أنا كاتب المقال ، أكملت من العمر 55 عاما ولم اسمع طيلة هذا العمر عراقيا واحدا يصف المسيحيين العراقيين إلا بعبارات الرضا والتقدير والإعجاب والثقة بهم. سمعت كلمة مسيحي أول مرة في حياتي في اليوم الدراسي الأول في الصف الأول الابتدائي في قرية العمرانية إحدى قرى قضاء المقدادية في محافظة ديالى ، عندما رافقني والدي في ذلك اليوم إلى المدرسة ودخلت معه إلى غرفة مدير المدرسة الأستاذ نعيم محسن وكان صديق والدي ورحب به ، وقال لدينا شعبتين في الصف الأول الابتدائي ، الأولى يدرس بها معلم مسيحي من بغداد اسمه فرنسيس لاوند ، والأخرى يدرس بها معلم من مدينة المقدادية في محافظة ديالى اسمه خالد عمران مصلوخ ، وترك المدير لوالدي أن يسجلني في الشعبة التي يختارها تقديرا كما يبدو للعلاقة التي تربطه به ، لم يتأخر والدي في الاختيار، فاختار على الفور الشعبة التي يدرس بها الأستاذ فرنسيس لاوند ، فنهض المدير ورافق والدي وأوصلاني إلى الصف ، وقال المدير للأستاذ فرنسيس ( طالب جديد ) فرحب بي وأجلسني في أول رحلة ، عند عودتي إلى البيت سالت والدي قائلا (بابا شنو يعني مسيحي ؟ ) فأجابني ( بابا يعني ادمي وصادك ويفتهم ) وفعلا كان أستاذي الأول مثلا رائعا للمعلم الحريص والمربي الفاضل وله فضل كبير في مجمل حياتي الدراسية اللاحقة ، كان يتابعنا يوميا ويهتم بنا واحدا واحدا ، وكان طبيبنا عندما نمرض ، لديه صيدلية في الصف فيها العديد من قناني الشرابات المضادة للالتهابات وأنواع العلاجات الخاصة بالأطفال، يقلم لنا اضافرنا ،يمشط لنا شعرنا ، يعلمنا كيف نهتم بنظافة أجسامنا وكيف نتناول غذائنا ، كان يصنع لنا وسائل إيضاح من مواد طينية ، يعلمنا كيف نمسك بالقلم ، وكيف نرسم الحروف، حبب ألينا القول الصادق وفضيلة الاعتراف بالخطأ ، ومنذ ذلك اليوم إلى اليوم ، وكلما التقي بأحد الإخوة المسيحيين أتذكر معلمي ووصف والدي له فاشعر باحترام شديد لعموم المسيحيين العراقيين واثق بهم ثقة كبيرة مقدما وقبل أن أتعامل معهم . كل عراقي سكن أو تعامل أو درس مع المسيحيين يدرك تماما إنهم في الأعم الأغلب رموز للفضيلة ،مهذبون طيبون متسامحون محبون للآخر ، شديدوا الاحترام والحرص على مشاعر الآخرين ، بسطاء صادقون لا يميلون إلى التهريج والفوضى ، نظيفة ضمائرهم وقلوبهم وجيوبهم وبيوتهم ، لا مكان عندهم للأحقاد والضغائن والكذب والنفاق والرذيلة . لا يسرقون ولا يكذبون ولا يخدعون ولا يفسدون . تطمئن لهم النفوس وتنفتح لهم السرائر ، لا يلدغونك من الخلف ولا يضمرون لك السوء ، انيقون ، مدنيون ، متحضرون ،علميون ، عقلانيون هادئون متوازنون ومتزنون، مسالمون ومنفتحون .لم اسمع من احدهم نقدا أو قدحا أو استهانة بالإسلام أو المسلمين . إنهم سكان العراق الأصليين بلا منازع فهم أحفاد السريان والكلدانيين والمناذرة ، وطنيون متمسكون بوطنهم وبوطنيتهم ، إنهم جسور للنهضة وقاطرة الحداثة ورموز الإبداع ، برز منهم مبدعون في شتى مجالات الحياة، أطباء كبار مثل زهير قصير وجلبرت توما ووليد غزالة وشوقي غزالة وفكتور شماس وسعد شماس وأنور برنو طي والقائمة تطول .برز منهم مؤرخون كبار مثل مجيد خدوري والأخوين كوركيس وسر كيس وميخائيل عواد وجرجيس فتح الله وصحفيون كبار مثل توفيق السمعاني وروفائيل بطي ومنهم لغويون انستاس الكرملي والدكتور متي عقراوي ومنهم اثاريون فؤاد سفر وبهنام أبو الصوف ومنهم موسيقيون منير بشير وجميل بشير ورائد جورج ومنهم مخرجون عوني كرومي وعمانوئيل رسام . يقول المفكر العراقي المعروف سيار الجميل في مقالة له حول مسيحيي العراق نشرت في عام 2004 ( يمكن اعتبار العراق في مدنه الحضرية الأساسية: الموصل وبغداد والبصرة وكركوك ، هي التي يجتمع فيها المسيحيون العراقيون مع عشرات القرى والأديرة التي تقع على الضفة اليسرى من دجلة قرب الموصل.. وتكاد تكون مدينة الموصل مركزا حقيقيا للملل والمذاهب المسيحية القديمة في الشرق إذ ينتشر اليعاقبة والكلدان الكاثوليك والارثودكس والسريان الارثودكس وهناك كل من الآثوريين ( نسبة إلى جبل أثور ) والتيارية والأرمن.. وكل من هذه الملل يتبع كنيسته وتقاليده القديمة التي لم تحاربها أبدا سلاسل من الفاتحين المسلمين ولا الخلفاء الراشدين أو الأمويين أو العباسيين ولا الخانات المغول والتتاريين ولا الاتابكة ولا السلاطين البويهيين أو السلاجقة أو العثمانيين )