اصول اللعبة السياسية / سياسة قلب الطاولة غالب حسن الشابندر
**************************** 1: سبق، ومن على منبر إيلاف، كتبت عن أكثر من لعبة سياسية، لعبة حافة الهاوية، لعبة خلط الاورا ق، لعبة رفع سقف المطالب، وغيرها، وكنت أجهد أن استخلص فكرة عامة عن معنى اللعبة، وذلك من خلال استقراء بعض السياقات والمعطيات التي يستخدم فيها هذا التعبير، وأفضل هنا كلمة تعبير وليس كلمة مفهوم أو مصطلح، لان مادة الاستعمال ليست مطروحة مفهوما أو مصطلحا، حتى في المجال الإعلا مي. ، ومادة العمل التي لجأت إليها في سبيل اكتشاف المقصود بهذا التعبير هو الخطاب السياسي المتداول في وسائل الاعلام بشكل عام، المقالة الصحفية، و التصريح السياسي، والسجال السياسي. قلبَ الطاولة! كثيرا ما نصادف هذا (التعبير) في الخطاب السياسي، تحليلاً... نقداً... بحثا، وربما أحيانا نقرأ بصريح العبارة (سياسة قلب الطاولة)، وربما نقرا بل وكثيرا ما نقرا على سبيل المثال: رئيس الحكومةُ قلبَ الطاولة على المعارضة، أو نقرا على سبيل المثال أيضا: المعارضة قلبت الطاولة على الحكومة، أو نقرا على سبيل المثال أيضا: الوزيرُ قلبَ الطاولة على حكومته، بل نجد هذا الاستعمال في بعض الاحيان يسري إلى المجالات الرياضية والاقتصادية وغيرها، الفريق الفلاني قلب الطاولة على الفريق الفلاني،والفريق هنا رياضي! أكثر من هذا... نقرا في بعض الاحيان بل في كثير من الاحيان: (اتَّبعَ سياسة قلب الطاولة) أو (والمطلوب سياسة قلب الطاولة)، أو (لابد من قلب الطاولة في النتيجة النهائية)، مما يولد في الذهن احتمال أن التعبير يحمل دلالة معينة ولو في حدود ما، لأن مثل هذا الاستخدم غير المُوضَّح وغير المُبيَّن في اثناء الاستعمال إنما يفيد أو يفيد بأن هناك اتفاقاً مسبقاً على المُراد منه، أي هو ذو حمولة متفق عليها أو شبه متفق عليها،ولكن ليس الأمر بهذه الحدية، فإن هناك اكثر من استخدام أو بالاحرى اكثر من دلالة لهذا الاستعمال في الخطاب السياسي وغيره، ولكن دلالات متقاربة إلى حد كبير، وسبب هذا التقارب في الدلالات وجود قواعد مشتركة تقريبا. لعبة قلبْ الطاولة ليس بين معارضة وحكومة وحسب، ليس بين حزب ومنافسه فقط، ليس بين جهتين منفصلتين مستقلتين حصرا، بل قد تجري داخل الحزب الواحد، وقد تجري بين فريقين كانا متفقين متوافقين، وقد تجري داخل تحالفين، فهي لعبة شبه شاملة، رغم بعض التباين أو التفاوت في الاستعمال، اي في الدلالة بشكل عام.
2: (قلبُ الطاولة) أو سياسة قلب الطاولة قد تفيد موقفا جديدا من قضية معينة كانت محل اتفاق أو توافق أو تراضي أو تسالم، بين طرفي اللعبة كأن،دولة واخرى، حكومة ومعارضة، حزب وآخر حليفا أم منافسا، وهكذا، لا يمكن حصر عناصر اللعبة هنا بطبيعة الحال، هذا الاتفاق أو التوافق أو التراضي أو التسالم ــ مهما كانت الصيغة والصورة المفترضة ـ قد تكون عن إرادة مُسبقة،قد تكون عفوية،أو قد تكون نتيجة ضغوط خارجية،لا يمكن هنا ايضا حصر الا سباب والعوامل والظروف، الموضوع هو الآخر مختلف أيضا، فهو قد يكون اتفاقية أمنية بين دولة وأخرى، وقد يكون معاهدة اقتصادية بين دولة وثانية، أو كأن يكون تشريعا اتفق عليه بين البرمان والحكومة، وقد يكون موقفا مشتركا بين حزبين معارضين تجاه الحكومة ــ وهكذا ــ
3: في خضم الصراع على المصلحة والقوة قد يكون هناك اتفاق أو تسالم أو توافق ـ مهما كانت الصيغة ـ على اتفاقية أمنية أو تسعيرة كمركية أو مشروع حرب على دولة جارة... وذلك بين عناصر اللعبة كلا أو بعضا، ولكن على حين غرّة، بشكل مفاجيء، سريع، مباغت، قد ينفرد عنصر ما ويعلن تمرده على كل ذلك، يرفض ما كان محل اتفاق او تسالم أ وتوافق.... الخطاب السياسي يسمي هذا الموقف الجديد أو يصفه بـ (قلب الطاولة)، فنقرأ مثلا: (الحزب الفلاني قلب الطاولة على نظرائه)، ويبدو أن هذا التعبير يفيد الموقف المفاجيء المغاير، وربما يفيد من جهة بعيدة إنه موقف يحرج الآخر، ويربكه، وربما يفيد أن الموقف المفاجيء يهدف إلى تخريب أو تأجيل ما تم الامضاء عليه بصورة من الصور أو شكل من الأشكال. تحديد دلالة التعبير بطبيعة الحال تتوقف على فهم موضوع القلب، وسياقات حصوله، كذلك على قرائن الاستعمال من ناحية لغوية فضلا عن القرائن الحالية. ولكن عموما ينبيء عن موقف جديد يتسم بالمفاجأة والتغير بالهوية.
3: في خضم الصراع على المصلحة والقوة قد يدفع طرف ـ الاول ــ في اللعبة السياسية طرفا آخر ـ الثاني ـ باتجاه موقف معين... محدَّد... مسمَّى... بسبب إن هذا الموقف ينعكس سلبيا على الطرف الثاني، وهذا بدوره قد يؤدي إلى مكاسب لصالح الطرف الأول بشكل وآخر، بصرف النظر عن طبيعة هذه المكاسب، وربما يجيِّش الطرف الأول امكانات ضخمة من أجل دفع الطرف الثاني باتجاه ذلك الموقف، بل قد يكون الرهان على هذه السياسة كبيرا، وربما يكون الرهان صحيحا في الواقع، أي له حظ من الواقعية، ولكن وبشكل مفاجيء قد يتبنى الطرف الثاني الموقف الذي يُرادُ له من قبل الطرف الأول وبقوة، ومن دون مقدمات سابقة ظاهرة في العلن، هنا وفي هذه الحالة يُعبِّر الخطاب السياسي عن هذه المفارقة بـ (قلب الطاولة)! لقد قلبَ رئيسُ الوزراء الطاولة على أعدائه! كيف؟ لقد تبنى رئيس الوزراء ـ الطرف الثاني ــ ذات الموقف الذي كان المنافس ـ الطرف الاول ــ يخطط لدفه باتجاهه، وهي حقا مفاجاة، مفاجأة ربما تصدم كثيراً من الناس، كذلك ومن باب اولى الطرف الذي كان يخطط للعملية، أعداء الرئيس في المثال، وربما تصدم دولا، واحزابا، ومنظمات، حقا هناك قلب للطاولة، وقلب كامل، وهي مفاجأة سوف تربك الطرف المقابل، وربما تتسبب في توجيه ضربة موجعة لمصالحه وخططه واهدافه وستراتيجته،تكلفه كثيرا، وليس سرا إن قلب الطاولة هنا لم يات جزافا، بل جاء بعد أن خطط الطرف الثاني تفادي كل أو معظم ما يمكن أن يترتب على الموقف الجديد من سلبية،بل قد يكون خطط لتحويل المنسوب السلبي لـ (قلب الطاولة) هنا إلى منسوب ايجابي، فهنا نحن بين يدي قلب طاولة بامتياز، مصادرةٌ كاملةٌ لرهان، وتحويلُ هزيمةٍ إلى نصر ونصرٍ إلى هزيمة، فهي لعبة معقدة، وتكمن وراءها اسرار، وصبر، وحرب معلومات... وذلك حتى إذا جاءت متأخرة،حتى لو كان الطرف الثاني جاد في موقفه الأول، أي جاد في رفض ما كان يخطط له الطرف الاول، ولكن يغير المعادلة، ويقلب الطاولة بعد أن جهز كل متطلبات الموقف الجديد.
4: إن سياسة أو لعبة قلب الطاولة كما يبدو تعتمد المفاجاة، المفاجأة غير المحسوبة عند الكثيرين فيما هي مدروسة بدقة لدى اللاعب، لدى الطرف الذي أريد أن تُمَّر براسه اللعبة، يحول مسار اللعبة، يغير قواعدها، تصدم، وهي إنقلابية في الموقف، راسا على عقب، مفارقة، مسافة كبيرة بين الرفض والقبول، بين القبول والرفض، تضيِّع على بطل المحاولة بصيغتها الاولى الكثير من المكاسب، وقد تلجم خطره، وتؤخر حركته، تربك التخطيط المنافس، تغير حركة المسار السياسي. هناك اتفاق سياسي عام، هناك شبه اتفاق، كل عناصر اللعبة متفقة، ولكن على حين غرّة يخرج عنصر يرفض، يتمرد، يعلن موقفا جديدا، موقفا مغايرا، بهذه الطريقة يكون قد اربك الواقع، ربما يؤدي إلى خلط الأوراق، أن هذا العنصر قلب الطا ولة، قلبها رأسا على عقب، هل ياتي ذلك صدفة؟ لا بطبيعة الحال... ولكن ليس كل قلب للطاولة يؤتي ثماره... فذلك يحتاج إلى فن دقيق، وظرف ملا ئم، وتقدير محكم لإمكانات الطرف المقابل، وعكس ذلك قد تكون سياسة قلب الطاولة وبالا على صاحبها.