حسن الناصر
الحوار المتمدن -
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
********************
بدءاً ليس من الإنصاف بمكان إجراء هكذا مقارنة بين الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم وشخص المالكي كون مجرد المقارنة إضرار بتراث قاسم الكبير وكما قال الشاعر :
الم ترى ان السيف يزرى بقدره إذا قيل ان السيف أمضى من العصا
لكن الخوض في السمات العامة للرجلين يعطينا تصور واضح عن البون الشاسع بين مفهوم الوطنية والإخلاص ونكران الذات ومراعاة حقوق الفقراء لحقبتين زمنيتين بل قد يترشح
عنها استدلال لمستوى الانحدار الأخلاقي والقيمي لسياسييّ اليوم مقارنة بسياسييّ الحقبة الملكية وعهد المرحوم عبد الكريم قاسم وبالتالي سنفهم السلوك العام الذي يحرك الكادر الإداري للدولة العراقية بحقبتيها الماضية والحالية .
إننا ندرك ان عامل الزمن محركاً للأحداث بالسلب او الإيجاب فقد يوجد او يمحق سلوكية او سمة عامة يتصف بها مجتمع ما او طائفة او قومية او شريحة اجتماعية وبالتالي فان جميع أمم الأرض تقريباً تتطور لديها مفاهيم الإدارة بمرور الزمن بما يتواءم ومصلحة مواطنيها الا في العراق الحديث الذي يشهد نكوصاً وتراجعاً مشهوداً منذ تأسيسه كمملكة عام 1921 وحتى الآن حيث وصل الى ذروة التردي والانحدار .
وعودة الى عنوان المقال وبعيداً عن الظروف الموضوعية التي أحاطت بالرجلين والتي لها دور بالتأكيد في السلوك السياسي الذي اتصف به كل منهما التي تتشابه في بعضها حيث تولى كلاهما منصب رئاسة الوزراء تحت هيئة فخرية من ثلاثة أشخاص سميت في عهد قاسم بمجلس السيادة وكانت برئاسة الفريق نجيب الربيعي الذي يمثل السنة وعضوية محمد مهدي كبة ممثلاً للشيعة وخالد النقشبندي ممثلاً للكرد ومثيلتها في عهد المالكي تحت تسمية مجلس الرئاسة , كما أحاط العراق جوار إقليمي معادي لتجربة قاسم مثل ما نجده الآن معادي للتجربة السياسية الحالية حيث ناصبته العداء كل من مصر الناصرية والأردن الهاشمية والسعودية البريطانية الا انه لم يكن لقاسم حينها سند دولي ضخم كما يحضى به المالكي حالياً ولم يكن طوع بنانه ميزانية جبارة كمثيلتها الآن لكنه كان يمتلك سلاحاً أنجع يتدرع به للملمات هو شعوره الوطني الفذ وسمات العدل والنبل وأنصاف الفقراء الذين يمثلون الثقل السكاني الأكبر وهذا ما افتقر ويفتقر له كل حكام العراق الذين خلفوه .
ان أجراء استقراء بسيط لمدارات الزعيم الخالد عبد الكريم قاسم ورئيس الوزراء الحالي نوري المالكي ترشح لدينا مجمل معطيات نوجزها بالاتي :
1. لم يكن قاسم منتمياً لأي تنظيم سياسي كونه فوق الميول والاتجاهات وكان خطه العام وطنياً محضاً أما المالكي فهو كما معلوم أمين عام حزب الدعوة وله أجندة حزبية واضحة وطالما كان نقابياً مع الفاسدين من كوادر حزبه من الوزراء ووكلاءهم الذين تفجرت ضدهم فضائح الفساد وسرقة المال العام حيث نافح ودافع عنهم بكل أدوات وصلاحيات السلطة.
2. تدرج قاسم في المسلك الوظيفي العسكري من رتبة ملازم حتى رتبة زعيم (عميد) ركن وقد منحته حرفة العسكر كضابط كبير خبرة إدارية جيدة بانت ملامحها عندما أصبح رئيساً للوزراء في حين لم يتبوء المالكي أي منصب إداري سابق سوى وظيفة بسيطة في تربية كربلاء ولفترة زمنية قصيرة .
3. كان قاسم ابن مدينة تدرج في رحابها المتلون بأطياف وملل مختلفة فتسامت ذاته عن أي معترك طائفي او عنصري أو فئوي , اما المالكي فابن قرية ومع احترامي وإجلالي لسكان القرى الا ان التجربة أثبتت فشلهم المريع في إدارة أي هرم مؤسساتي فكيف بإدارة بلد صعب المراس ومزاجه الشعبي متقلب مثل العراق كون ابن القرية يعكس سلوكيات بيئته من إيثار الأهل والأقرباء ومحاباة المتشفعين وتمديد أعراف العشيرة لتغطي وتبتلع أعراف الدولة كما يتصفون بتشبث قاتل بالسلطة كونها تمثل المال والجاه وهو ديدن الإنسان القروي الذي يقدس القوة ويبجل الزعامة وتجارب العراق في حكم أبناء القرى مريرة كون اغلب من هيمن على السلطة عقب عبد الكريم قاسم كان من هذه الشريحة لذا تراجع العراق ووصل الى هذا المنزلق الخطير .
4. كان لقاسم راتبين الأول عن منصبه كرئيس وزراء تنازل عنه للخزينة العراقية والثاني كضابط جيش كان يتبرع بجله للفقراء اما المالكي فالمتواتر الذي اقره اقرب مقربيه في إحدى اللقاءات المتلفزة ان له أربع رواتب ثلاث منها تقاعدية عن عمله في الجمعية الوطنية السابقة ومجلس الحكم ومنصب ثالث لا تسعفني ذاكرتي باستحضاره والراتب الرابع عن منصبه كرئيس وزراء الذي يقدر بخمسين ألف دولار شهرياً عدا ميزانية ضخمة تقيد تحت بند المنافع الاجتماعية وميزانية أخرى كقائد عام للقوات المسلحة.
5. لم يمتلك قاسم سكن خاص به وكان مستأجراً داراً حكومية بسيطة بمبلغ 15 دينار شهرياً يدفعها من راتبه الشهري اما قطعة الأرض الوحيدة التي يمتلكها فقد تبرع بها لتبنى عليها مدرسة للأطفال , اما المالكي فيسكن احد قصور المنطقة الخضراء ولا يؤدي عنها بدل إيجار او تكاليف الصرفيات العامة كما يمتلك عدة عقارات نوه عنها الإعلام بشكل مختصر حينما كشف المالكي عن ذمته المالية أمام رئيس هيئة النزاهة عدا المنقول من نقد مالي او حلي ذهبية ومجوهرات والتي دخلت ذمته المالية بالتأكيد بعد عام 2003 .
6. كان قاسم بسيطاً في حياته اليومية ولا يعيش حياة الترف التي يمتاز بها زعماء العرب والشرق الأوسط ويرتدي البزة العسكرية التي جاء بها للحكم وغادر بها للقاء ربه وكان يتناول غداءه ب(سفر طاس) مطبوخ في بيت شقيقه حامد وقيل ان جارته الارمنية أشفقت عليه كونه عازب وبدأت تطبخ له أحياناً الطعام وترسله اليه,اما المالكي فيرتدي بدلات وأربطة عنق من أفخم الماركات العالمية ولا نعلم نوع وصنف الأطعمة والولائم التي يتناولها لكن شهود عيان حضروا حفلة زفاف ابنه احمد وشاهدوا سيارات الدفع الرباعي تترنح من ثقل مناسف (المسلّفن) بما لذ وطاب من لحوم حمراء وبيضاء شبهها البعض بحفلة زفاف المأمون العباسي على بوران بنت الحسن بن سهل.
7. لم يتزوج قاسم ومات عزباً وبلا ذرية فقد تزوج قضية العراق الذي منحه حبه وكيانه واتصف بنكران ذات نادر لذا تجده يحبو على أبناء العراق وكأنه أب حقيقي لهم ,بالمقابل المالكي متزوج وله عائلة ترفل بالعز والدلال وتتنعم بمزايا ومباهج السلطة فهذا صهره زوج إسراء له حظوة لا يدانيها شئ وصهره الآخر (ياسر صخيل) احد أقطاب حماية المالكي الذي وصل جنوحه درجة ان يصفع سفير العراق في واشنطن في حادثة جعلت من الدبلوماسية العراقية موضع تندر وسخرية في البيت الأبيض وابنه احمد يتجول في دهاليز الوزارات العراقية يتمم الصفقات ويرسي العطاءات .
8. كان قاسم دائم التجوال في مناطق الفقراء لتفقد أوضاعهم المعاشية وتخفيف آلامهم بسبب العوز والفاقة في حين لم يؤشر عن المالكي أي زيارة ميدانية لتفقد أحوال الناس المزرية وكانت زياراته فقط لتحشيد الأصوات الانتخابية لقائمته , ولم يؤشر على قاسم سفره للخارج بوفد حكومي في حين لم يستبقي المالكي دولة ـ حتى القليلة الشأن عالمياً ـ دون ان يصلها في رحلة استجمام وسياحة اكثر مما ان تكون لمغزى سياسي .
9. لم يكن لقاسم حماية في بداية عهده لكن بعد محاولة اغتياله من قبل البعثيين عام 1959 بدأت تصحبه سيارة واحدة فيها حفنة من الجند اما المالكي فيصحبه أسطول سيارات مصفحة ورباعية الدفع وتحمل عناصر حماية عبثية وغير منضبطة يصل بهم الأمر ان يصفعوا سفير العراق في الولايات المتحدة لدى زيارة المالكي للبيت الأبيض ـ كما أشرنا له أعلاه ـ .
10. انجازات قاسم في فترة حكمه كانت هائلة قياساً وضعف الإمكانيات المادية فقد انشأ أحياءا ومدناً سكنية كاملة مثل الثورة والشعلة والألف دار وجميلة وزيونة والحرية عدا الأحياء التي تناثرت في باقي المحافظات لتقي عوائل الفقراء ومحدودي الدخل غائلة التشرد إضافة الى قطع أراضي لموظفي الدولة في القطاعين العسكري والمدني كما انشأ عدة مشاريع أخرى منها مدينة الطب وملعب الشعب وأنشأ عدة جسور في بغداد ومدن العراق الاخرى وشق قناة الجيش وخفض الأسعار عن المواد الغذائية ورفع رواتب الموظفين وأنجز عدة قوانين تنصف المرأة والطفل منها قانون الأحوال الشخصية رقم 88 لسنة 1959 وقانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958 الذي قضى على الإقطاع الذي كان يمتهن الفلاح ويستعبده واصدر قانون رقم 80 حرر بموجبه الثروة النفطية العراقية , بالمقابل لا نجد للمالكي أي انجاز يعتد به وحتى الأمن المزعوم الذي تبجح به لتحشيد أصوات الناخبين تبين بأنه هش ومعرض للتقويض بأية ساعة مع العرض ان اغلب انجازات الجانب الأمني كانت على عاتق الاميركان الذين كان لهم الدور الأكبر في كسب بعض الشخصيات والعشائر السنية وبالتالي ساهموا في دحر حاضنة الإرهاب المتمثلة بتنظيم القاعدة وباقي التنظيمات التكفيرية التي كانت تشل الحياة العامة في اغلب أنحاء العراق كما خطى المالكي خطوة باتجاه توزيع الأراضي لكن ليس لشريحة الفقراء او لصغار موظفي الدولة وإنما للوزراء ووكلائهم وأصحاب الدرجات الخاصة وعلى ضفاف نهر دجلة ولم يظهر بعهده مشروع واضح المعالم رغم الميزانية الهائلة التي كانت تحت تصرفه .
ختاماً أقول رحمك الله يا زعيم الشعب وابنه البار فقد أنجزت ما وعدت (واراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل) وغادرت الدنيا بلا تركة او ذرية او قبر يزار لكن مثواك في قلوب محبيك .