المواطن والدولة غير موجودة عندنا، بل العكس، فالمرادف العراقي لهذا الموضوع هو النهب، وللأسف هذا ما تورط فيه غالبية السياسيين، يعني عندما سقطت الدولة وانهارت صارت هناك عملية نهب هائلة، وهذه الظاهرة غير مسبوقة، وعلى كثرة ما كتب العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي عن ظاهرة النهب فإنه لن يستطيع أن يتخيل ما حدث عام 2003، وهذه الظاهرة بدأت عام 1991 وكانت بسيطة قياسا بما حدث في 2003، وهذا يدلنا على صورة العلاقة بين المواطن والدولة، وأقول إن نتيجة أكثر من ثلاثين عاما من القمع ونظام البعث أثرت كثيرا على علاقة المواطن بالدولة.
وهذا أيضا له علاقة بالدستور، نحن لا نحترم دساتيرنا، ولنا تاريخ مخجل مع الدساتير حتى إننا اعتبرناها مجرد أوراق ولم نصدقها أنفسنا.. الدستور ورقة تكتبها اليوم وتمزقها في اليوم الثاني مثلما قال صدام حسين، فكيف لنا أن نؤمن بالدستور؟.. وهذا يعني أن نفقد ثقتنا بالدستور، مما أثر على مفهومنا للمواطن المرتبط مع دولته، والدولة هي ليست دينية ولا علمانية ولا عربية عامة أو إسلامية بل هي عراقية، ويجب خلق الهوية وعلاقة المواطن بدولته من خلال الدستور.
* هل تعتقد أن الدستور وحده يربط المواطن بدولته، فهناك دول بلا دساتير؟
- لا، هناك جانب آخر ومهم، هو أن الدولة النفطية دمرتنا وخلقت اتكالية غير طبيعية في المجتمع. الدولة صارت غير مرتبطة بالمواطن، فعندما لا يدفع المواطن ضرائب، والدولة تشعر بأنها منفصلة عنه لأنها ليست بحاجة له وأنها تتسلم موارد هائلة من واردات النفط، هنا تنتهي علاقتها بالمواطن والعكس صحيح. فالحكومة تحولت إلى دكان لبيع النفط، وإيقاعها السياسي يصعد ويهبط طبقا لسعر برميل النفط، لهذا هي لا تخشى محاسبة المواطن الذي لا يسهم في رفد اقتصاد الدولة بشكل مؤثر.
* أنشأتم مؤسسة «الذاكرة العراقية» للحفاظ على كل أرشيف معاناة المواطن، وكذلك جزء كبير من الأرشيف الثقافي للدولة العراقية السابق.. ماذا كان هدفكم من ذلك؟
- عندما عدت للعراق في 3003 قمنا بمشروع لتأسيس مؤسسة «الذاكرة العراقية» لغرض الاعتراف بأن هذا الماضي مهما كان سيئا فهو ماضينا، ونحن جزء منه ولا نتنكر له، فعندما ننكره نتمرض، ويصير هناك انفصال نفسي في المجتمع أشبه بالشيزوفرينيا، ثم إن هذا الماضي موجود سواء نكرته أم لا، هذا الذي حدث، المجتمع تعرض لحالة الانفصال، ونجد أن الاعتراف بما حدث في السابق هو الحل، لا نلقي كل شيء على صدام حسين، ومن هو صدام حسين؟ إنسان عراقي نحن الذين جعلنا منه ما كان عليه.. فمن الذي انخرط في جيوشه وفي مؤسساته الأمنية؟ ومن الذي تلقى الأموال منه؟ نحن العراقيين، نحن من صنع صدام حسين، الاعتراف بهذه الأمور هو بداية المواطنة، والبداية الصحيحة، وبداية التغيير الجذري في الشخصية العراقية، وبهذا الاعتراف ومعايشته سيبني الإنسان العراقي نفسه بعيدا عن الكراهية والحقد،مثلما يحدث في عمليات الاجتثاث (البعث) التي هي عملية أشبه بسلب الشعب العراقي من مسؤوليته، هناك أشخاص مسؤولون عن جرائم تجب محاكمتهم. ولأتحدث عن تجربة شخصية، فأنا عندما انخرطت في المقاومة الفلسطينية وناديت بثورة عربية اشتراكية، وجدت في النهاية أن هذا ما كان يردده حزب البعث هو ما أردده، يعني أنا رددت ما نادى به البعث نفسه من غير أن تكون لي أدنى علاقة بالبعث، لكن هذه أفكار جيلي، جيل السبعينات، إذن حتى أنا مسؤول عما حدث في العراق وشعرت بخطئي مع الحرب اللبنانية والحرب العراقية الإيرانية والثورة الإيرانية.
* أنت زرت إسرائيل؟
- نعم زرتها أربع مرات، وأول مرة كانت بدعوة من الجامعة العبرية مرة عام 1990 بعد دخول صدام إلى الكويت، وألقيت محاضرة أمام أكثر من 500 من الحضور، ودعيت مرات عدة، ومنحت من قبل الجامعة العبرية شهادة دكتوراه شرفية، وسأكرر زياراتي لإسرائيل، حالي حال جميع المثقفين الفلسطينيين الذين يزورون إسرائيل باستمرار ويتحدثون هناك اللغة العبرية. مشكلتنا مع إسرائيل بسبب ما كنا نسميه بالقضية العربية أو القضية الفلسطينية، وهذا لا يعني أنني انقطعت عن القضية الفلسطينية، أو أنني لا أتعاطف أو ألا أكون مع القضية الفلسطينية، وآخر رواية كتبتها «الصخرة»التي ترجمت إلى لغات عدة منها التركية، لكن دور النشر العربية تخشى ترجمتها أو نشرها باللغة العربية، هي عبارة عن رجوع شخصي إلى القضية الفلسطينية وإلى أساس القضية، وهو رواية تاريخية لا علاقة لها بالسياسة وتتحدث عن علاقة المسلمين باليهود من خلال موضوع قصة بناء قبة الصخرة، وهنا أعود إلى اختصاصي كمعماري أيضا، وعن قصة بناء أول نصب معماري إسلامي. كبناء وعمارة وبناء وزخرفة، وأن تتحول إلى رمز، وعن سبب اختيار عمر بن الخطاب لبناء هذا المسجد في القدس وليس في الجزيرة العربية، ولماذا فوق هذه الصخرة بالذات، وكل المعلومات التي اعتمدت عليها هي من مصادر إسلامية بحتة. و«الغارديان» اختارت هذه الرواية ضمن أفضل عشر روايات باللغة الانجليزية عن الشرق الأوسط صدرت مؤخرا. ومن رشحها هو الدكتور ساري نصيبة رئيس جامعة القدس وهو ابن عائلة مقدسية عريقة.
علاقتنا بإسرائيل كعرب اليوم تحتاج إلى إعادة نظر، وأنا ذهبت إلى إسرائيل لأنني لا أنطلق بعلاقتي معهم من باب أنني لا أريد أن أسمعهم صوتي أو أدير ظهري لهم، أو أنني أخشى أن أتحدث إليهم، مع كل انتقاداتي لنظامهم، ماذا يعني أننا لا نعترف بهم وهي دولة عظمى في المنطقة؟ بل يجب أن أذهب إليهم وأتحدث معهم. وفي الوقت الذي يذهب الفلسطينيون إلى إسرائيل ويتحدثون العبرية هناك، يستنكرون علي أنا العراقي الذهاب إلى هناك وإسماعهم صوتي وآرائي، وأنا تقصدت كسر الحاجز الموجود في مخيلتنا العربية وفي مخيلتي أنا.
* باعتقادك.. من الأكثر خطورة على العراق، إسرائيل أم إيران؟
- بلا شك إيران. والعقل العربي اليوم لا يفهم هذا المنطق.
* أنت كنت متحمسا لدخول القوات الأميركية إلى العراق، وأنت من قلت إن العراقيين سوف يستقبلون هذه القوات بالورود.. ماذا عن رأيك الآن؟
- نعم أنا قلت ذلك. دعني أشرح هذا الموضوع، كيف يمكن التعامل مع ظرف شاذ لا يمكن أن يتكرر مثل دخول قوة عظمى إلى بلدك؟ كانت فرصة ذهبية تنطوي على مخاطر كبيرة، لكن على أساس الـ5% من فرصة التغيير التي تحدثت عنها سابقا، قلت إنه من الممكن التعامل مع هذه الفرصة الذهبية بطريقة يستفيد منها العراق، أو ربما يتعرض للمخاطر. كان يجب أن تكون حساباتنا الأولية صحيحة، وأنا لا أتحدث عن مستوى الناس البسطاء، والحقيقة أن غالبية العراقيين فرحوا بدخول القوات الأميركية، خاصة في الأشهر الأولى. ونحن بنينا تصوراتنا على ضوء المشاعر التي أبداها العراقيون عام 1991 خلال الانتفاضة إزاء الأميركان وإمكانية دخولهم لتغيير النظام، حتى إنهم كانوا يصفقون للطائرات الأميركية من فوق سطوح بيوتهم. الشعب العراقي انتفض رفضا للنظام الذي يحكمهم وليس رفضا لدخول القوات الأجنبية إلى بلدهم.. وأنا عندما قلت لجورج بوش إن العراقيين سوف يرحبون بكم لم أكن على خطأ، لكنني لم آخذ بنظر الاعتبار رد فعل الناس على تعامل صدام حسين مع الانتفاضة، ومعاقبة الناس على مدى 13 سنة، وخيانة الأميركيين للعراقيين عام 1991، وقت ذاك عندما لم يتدخلوا لمناصرة الشعب في تغيير النظام كان الشعب العراقي هو الضحية، وأعني جنوب العراق وليس الأكراد. وما حدث في 2003 ونحن الذين كنا نعمل من أجل إقناع الحكومة الأميركية بالعمل من أجل تغيير النظام، أننا كنا نعرف أن الأميركان جادون هذه المرة في خططهم لإزاحة صدام حسين، وكان من حق العراقي ألا يثق بالأميركيين، وكان هناك شك عراقي في النوايا الأميركية حتى بعد أشهر من الاحتلال، حيث بدأت المشكلات، تضاف إليها الأخطاء التاريخية التي ارتكبها الأميركان الذين لم يتركوا، كقوة تحتل بلدا، أي خطأ يمكن ارتكابه إلا وارتكبوه، وفي أول سنة خاصة. وأنا انسحبت مما قلته لبوش، وتمنيت لو أنني لم أقل ما قلته، ويا ليتني كنت شاعرا بهذه النقمة الموجودة لدى العراقيين ومخاوفهم الحقيقية التي لم أكن أفهمها وفهمتها اليوم.
* هل أنت نادم على ما حدث عام 2003؟
- لا أستطيع القول بأنني نادم. ولو أنني في أعماقي أعرف أنه كانت هناك طريقة أخرى لإزاحة نظام صدام حسين، كيف لنا أن نغير التاريخ أو نعود بالأحداث؟
الذي أنا نادم عليه هو أنني أقنعت نفسي بأن هناك شخصيات كانت في المعارضة العراقية قادرة على التغيير، وهذا لم يحدث، بل على العكس انتكس هؤلاء. أنا جازفت وعملت وقلت إنه يمكن أن يحدث شيء، ولكن كان الخطأ في سوء تقييم قابلية مجموعة من الأشخاص لأن يخلقوا التغيير، وصارت ظروف كان يمكن أن تدلني على نتائج الأمور، لكنني قلت مع ذلك إنه يمكن أن يصير تغيير. مثلا أن نظام المحاصصة الذي ينتقدونه اليوم كان قد بدأ في المعارضة وفي المؤتمر الوطني بالذات عام 1992، وفي مؤتمر لندن عام 2002، وقد حاربته منذ البداية. لقد اخترت المعارضة العراقية والشريحة السياسية التي خرجت فيما بعد، من الطبقة الحاكمة ومجموعة المستشارين والحكومة، وهي أسماء جديدة لا تتمتع بأي تجربة إدارية وحتى سياسية، لا تعرف اتخاذ القرار أو حتى تنفيذ القرارات. هذه الشريحة بدلا من أن تفتح المجالات أمام الكفاءات العراقية التي في الخارج لتسهم بالبناء، فعلت العكس.
* هل أنت متفائل بالمستقبل؟
- لا.. أنا غير متفائل، وفي الوقت نفسه أقول إن الأوضاع لن تنهار، وهذا يعتمد على مستوى العنف الذي سيدخل إلى الساحة، إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه بعد الانتخابات.
<A class=postlink href="http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11433&article=561516&feature=" target=_blank>
http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11433&article=561516&feature